موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
الله سخاء.. فرنسيس الأسيزي ورهبنته والإسلام

إميل أمين - خاص أبونا :

في عالم تزداد فيه الصدامات القومية والعرقية، وفي أيام تكثر فيها المواجهات التي تصل إلى حد المجابهات المذهبية والدينية يبقى البحث في تاريخ فرنسيس الاسيزي، ذلك الصوفي المسيحي الإيطالي، لاسيما عبر رحلته التاريخية إلى مصر الكنانة في أوائل القرن الثالث عشر، وتحديداً 1219 أمر واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة.

والشاهد أنه في ظل عام الاحتفال بثمانمائة عام على زيارته التاريخية ولقاءه المصيري مع السلطان الكامل الأيوبي، وضمن فعاليات كثر أجادت الرهبنة الفرنسيكانية في مصر إعدادها، جاء إصدارها لهذا المؤلف الخلاق لمؤلفه "جان جوينوليه جوسيه"، ومن ترجمة الاستاذ القدير عبدالملك سامي عبدالملك، والذي يميط اللثام عما جرى تاريخيًا وبصورة موثقة بين السلطان والقديس، ويفتح لنا الطريق واسعًا، لندرك أن رحابة الابستمولوجيا تعلو علواً كبيراً على ضيق الايديولوجيا.

لماذا هذا الكتاب في مثل هذا التوقيت؟

الجواب نجده عند الأب "كمال لبيب" الخادم الإقليمي للرهبنة في مصر وفيه أن: "للكتابة روحانية، ولكل كاتب دعوة ورسالة، تلك الروحانية تساهم على طريقتها في حياة الفرد وبنائه، فالكتابة، والقراءة أيضاً، هما بحث عن الحقيقية والتعمق فيها، لذلك نتمسك بهما تمسكاً خاصاً.

يذكر الأب كمال بأن المجتمع في حاجة إلى كتاب، ويستحضر ما أشار إليه سعيد الذكر البابا يوحنا بولس في رسالته لأهل الفن، من أن المجتمع في حاجة أيضاً إلى علماء، وفنانين، وعمال، وأشخاص من كل المهن، وشهود للإيمان، ومعلمين، وآباء وأمهات، يضمنون نمو الشخص وتطور الجماعة، وهنا يبدو ما لجماعة الكتاب من موقع مميز في المشهد الثقافي الواسع، إذ يثرون التراث الثقافي لكل مجتمع، ويؤدون أيضاً خدمة إجتماعية لفائدة الخير العام.

في الذكرى المئوية الثامنة لزيارة القديس فرنسيس الاسيزي لمصر، ولقائه الذي اتسم بفن الحوار والتواصل والإصغاء، وتبادل الفكرة، والخبرة، ومد خيوط السلام مع الملك السلطان الكامل في مدينة دمياط سنة 1219م، يأتي هذا الكتاب لتعلمنا سطوره كيف لنا أن نتأمل في الأبهى جمالاً، الله تعالى، كما يعلمنا قديسنا المحبوب فرنسيس الاسيزي، المنشد والشاعر ذو الإحساس المرهف تجاه كلمة الله، وتجاه الإنسان والطبيعة وسائر المخلوقات، حتى يتثنى لنا عيش خبرة متجذرة من الأصالة الروحانية ونافذة إلى الواقع الأعمق في الإنسان والمجتمع، ولنتغذى سوياً بروح الإنجيل وخبرتنا الإيمانية، وروحانيتنا المسيحية.

والشاهد أن الكتاب وفي لغته الأصلية قد صدر بتقديم للأديب والروائي العالمي ألماني الجنسية "آمادوهمباطي" (1900–1991م)، والذي يكتب عن رؤيته لفرنسيس من عمق إيمانه كمسلم مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. يخبرنا الرجل أنه لبث منبهرًا دائمًا وأبدًا بمثالية فرنسيس ونموذجه المضيء عبر الأزمان، فقد تحلى فرنسيس بشجاعة الذهاب للآخر، شجاعة عبور المحيط المادي، ومحيط سوء التفاهم بين البشر في الوقت نفسه، لكي يصل إلى قلب الشعب الذي يقال عنه إنه عدو.

يلفت الإنتباه في قصة لقاء فرنسيس الصوفي المسيحي بالسلطان النافذ المسلم، أن الأول لم يفعل كما فعل آخرون في أماكن أخرى، فقد كان بإمكانه أن يهين عقيدة مضيفه الدينية، وهكذا نستطيع أن نقول إنه كان لينال سعفة الشهادة دون أدنى مشقة، لكنه حينئذ ما كان ليصبح القديس فرنسيس. بمعنى أنه كانت لديه النية للتبشير والهداية ولا يمكن لومه على ذلك، لأن هذا هو سلوك كل مؤمن مقتنع وإلا لا يكون مسيحيًا حق. مع ذلك لم يغلق عينيه عن قيم الإسلام الروحية، ولم يتخلى أبدًا عن احترامه للآخر، ومحبته الشخصيه له.

من أين للمرء أن يعرف عظمة فرنسيس الاسيزي السائر على الدروب صائحًا نائحًا... "الحب صار غير محبوب"؟ الثابت أن عظمة فرنسيس تقاس بالشجاعة الضرورية في ذلك العصر على التصرف كيفما تصرف هو، بتقديمه دائمًا للأمور كما ينبغي تقديمها، وهذا بالذات إحترامًا لتعليم السيد المسيح الذي أراد أن تحب قريبك كنفسك، إن لم يكن أكثر.

تصرف فرنسيس كان كبريق اشرق في وقت كانت فيه النفوس محتدمة بالغضب، يستحوذ عليها هاجس إدعاء أن الحق عندها وحدها، والرغبة في فرضه على الآخرين بكل وسيلة. لم يسع فرنسيس إلى الحصول على مميزات خاصة من الرب بل أن الامتياز الوحيد الذي سأله من الله تعالى هو أن لا يكون له أي إمتياز من عند الناس سوى أن يحترم الجميع وأن يهدي الناس بالمثل أكثر مما بالكلام.

قصة الاسيزي والسلطان تضرب لنا أروع المثل الذي يفيد بأن التجربة الحقيقية والمثال الحي، أقدر بكثير من أي كلام أو حديث، وأنفع وأرفع من أي مجادلات، ومن الإهانات، لأن الشهادة بالحياة الشخصية وحدها هي القادرة على غزو القلوب.

القصة في حد ذاتها درس بليغ ينبغي أن يقبله كافة المؤمنين في العالم، مهما كانت عقيدتهم الدينية، فالسلطان المسلم من جانبه أيضاً لم يكن أقل مجاملة إنسانياً وروحياً، فهي خاصية عباد الله، وبمقتضاها كل مؤمن هو أخ، وأمام تصرفات هاتين الشخصيتين النبيلتين الاستثنائيتين، كل مسيحي وكل مسلم، كل واحد من جانبه لابد وأن يفخر بهما.

أجمل ما يمكن أن يحمله هذا الكتاب من هدف ورسالة لاسيما في مواجهة أخطار عصرنا هو انه لا يمكن للمؤمنين من مختلف الأديان أن يستسلموا لرفاهية معارضة بعضهم البعض في مجادلات عقيمة ومناقشات لا طائل من وراءها. لم يعد هذا زمناً مناسباً لمحاولات الهداية المنظمة من جانب أو من آخر، ولكن المناسب هو التلاقي.

اليوم علينا أن لا نركز على ما يفصلنا، بل على ما هو مشترك بيننا، على إحترام هوية كل فرد، لأن التلاقي لا يعني التوفيق بين المعتقدات، فاللقاء والإصغاء للآخر هو أكثر جدوى، حتى بالنسبة للمسار الشخصي وتوسيع نطاق الهوية الشخصية، من الصراعات والمعارك الفكرية، التي يندر الفوز فيها على أية حال.

السخاء شقيق المحبة، والكثير من الرهبان الفرنسيسكان والعلمانيين من الرهبنة الثالثة عاشوا في الماضي موهبة اللقاء، واليوم مسيحيون آخرون يعيشونها، وينبغي علينا أن نعترف بأن نهج الحوار الذي أعتمده المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، رغم أنه يتضمن في طياته قبساً من اللقاء مع السلطان، فإن الجميع لم يستوعبه سوى مؤخراً، فالسخاء هو ركيزة الحوار، أي أن نعتبر أنفسنا إخوة للجميع، وأن نفتح عيوننا تجاه العجائب التي يحققها الله في الآخرين.

الحوار والقيم... كلها كلمات زماننا، فرنسيس كان يتكلم عن نفس الأمور بألفاظ أكثر شعرية، السخاء شقيق المحبة، والسخاء من صفات الله، والإنجيل الذي عاشه يوحنا يقول "الله محبة".

ربما لا نجد مفردة "سخاء" في كتابات القديس فرنسيس، لكننا نجدها في السير التي كتبت عن حياته، فالسخاء الذي كان الكثيرون في ذلك الحين يحتفظون به كصفة قلبية ويعتبرونها سيدة القلب رفعها فرنسيس إلى مرتبة صفة من صفات الله.

هذا السخاء في الواقع، عاشه فرنسيس بكثافة وعمق لدرجة أن أحد أخوته الرهبان إستطاع أن ينادي هذا السخاء ويدعوه لكي يعالج جسده.

اللقاء بين فرنسيس والسلطان نقله بعيده في درب الله ودرب الإنسان، لقد تجرد فرنسيس من ملكية كان لا يزال يجهلها بلا شك، ألا وهي تفوقه الروحي، ومعرفته بأن عليه أن يسعى أبداً ودوماً في طريق الكمال، الأمر الذي تاكد له انه لن يكتمل إلا في الآخر ومع الآخر وبالآخر مرة وإلى الأبد.