موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٨ مارس / آذار ٢٠١٨
اللغة تحيا بالاستعمال

د. صلاح جرار :

حدث كثيراً أن يتعلّم شخصٌ مبادئ لغةٍ من اللّغات وربّما يتعامل بها مدّة قد تطول أو تقصر، ثم يمرّ عليه زمن طويل لا يستخدمها إمّا بسبب عدم حاجته إليها أو بسبب عدم وجود من يتحدّث معه بها، فإذا حاول بعد ذلك أن يتحدّث بها وجد صعوبة في ذلك وتبيّن له أنه نسي كثيراً من مفرداتها أو عباراتها أو قواعدها.

وما ينطبق على أيّ لغة يتعلّمها المرء ينطبق على لغته الأمّ، فمتى أطال عدم التعامل بها فإنه سوف يصعب عليه التعبير بها عن مطالبه واحتياجاته.

وهذه القاعدة تنسحب على اللّغة العربيّة حيث أنّ ثمّة تراجعاً كبيراً في استخدامها، فالغالبية العظمى من أبناء هذه اللّغة يتواصلون فيما بينهم بالعاميّة، وبينها وبين العربيّة الفصيحة فوارق كبيرة في مفرداتها وقواعدها ودلالاتها وصوتيّاتها، وإن كان بين مفرداتها الكثير ممّا هو فصيحٌ غير مستعمل أو ذا أصول فصيحة فإنّها تبقى لا تمثّل إلاّ جانباً محدوداً من جوانب اللّغة العربيّة.

ومن جهة ثانية فإنّ ما يستعمل من المفردات اللّغوية العربيّة في أوساط التعامل بالفصيح كالمناهج المدرسيّة والصحافة وبعض وسائل الإعلام والمؤلفات بالعربيّة هو قدر محدود من المفردات المتداولة لا تمثّل إلاّ نسبة ضئيلة من الموروث اللّغوي العربيّ، بينما ظلّت الآلاف من المفردات منبوذة ونائية عن الاستخدام، وكأنّها قد حُكم عليها بالموت. وبالوقوف على نصوصٍ مكتوبة باللغة العربيّة من أزمنة مختلفة فإننا نلاحظ تزايد هذه المفردات المنبوذة بمرور الزمن، فالنصوص التي كتبت قبل خمسين سنة نجدها أكثر غنى بالمفردات من النصوص التي تكتب في أيّامنا هذه، والنصوص التي كتبت قبل مائة عام أكثر غنى بالمفردات من النصوص التي كتبت قبل خمسين عاماً، وهكذا. وهذه الظاهرة تمثّل شكلاً آخر من أشكال التراجع في استخدام اللّغة العربيّة.

ومن أكثر الصور وضوحاً في تقصير الأمّة العربيّة في استخدام لغتها الأمّ أنّ الجامعات العربيّة أخذت تدرّس العلوم بغير اللّغة العربيّة، وأنّها تحتفي بمن ينشر أبحاثه العلمية بلغة غير العربيّة، وأنّ سياسات التعليم العالي في الوطن العربي تتذرّع بعدم وجود المصطلحات الكافية في اللّغة العربيّة لتعريب العلوم، وهو زعمٌ باطل تفنّده أدلّة وشواهد لا حصر لها، منها أن عدد مفردات اللّغة العربيّة تزيد على اثنتي عشرة مليون مفردة، وهي أغنى لغة في عدد مفرداتها وتأتي بعدها اللّغة الإنجليزية التي يبلغ عدد مفرداتها ستمائة ألف مفردة.

فإذا كانت العربيّة الفصيحة نادرة الاستخدام بين العوامّ، وإذا كان المستخدم منها في مؤلّفات المناهج والأدباء محدوداً جدّاً، ويتراجع مقداره بمرور الزمن، وإذا كانت اللّغات الأجنبيّة تحلّ محلّ العربيّة في كليّات العلوم والطبّ والهندسة والحاسوب والإدارة وغيرها في التدريس والبحث، وإذا كانت الاستطلاعات الحديثة قد أكّدت تراجع معدّل القراءة عند القارئ العربي، فكيف لنا أن نبقي على لغتنا العربيّة حيّةً؟!

إنّ اللّغة لا تحيا إلاّ بالاستعمال والمداومة على الاستعمال، ولكن بشرط أن تستخدمها الأمّة كلُّها وفي الميادين والحقول كافّة.

ولا بدّ للتغلّب على خطر تراجع اللّغة العربيّة من تشجيع المعلّمين في المدارس على استخدام العربيّة الفصيحة في أثناء الدرس داخل الصفوف، وتشجيع أساتذة الجامعات على التدريس والبحث باللّغة العربيّة في الكليات العلمية، والعمل على زيادة المحتوى الإلكتروني في شبكة المعلومات العالميّة باللّغة العربيّة، ورعاية برامج تشجيع القراءة، وبذل الجهود في نشر كتب التراث اللّغوي والأدبي والعلمي التي هي مستودع حقيقي للّغة العربيّة في استخداماتها في جميع الميادين والحقول.

(الرأي الأردنية)