موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
الكنيسة المارونية تودع المطران بشاره: بذل نفسه فدى عن الكثيرين، وعاش متماهيًا مع المسيح
الصلاة الجنائزية في كنيسة مار يوسف في الكرسي الأسقفي بقرنة شهوان (تصوير: إعلام البطريركية المارونيّة)

الصلاة الجنائزية في كنيسة مار يوسف في الكرسي الأسقفي بقرنة شهوان (تصوير: إعلام البطريركية المارونيّة)

أبونا :

 

ودعت الكنيسة المارونية راعي أبرشية انطلياس المارونية الأسبق المثلث الرحمة المطران يوسف بشارة في مأتم رسمي أقيم في كنيسة مار يوسف في الكرسي الأسقفي بقرنة شهوان. وترأس الصلاة الجنائزيّة لراحة نفسه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي.

 

وشارك في الصلاة سفير الفاتيكان المونسنيور جوزف سبيتاري، والمطران شارل مراد ممثلا بطريرك السريان الكاثوليك يوسف اغناطيوس الثالث يونان، والمطران جورج اسادوريان ممثلا بطريرك الأرمن الكاثوليك غريغوار بادروس العشرين، وأساقفة الكنيسة المارونيّة، والرؤساء العامين والرئيسات العامات، وممثلين عن الكنائس، ولفيف من الكهنة والرهبان والراهبات وكهنة الأبرشية، وعائلة المطران الراحل.

 

كما حضر الصلاة الجنائزيّة النائب الياس بو صعب ممثلا رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال عون، النائب ابراهيم عازار ممثلا رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب نعمة افرام ممثلا رئيس مجلس الوزراء حسان دياب، وحشد من الشخصيات الرسميّة والحزبيّة والروحية والقضائية والشعبية.


 

البطريرك الراعي

وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان "أنا الراعي الصالح" (يو 11:10) تناول فيها سيرة المطران الراحل الكهنوتية والراعوية والاسقفية بالاضافة الى دوره الوطني في "لقاء قرنة شهوان". وقال: "أدرك المثلث الرحمة المطران يوسف أبعاد وصف الرب يسوع ذاته بالراعي الصالح. ففهم، كما أعلن في احتفال تسلمه للأبرشية، أنه مدعو ليكون على مثال المسيح الراعي الصالح، عينًا تسهر، وأذنًا تسمع، وقلبًا يحب. ومن مثال المسيح الخادم الذي أتى ليخدم، لا ليخدم، ويبذل نفسه فدى عن الكثيرين (مر 45:10)، اختار شعاره الأسقفي من كلمة الرب: أنا بينكم كالخادم (لو 28:22). واعتبر أن كلامه هذا بمثابة عهد يقطعه مع أبناء الأبرشية وبناتها وأمامهم، ليبقى له وفيًا، بنعمة الله وبؤازرتهم".

 

وأضاف: "هكذا فعل منذ توليته على الأبرشية في أحد العنصرة 18 أيار 1986 حتى قبول استقالته بداعي السن، بعد تمديد سنتين، وانتخاب خلفه المثلث الرحمة المطران كميل زيدان، وتسلمه الأبرشية في الأول من تموز 2012. وقد دامت رعايته 26 سنة مليئة بالعطاءات، على مختلف الأصعدة: الراعوية، والروحية، والكنسية، والوطنية، والعمرانية. وبعد الاستقالة تابع العطاء بإلقاء المحاضرات وإرشاد رياضات روحية. وملأ أوقاته الحرة بالمطالعات للكتب الجديدة، والمقالات التحليلية، والمواظبة على اجتماعات المطارنة الشهرية، والرياضات والمجامع السنوية، ودورات مجلس البطاركة والأساقفة، حتى الأسبوع الأخير من حياته".

 

تابع البطريرك الراعي: "هذه الطينة التي تكونت منها شخصيته المميزة، ترجع في الأساس إلى تربيته البيتية في بلدته العزيزة عربة قزحيا، حيث ولد في عيد مار يوسف شفيعه، في 19 آذار 1935. فتربى من مثال أبيه وأمه المميزين بالعمل المتفاني والصلاة في العائلة والكنيسة، لتأمين إعالة الأولاد الخمسة وتربيتهم وتعليمهم، إلى جانب ما تميزا به من محبة لله وللكنيسة، ومن رصانة وطيب العلاقات الاجتماعية، كما يصفها في كتابه "تباشير الرحيل" (ص. 37-51)".

 

وأشار إلى أنه لبى النداء الإلهي إلى الدعوة الكهنوتية بفضل "صلاة الوالدين ورغبة الوالد، الذي كان يريد واحدًا من أبنائه كاهنًا لخدمة البلدة بحسب عادات العائلة. فأرسل ابنه البكر المرحوم الياس إلى المدرسة الإكليريكية في غزير، فلم يشعر بعلامات الدعوة، وعاد إلى البيت الوالدي. فأرسل شقيقه يوسف، وهو في الثالثة عشرة من العمر. فكان هو المدعو من الله. فثبت وواصل ونما بالخصال والفضائل الكهنوتية على يد المرشدين اليسوعيين في الإكليريكية، ثم في جامعة القديس يوسف في بيروت أثناء دراسة الفلسفة واللاهوت. وبعد أن أنجز شهادة الليسانس في اللاهوت وسيم كاهنًا في عيد شفيعه القديس يوسف سنة 1963، أرسل إلى باريس ليتخصص في إدارة الإكليريكيات. ولما عاد باشر هذا العمل الإداري الروحي التوجيهي للدعوات الإكليريكية في كرمسده لمدة اثنتي عشرة سنة، إلى أن عينه المثلث الرحمة البطريرك الكردينال مار أنطونيوس بطرس خريش رئيسا لإكليريكية مار مارون غزير البطريركية سنة 1977، في مرحلة صعبة ووسط حاجات مادية ومبان جديدة. فتأمنت كلها بفضل مثابرته وجديته ودعم المشرف عليها آنذاك المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده، ومؤازرة مجموعة الكهنة والآباء المرشدين. فعرفت الإكليريكية عصرها الذهبي في فترة التسع سنوات التي تتوجت بتعيينه مطرانا لأبرشية قبرص، أنطلياس فيما بعد. وقد تخرج على يده 133 كاهنًا".

 

وأكد "أن حياته الكهنوتية كانت منفتحة على سر الكنيسة. فواكب أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني التي تزامنت مع أولى سنوات حياته الكهنوتية. فطالع جميع الوثائق المجمعية، وساهم في ترجمتها إلى العربية مع المثلثي الرحمة المطران عبده خليفة والمطران فرنسيس البيسري قبل ترقيته إلى الدرجة الأسقفية. وراح يعمل بروح هذا المجمع، وينظم وفقا لتعليمه". كما "انتسب إلى الرابطة الكهنوتية عند رجوعه من فرنسا، وانتخب رئيسا لها. وقد وجد فيها مبتغاه لجهة الحياة الأخوية والروحية بين الكهنة، والتخطيط الراعوي معا، والاهتمام بإثراء المكتبة العربية بالكتب الروحية. وفي ضوء تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وفور اختتامه سنة 1965، أطلق مع مجموعة من الكهنة، ستة منهم أصبحوا أساقفة، حركة كنيسة من أجل عالمنا. فراحت تكبر وتتشعب مواضيعها، ما جعلها جاهزة للمساهمة العميقة في إعداد سينودس الأساقفة الخاص بلبنان (1992-1995)، والمجمع البطريركي الماروني في كل مواضيع نصوصه. وقد واكبه المطران يوسف إعدادا وانعقادا وتطبيقا، مذ عينه المثلث الرحمة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، أمينًا عامًا له".

 

واعتبر ان "كل هذه السنوات الكهنوتية الغنية بالروحانية والعلم والروح الراعوية، هيأته ليعينه القديس البابا يوحنا بولس الثاني مطرانا للأبرشية في 4 نيسان 1986، خلفا للمثلث الرحمة المطران الياس فرح المستقيل بداعي السن، فكان الأسقف المميز بفضائله وتجرده وعلمه ورؤيته الراعوية ومواهبه القيادية وقيمته الوطنية. وما أن باشر خدمته الراعوية على رأس الأبرشية حتى طور شعاره الأسقفي إلى "معا في الخدمة لبنيان الكنيسة". وفي الواقع كان أول أسقف طبق تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، بتأليف الكوريا الأسقفية والمجالس الكهنوتية والإدارية والرعوية، واللجان على تنوعها، وأسس مجلة "كنيستنا". وكان الأول في عقد مجمع أبرشي تطبيقي للمجمع البطريركي الماروني، دام ثلاث سنوات. وأولى اهتماما خاصا بالإكليريكيين والكهنة، وبإدراج العلمانيين في حياة الأبرشية. ووضع دليل الكاهن الراعوي ليكون مرجعا له في خدمته. وواصل ما دأبت عليه المطرانية من تدابير بشأن مدارسها وهي: تحديد ولاية المدراء أو الرؤساء بتسع سنوات، وإرسال كهنة يتخصصون بالتربية والإدارة المدرسية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا".

 

وأردف: "أما نشاطاته خارج إطار الأبرشية، فقام بها بجدارة وروح مسؤولية سواء في سينودس أساقفة كنيستنا المارونية المقدس، أم في لجان مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، أم في إعداد الجمعية الخاصة بسينودس الأساقفة من أجل لبنان، أم في لجان المركز الماروني للتوثيق والأبحاث، أم في تنمية التوأمة مع أبرشية ليون بفرنسا، فضلا عما كان البطريرك يسند إليه من مهمات. أما نشاطاته على الصعيد الوطني، فلا بدّ من أن نذكر لقاء قرنة شهوان الذي كون الصدى لصوت البطريرك بدءًا من سنة 1977، والذي جمع شخصيات مارونية وغير مارونية، معنية بتحرير لبنان من السيطرة السورية، وحماية سيادته، واستعادة قراره السياسي الحر. فتحمل المطران يوسف هذه المسؤولية بالرغم من الانتقادات الداخلية والخارجية، والتهديدات والمحاربة المعنوية والكلامية والفكرية والعملية. فصمد حبا بلبنان حتى النهاية. وكانت بيانات هذا اللقاء جريئة وموجهة، ذكرتنا "بالجبهة اللبنانية" التي قادت المقاومة اللبنانية الشعبية في حرب السنتين 1975 و 1976، وأمنت خلاص لبنان".

 

أضاف: "ولئن طال الكلام عن هذا الأسقف المميز، ولو لماما، فلا بد من أن نذكر نشاطاته العمرانية، وأهمها: الترميم الواسع وزيادة أبنية جديدة وتنظيم أجنحة هنا في كرسي المطرانية بقرنة شهوان. وكذلك في مقر المطرانية بأنطلياس، مع إعادة تكوينه، وتخصيص الطابق السفلي لنشاط عائلة قلب يسوع التي توزع وجبات طعام أسبوعية للعائلات المستورة. وأنشأ المركز الراعوي في أنطلياس ليكون مركزا للتعليم الديني العالي، ومكاتب اللجان، ومركز الإعداد للزواج، وبنى مركز ترشيش الصيفي لتمضية فترة من فصل الصيف، واستقبال الرياضات الكهنوتية. وتملكت المطرانية بناء سمته "بيت الفتاة في حارة صادر" لاستقبال الفتيات اللواتي يتابعن دروسهن الجامعية أو يعملن. وتولت إدارته راهبات القلبين الأقدسين. ورمم دير بحردق الأثري ليكون مع المساحات الخضراء المحيطة مكانًا للنشاطات الروحية والثقافية والشبابية وسواها. بالإضافة إلى بناء 24 مسكنًا للمهجرين بالتعاون مع كاريتاس لبنان، وإنشاء مركز لحركة الفوكولاري على قطعة أرض من أملاك دير بحردق، وترميم دير مار يوحنا زكريت مع شركة فندقية سياحية لاستقبال الحفلات المتنوعة وبخاصة الأعراس".

 

وخلص البطريرك الراعي في كلمته إلى القول: "26 سنة من حياته الأسقفية الزاخرة بالعطاءات، سبقتها 23 سنة من حياة كهنوتية أرست أسس الأسقفية، قضاها المثلث الرحمة المطران يوسف بصمت وتواضع بعيدًا عن الضجيج والاعتداد. بهذه الروح عاش، وكان سر القربان وقداسه اليومي، محور حياته، منه استمد ثقافة المحبة المتفانية والعطاء من دون مقابل. فكم هي ناطقة طريقة موته ووداعه! فمنذ أقل من أسبوع، وبعد أن أنهى الكلام الجوهري في قداسه واستدعاء حلول الروح القدس على القرابين وعليه، سقط أرضًا مغشيًا عليه. فذكرنا بميتة القديس شربل. واليوم في وداعه، ومن دون صدفة، هو عيد القربان المقدس. ما يعني أنه عاش متماهيًا مع المسيح الكاهن والذبيح. ونحن نصلي ونرجو أن يشركه في مجد ملكوته. بهذا الرجاء، وباسمكم جميعًا، أرفع تعازي القلبية إلى إخواني السادة المطارنة، أعضاء سينودس كنيستنا المقدس، والمدبر البطريركي لأبرشية أنطلياس العزيزة وكهنتها ورهبانها وراهباتها وسائر مؤمنيها، وإلى أرملة شقيقه المرحوم الياس، وأشقائه بشير وأنطوان وجان وعائلاتهم وسائر أنسبائهم في الوطن والمهجر. رحمه الله وعوض على كنيستنا برعاة قديسين لمجد الثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".


 

وسام الأرز الوطني

ثم قلد بو صعب المطران الراحل وسام الارز الوطني من رتبة كومندور باسم رئيس الجمهورية اللبنانيّة.

 

وقال: "أيها الفقيد الغالي، في هذا الوقت المهيب الذي نودعك فيه، أقف مع صاحب الغبطة والمطارنة الأجلاء وعائلتك ومحبيك ممثلا فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي منحك وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور تقديرًا لدورك الوطني والإنساني والروحي في نسيج لبنان، وكلفني فشرفني ان اضعه على نعشك وان انقل تعازيه الحارة الى عائلتك وغبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى سائلا لك الرحمة ولهم التعزية والرجاء. كما أتقدّم باسم زملائي خريجي مدرسة مار يوسف قرنة شهوان وتلامذتها وأساتذتها وإدارتها وجميع العاملين فيها من غبطة البطريرك والسادة المطارنة والرهبان الاعزاء والراهبات بأحر التعازي".

ثم كانت كلمة لسفير الكرسي الرسولي (الفاتيكان) في بيروت المونسنيور جوزف سبيتاري، نقل فيها "تعازي المسؤولين في الفاتيكان والكنيسة جمعاء في هذه المناسبة الحزينة"، سائلاً الرب القدير أن "يتغمده برحمته ومحبته، وأن يسمع صلاته التي كان يرفعها من أجل السلام في لبنان".

 

وفي الختام، شكر المدبر البطريركي على أبرشية أنطلياس المارونية المطران انطوان عوكر "كل من شارك في الصلاة، في يوم عبور المطران الراحل إلى دار الحياة الابدية". بعد ذلك نقل الجثمان إلى مثواه الأخير، ليوارى الثرى إلى جوار المطارنة الأبرار في مدفن الاساقفة في كنيسة مار يوسف. ثم تقبل البطريرك الراعي والاساقفة والعائلة التعازي في صالون الكنيسة.