موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣
الكرسي الرسولي: القول "لا" للحرب دائمًا، والبقاء على مقربة من الضحايا
بقلم: مدير التحرير في دائرة الاتصالات الفاتيكانية، أندريا تورنييلي

أندريا تورنييلي - ترجمة أبونا :

 

لأكثر من قرن من الزمان، ومع تصاعد التصريحات والتهديدات بالحرب واستخدام أسلحة متطوّرة ومدمّرة على نحو متزايد (Crescendo)، كان الكرسي الرسولي يعلن بقوة "لا" للحرب. بدءًا من نداء بندكتس الخامس عشر النبوي ضد "المذبحة غير المجدية" في الحرب العالميّة الأولى، إلى كلمات البابا فرنسيس، التي تُكرّر في كل مناسبة، في اعتبار أنّ الحرب هي هزيمة للإنسانية، أوضحت السلطة التعليمية لأساقفة روما وعمّقت بعدم وجود "الحروب العادلة"، وأنّه حتى الحق في الدفاع عن النفس يجب أن يكون متناسبًا، كما يعلّم التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة.

 

منذ بداية الحرب العدوانيّة الروسيّة على أوكرانيا، وفي الأسابيع الأخيرة بعد الهجوم الذي شنته حماس ضد المدنيين الإسرائيليين، وأعقبه هجوم مضاد شنه الجيش الإسرائيلي هدم فيه العديد من المنازل في غزة وسوّيت بالأرض، وقُتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، تم توجيه انتقادات لموقف البابا والكرسي الرسولي. وهو الموقف الذي اعتبره البعض خطأً منذ فترة طويلة بأنّه "محايد"، وكأن الفاتيكان، وبسبب الدبلوماسيّة المفرطة، لم يتمكن من تقييم أخطاء ودوافع الأطراف المتصارعة.

 

لذلك، تجدر الإشارة، ومرة جديدة، أنّ الكرسي الرسولي لم يكن أبدًا "محايدًا" أو "على مسافة متساوية" في وجه الحرب. وبدلاً من ذلك، سعى دائمًا إلى أن يكون غير متحيّز في النزاع - ألا يكون مشاركًا أو يبدو وكأنه متورط فيه، وفي الوقت نفسه أن يكون "قريبًا على قدر المساواة" ليس من أولئك الذين يثيرون الحروب، بل من الذين يعانون، ومن الذين يدفعون عواقب الصراعات، ومن المدنيين الذين قتلوا، ومن الجرحى، ومن أمهات وآباء الجنود الذين سقطوا، ومن الضحايا الأبرياء جراء الإرهاب والأعمال الانتقاميّة.

 

لا تستطيع وسائل الإعلام الفاتيكانية إلا أن تتبع نفس الخط التحريري، فترفض الاستقطاب الذي يبدو وكأنه السمة المميّزة ليس للحروب الحاليّة فحسب، بل وأيضًا للعالم الذي نعيش فيه اليوم بشكل عام. إنّ إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الجميع، وعدم إغلاق الأبواب أبدًا، على أمل التوصل إلى وقف لإطلاق النار ومن ثم التفاوض من أجل السلام العادل؛ والقلق بشأن الضحايا الأبرياء؛ والتفكير في الأسباب البعيدة للصراع؛ وتجنّب استخدام لغة الكراهية والشيطنة، لا يعني إطلاقًا تجاهل حقيقة أن هناك معتديًا وطرفًا مظلومًا، ولا يعني ذلك تجاهل شرعية الدفاع عن النفس. بل على العكس من ذلك، فهو يعني الاهتمام بمصير الأبرياء، وعدم إطفاء شعلة الأمل الضعيفة في السلام مطلقًا، واستغلال كل علامة صغيرة للانفتاح أينما جاءت، والإيمان بالدبلوماسية، وقبل كل شيء القلق بشأن مصير الضحايا، المشوّهين، النازحين. ويعني أيضًا الخروج عن منطق الاستقطاب والتفكير الأحادي الجانب.

 

هل من الممكن إدانة الهجوم الذي شنته حماس على المدنيين الإسرائيليين، وفي الوقت نفسه إثارة الشكوك والتساؤلات حول الرد المسلح لجيش تل أبيب على خلفية العدد الكبير من الضحايا المدنيين والمأساة الإنسانيّة في غزة؟

 

هناك صراعات يكون التهليل فيه غير مناسب على الإطلاق، ومن بينها بالتأكيد الصراع الحالي في الشرق الأوسط، الناجم عن وضع معقّد للغاية يتحمّل فيه الطرفان المسؤوليّة، ولا يوجد مبرّر لأي طرف.

 

أمام أنباء الحروب المستمرة والسعي إلى تقديم نقاط للتأمل، فإن ضوءنا الهادي هو الكلمات النبوية لخليفة بطرس الحالي (قداسة البابا)، الذي يواصل تحذير البشرية جمعاء من خطر حرب عالميّة ثالثة وتدمير الذات. نحن نحاول الانخراط في الصحافة من خلال فصل الحقائق عن الآراء، وفصل آرائنا عن آراء الآخرين. إنّ نقل آراء الآخرين، وإعطاء صوت لشخصيات تبدو لنا جديرة بالنشر، لا يعني مشاركة تلك الآراء، بل السعي إلى الفهم من خلال التأكيد على الأصوات الأكثر حكمة والأقل أيديولوجيّة.