موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٤ أغسطس / آب ٢٠٢٠
القديس ماكسمليان كولبه الفرنسيسكاني، الكاهن الشهيد

إعداد الأب وليم عبد المسيح الفرنسيسكاني :

 

وُلِدَ ماكسمليان كولبه في 7 كانون الثاني 1894 في بولندا، دخل المدرسة الإكليريكية في عام 1907 لبس ثوب الرهبنة الفرنسيسكانية عام 1910، ثم رُسِم كاهنًا في روما في يوم 28 نيسان عام 1918، بعدها عاد إلى بولندا بعد إنتهاء دراسته عام 1919، بعدها قضى عام 1920 كاملاً في إحدى المستشفيات نظرًا لتدهور صحته.

 

بدأ نشاطه الحقيقي عام 1922 عندما أصدر صحيفة "فارس النقيّة" الشهيرة، ويقصِد بالنقيّة العذراء مريم التي كانت تمثل له الإرشاد والحنان. وفي عام 1927، أنشأ "مدينة النقية" وهي عبارة عن مستشفى ومكان للتعليم المسيحي ومقرّها بالقرب من (فرسوفيا) في بولندا.

 

سارت حياة الأب مكسمليان على هذا النحو الهادئ حتى يوم 17 شباط 1941 عندما توقفت سيارة سوداء أمام باب "مدينة النقيّة" فلمحها أحد المقيمين في المدينة وعرف بالطبع أنها سيارة الشرطة السريّة النازية. خرج الأب مكسمليان لملاقاة القادمين وبادرهم بالسلام الرهباني: "السلام لكم من يسوع المسيح". عندها صاح به احدهم: "أأنت ماكسمليان كولبه؟" فاجابه: "نعم أنا هو". فدفعه الجندي قائلاً: "إذًا تعالى معنا". وأخذوا معه أربعة من الكهنة، لم يبقى منهم على قيد الحياة بعد فترة الإعتقال سوى إثنين، كان ذلك من أجل العداء الذي يبرزه النازي نحو اليهود لا يعادله كراهية أخرى سوى للإكليروس والمكرسين المسيحيين، لذلك يوجد عدد لا يمكن حصره من شهداء الكنيسة في معتقلات النازي.

 

اعتقل مع إخوته الرهبان الأربعة في البداية بسجن بارياك، وألقي الأب ماكسمليان كولبه في الحجرة 103 فلم يطل به الوقت حتى اكتسب قلوب السجناء حيث كان يستمع لشكواهم ويزيل عنهم الكثير من التعب بإعطاء الأمل في رحمة الله وتوصيل تعزياته للمسحوقين بالتعب والإضطهاد والمخاوف، كذلك قام بأخذ إعترافاتهم لإزاحة الهموم الروحية عن قلوبهم وتمكينهم بالتنعُم بالسلام الداخلي وراحة القلب، كما عوّدهم الصلاة الجماعية والشخصية. كان ذلك قبل بداية عرض المعتقلين الجُدد على قيادة المُعتقَل.

 

حَلّ أوان العَرض والتفتيش، حينها وقعت عينا أحد الضباط على الأب ماكسمليان بثوبه الرهباني فاغتاظ وأمسك بالمسبحة المُعَلّقة في زنّاره (الحبل المعقود رمز الرهبنة الفرنسيسكانية) وانتزعها بعنف صائحًا: "أيها الكاهن المعتوه، أمازلت تؤمن بهذا!". وأشار إلى الصليب المُعَلّق في نهاية المسبحة. فأجاب الأب ماكسمليان بهدوء وثِقة: "نعم أؤمن". فصفعه الضابط بحِدّة ثم جاد عليه بصفعة أخرى، فبدأ الأب ماكسمليان ينزف من فمه. بعدها عاد الضابط ليسأل: "إذًا هل تؤمن أيضًا؟" فأجاب: "نعم.. أؤمن". فانهالت الضربات على الأب ماكسمليان مصحوبة بالسِباب والألفاظ البشعة والكلمات الشائنة حتى أضحى وجهه أبيض كالكفن، وهو يحاول أن ينهض بعد كل ضربة بمزيد من الجهد، مستمرًا في المواجهة الصامتة البليغة. فعاد الضابط يسأل: "والآن أمازلت تؤمن أيضًا؟". فأجاب الأب ماكسمليان: "نعم.. أؤمن". فأخذه طاقم الحراسة ليصبّوا عليه غضبهم فتبادلوا ركله بأحذيتهم الغليظة حتى أفقدوه الوعي وتركوه فبدأ رفاقه بالزنزانة بمحاولة إفاقته.

 

استعاد الأب ماكسمليان وَعيه تدريجيًا وأخذ يهدِّئ من رَوع رفاقه بينما تورّم وجهه، وحاول الكلام بجهد جهيد فقال: "إفرحوا معي ولا تغتمّوا فإني أتألم من أجل من تألم من أجلي، إفرحوا معي كما أن أمّي مريم النقية فَرِحَةٌ بي". وتَدَخّل الأطباء المُعتقلين الذين عينتهم سُلطة الإحتلال لمراقبة مستوى تدهور صحّة زملائهم من المُعتقلين، وسَعوا في نقل الأب ماكسمليان إلى غرفة التمريض.

 

بعدها ببضعة أيام، نُقِل الأب ماكسمليان مع عدد غفير من السُجناء إلى مُعتقل أوشفيتز. أما السجناء فكانوا يطلقون عليه معتقل الموت رُعبًا فقد لقى فيه أكثر من 5 مليون معتقل مصرعهم إما في التعذيب أو الإعدام. لم تكن أفران الغاز تنطفئ في هذا المُعتقل ليل نهار، فإما أن يتم الإلقاء بالمُعتقل حيًا فيها إذا كان يهوديًا. أما عن الكهنة فهُم في الطبقة قبل الأخيرة من طبقات المنبوذين والمُضطهدين في المُعتقل لا يأتي بعدهم سوى اليهود، لذا فهُم يعاملون بالذُلّ والعار كالماشية فيقومون بأشقّ الأعمال والسياط تحرث ظهورهم ووجوههم أيضًا.

 

في 30 تموز 1941، نجح أحد المُعتقلين في الهرب من المُعتقل، وهو ضمن الفرقة الـ14 التي ينتمي إليها الأب ماكسمليان. فتذكر السجناء المنكودون التهديد القاضي بإعدام عشر سجناء عن كل هارب من الفرقة. واصطف المعتقلون أمام القائد ليختار، كالجزار، من يرسله إلى المحرقة. وارتفعت الزفرات، واختلط الاستنجاد بالحسرات. وإذا باحدهم يصرخ بصوت تخنقه الغصة: "اه، زوجتي التعيسة، أولادي الاعزاء!".

 

وفي هذه اللحظات ترك احد المعتقلين صفه وتقدم من القائد، فشهر هذا مسدسه وصرخ: "مكانك! ماذا تريد أيها الخنزير؟" فاجابه الأب ماكسميليان – وكان هو المتقدم: "أن تسمح لي بأن أموت عوضًا عن أحد المحكوم عليهم!". من أنت؟ أنا كاهن كاثوليكي. عوض من تريد أن تموت؟ عوض هذا (وأشار إلى الرجل الذي انتخب من قليل). ولماذا؟ لأنه رب عائلة مسكينة!

 

ووافق القائد، واقتيد الكاهن المتمثل بسيده المسيح مع المحكومين الآخرين إلى غرفة الموت.. غرفة مظلمة تحت الأرض، يهمل فيها المعذبون إلى أن ينهشهم الموت رويدًا رويدًا، بأنياب الجوع والعطش. وأقسى عذاب يعانونه هو العطش المحرق الذي يلهب الأحشاء، ويجفف الدم في العروق. وما أقسى الموت إذ أقبل ببطء!

 

وفي صباح اليوم 14 من آب (عشية عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء)، كان الأب ماكسيميليان آخر من تبقى من زملائه، فقضى عليه حارس المعتقل بطعنة بخنجر مسموم بمادة الفينول وأحرقت جثته! وكان عمره آنذاك 47 عامًا، لكنه منذ تلك اللحظة دخل عمره الأبدي في السماء.

 

إلى ساحة التكريم والمجد

 

أعلنه البابا بولس السادس طوباويًا عام 1971.

 

ويوم الأحد 10 تشرين الأول 1982، وفي ساحة القديس بطرس بروما، وقف البابا يوحنا بولس الثاني يعلن رسميًا قداسة مواطنه الأب ماكسميليان كولبه، أمام حشد غفير يربو على مئة ألف شخص من جملتهم فرنسيس كايوفنيكزك نفسه الذي كان الأب كولب قد قدم حياته عنه قبل 40 عامًا، وعمره الآن 82 عامًا.

 

وفي الكلمة التي ألقاها بالإيطالية والألمانية والبولندية، علّق البابا على قول السيد المسيح "ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو15: 13)، بأن الأب كولبه أكمل قول الفادي بحذافيره في المعتقل المشؤوم، حيث مات 4 ملايين شخص بالتعذيب والاعدام. وما زالت زنزانته بأرض معتقل أوشفيتز ببولندا مزارًا أساسيًا للحج الروحي. هو شفيع مدمني المخدرات، والمسجونين، العائلات، الصحفيين. تحتفل الكنيسة الجامعة بذكراه يوم 14 آب.

 

بركة صلاته وشهادة حياته فلتكن معنا. آمين.