موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٧
القدس.. بين علم الآثار والتأريخ

د. أيوب أبو دية :

يمكن رؤية إشكالية التأريخ في بيت المقدس من وجهتَي نظر: الأولى مرتبطة بالتاريخ المدون، وبخاصة العقائدي منه كما جاء في التوراة والإنجيل (العهد الجديد)، أما وجهة النظر الثانية فهي الدلائل المادية التي يقدمها علم الآثار المعاصر. ولمّا كنتُ من أنصار العلم منهجاً وروحاً ومن دعاة ضرورة الإثبات المادي للوقائع التاريخية، سأستعرض وجهات النظر التقليدية أولاً وأحاورها وفق منطقها، ومن ثم يكون الانتقال إلى وجهة النظر العلمية في نهاية المقالة.

كما هو معروف، تم استيطان القدس في الفترة 4500-3500 ق.م، وكان اليبوسيون ثم الكنعانيون هم سكان البلاد الأصليون إلى أن احتلها الفراعنة المصريون وأتبعوها إليهم بين عامي 1550 و1400 ق.م. وتحدثنا الراويات التاريخية عن دخول العبرانيين إلى مصر ثم خروجهم منها نحو عام 1313 ق.م وتأسيس مملكة داوود عام 1010 ق.م قبل أن يعود الفراعنة للسيطرة عليها مرة أخرى. ثم تتالت عليها الحضارات إلى أن ضُمَّت إلى المملكة الأشورية.

لقد قام كثيرون بمواجهة الفكر الديني العقائدي، فيما يتعلق بـ»حق اليهود الإلهي» في فلسطين، ومنهم المؤرخ فايز الصايغ (1922-1980) الذي ناقش هذا الحق ودحض ادّعاء الصهاينة بأنه وعد التوراة لإبراهيم وذريته بأرض الميعاد، إذ يقول الصايغ إن سيدنا إبراهيم الذي وُلد في مدينة أور في العراق تزوج من هاجر المصرية التي وَلدت له أبناً هو إسماعيل؛ وإسماعيل هو أصل الكثير من القبائل العربية. كذلك تشكلت قبائل عربية أخرى من زوجة إبراهيم الثانية واسمها قنطورا، كما جاء في سفر التكوين؛ إذاً، فمن وجهة نظر عقائدية فإن القدس وفلسطين بمجملها ليست حكراً على اليهود بحق إلهي، إنما هو «حق توراتي» تمت كتابته في العراق خلال الأسر البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد تأسيس دولة داوود المزعومة بخمسة قرون على الأقل. ولو افترضنا جدلاً أن هذا الوعد جاء لذرية إبراهيم، فهذا يعني أنه وعد للعرب أيضاً لأنهم من ذرية إبراهيم كذلك.

أما من وجهة نظر الإنجيل فيمكن أن نقتبس من إنجيل متى الآية (43:21) ومفادها أن ملكوت الله سوف يُنتزَع من اليهود ويُعطى لأمة أخرى. إذاً حتى لو افترضنا أن الله قد وعد اليهود بأرضٍ هي فلسطين، فإن هذه الأرض وبإرادة ومشيئة من الله تعالى سوف تُعطى إلى أمة أخرى لتُرَدّ إلى أصحابها.

ولكن ما زالت هناك إشكالية حول موقع «أرض الميعاد»، وهناك اختلاف عليها، ويمكن العودة إلى كتابات د.كمال الصليبي على سبيل المثال، ومنها: «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، التي تحدد الأرض الموعودة بمنطقة عسير، وهي تقع جنوب غرب الجزيرة العربية شمال اليمن.

ومن وجهة نظر ثانية أيضاً، فإن فايز الصايغ يشير إلى أن الكثير من اليهود لا يعودون في نسبهم إلى إبراهيم، بل لا علاقة لهم بإبراهيم على الإطلاق؛ ومثال ذلك يهود الخزر في أوروبا الشرقية، كما هو مذكور في الموسوعة اليهودية العالمية في مجلدها السادس، لأن تهويد هؤلاء الأقوام تم في القرن الثامن للميلاد وبالتالي لا علاقة لهم بإبراهيم ولا بنسله. فمن يستطيع أن يتحقق من أصول اليهود الذين من نسل إبراهيم أو من غيره؟

ربما يتطلب ذلك أن تتدخل لجنة من علماء «ناشونال جيوغرافيك» لإجراء فحوصات جينية على الشعب اليهودي في العالم للتحقق من ارتباط نسلهم بإبراهيم؛ وعندها لكل حادث حديث!

أما وجهة النظر العلمية التي أميل إليها، فهي تعود للدراسات الجيولوجية وعلم الآثار الذي من انفكّ يدْرس تلك المنطقة إلى يومنا هذا، فماذا يستطيع علم الآثار أن يقول لنا عن القدس وفلسطين؟

تُجمع الأبحاث المعتبرَة على أن العهد القديم كُتب في العراق خلال ما يسمى «الأسر البابلي» في القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد مئات السنين من الأحداث التي تم ذكرها في العهد القديم (التوارة). واللافت أن أحداثاً مذكورة في العهد القديم، مثل خروج اليهود بعد موت النبي موسى من مصر وضياعهم في صحراء سيناء ثم وصولهم إلى أرض الكنعانيين وتدمير أريحا على يد يشوع بن نون الذي أوقف الشمس بحسب الرواية التوراتية لاستكمال ذبح أهل أريحا من الكنعانيين، لا يوجد حتى الآن أي دلائل أثرية عليها. حيث تشير آثار الجدران القديمة أنها هُدمت بزلازل طبيعية ولم يتم تدميرها في الفترة المشار إليها في التوراة.

كذلك فإن الأرقام التي يتم اقتراحها بين فينة وأخرى لعدد اليهود الهاربين من مصر لا تتوافق مع المنطق السليم، حيث لا يمكن لتلك الأعداد أن تعيش في الصحراء لفترة طويلة من دون استئناس للحيوانات والقيام بالنشاط الزراعي والحصول على الموارد المائية الكافية. إن ما لدينا من الدلائل التاريخية الواضحة هي أن ملك مؤاب الأردني (ميشع) أرّخ لهزيمة بني إسرائيل في مؤاب بجنوب الأردن نحو عام 840 قبل الميلاد، ليؤكد أنهم على الأرجح لم يدخلوا فلسطين، بل أسسوا دولتهم في عسير جنوب غرب الجزيرة العربية التي كانت على الضفة الأخرى من نهر النيل, كما يرى المؤرخ كمال الصليبي.

أرجو ألا يُظَنَّ هنا أنني أتحامل على التوراة «العهد القديم» أو الإنجيل «العهد الجديد»، فأنا عربي أردني وُلدت من والدين مسيحيين كاثوليكيين، وكل ما أتطلع إليه هو البحث عن الحقيقة، ومما هو واضح لدي ولدى الكثير من العلماء الذين قرأت لهم مؤخراً، في ضوء انتفاضة الأقصى الأخيرة المباركة، أن هناك رواياتٍ إذا نظرنا إليها من منظور علمي سنجد أن لا دلائل ملموسة عليها، ولو وُجد دليل واحد لأقام الكيان الصهيوني الغاصب الدنيا ولم يُقعدها، وبخاصة أن لديهم رأس المال والخبراء والعلماء الذين يعملون ليل نهار لتلك الغاية.

إن مجموعات اليهود التي جاءت من أصقاع الأرض، وأقنعت الصهيونيةُ أغلبهم بأن لهم حقاً تاريخياً في فلسطين، أصبحت بمثابة مشروع استعماري للسيطرة على المنطقة العربية وتجزئتها وحسب. وأعترف بأنني لغاية لحظة إعلان الرئيس الأميركي «ترامب» خطتَه لنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس كنت ما زلت على أمل أن يتحقق السلام وأن يتم الاتفاق في النهاية على مشروع الدولتين وينتهي الصراع الذي عايشتُه على مدى ستة عقود في حياتي، ولكن، ومنذ ذلك التاريخ المشؤوم اتضحت لدي الرؤيا أكثر وغدوت متشائماً في الوقت نفسه. لقد اتضحت لدي أطماع الصهيونية في كل فلسطين، بل وأطماعها في أجزاء أخرى من الوطن العربي؛ ولا شك في أن وجودها قد حقق التجزئة وعمّقها، بل وأسّس لتدمير دول عربية عظيمة، وفي مقدمتها العراق وسوريا.

(نقلا عن الرأي الأردنية)