موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٣ مايو / أيار ٢٠١٣
الفاتيكان والقوة الناعمة

د. محمد عبد الستار البدري :

نقلاً عن الشرق الأوسط

دُعيت لزيارة روما خلال الأسبوع الماضي لإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات هناك، وقد اعتذرت عن بعض المناسبات التي كانت معدة على الهامش للهفتي على زيارة الفاتيكان لأسباب سياسية وتاريخية بل وفنية أيضا، فكرست يوما منذ مطلع الصباح إلى ما بعد العصر لزيارة دويلة الفاتيكان والتي هي مقر الكرسي البابوي الذي تتطلع إليه عيون وقلوب ما يقرب من مليار ومائتي مليون كاثوليكي عبر العالم، فهو المكان الذي يقال إن القديس بطرس St Peter صلب فيه رأسا على عقب، وهو ما يجعل من هذه الدويلة التي تعد أصغر دولة أحد أكبر رموز ما يسمى بالقوى الناعمة على المستوى الدولي، واعتقادي أن الفاتيكان تملك أكبر تجمع للقوة الناعمة على المستوى الدولي، كما أنها لعبت دورا سياسيا قويا على مر العصور ولا يزال أثرها السياسي مشهودا له.

السور العظيم الذي يحيط بدولة الفاتيكان بني في القرن السادس عشر ليحيط الدولة التي تبلغ مساحتها 400 ألف متر مربع فقط والتي تحتضن الكرسي الرسولي وعلى رأسه البابا الذي يعد رأس كنيسة القديس بطرس والذي قال فيه السيد المسيح «وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي..» (متى 16:13 - 18)، وتجدر الإشارة إلى وجود خطأ شائع وهو الربط بين كياني الفاتيكان والكرسي الرسولي، بينما الحقيقة التاريخية تشير إلى عكس ذلك تماما، فالفاتيكان دولة مستقلة حديثا وتمثل كيانا سياسيا منفصلا حتى وإن كان بابا الكرسي البابوي هو رأسها، فدولة الفاتيكان لديها إداراتها السياسية والإدارية أما الكرسي الرسولي فله تقاليده الأخرى حتى وإن تشابكا.

لقد كان الكرسي البابوي يلعب دوره الهام عبر التاريخ الأوروبي من خلال وصايته الروحية على كل مسيحيي أوروبا تقريبا بفضل الوكالة الروحية للقديس بطرس، ولكن مع مرور الوقت بدأ الكرسي يُكون لنفسه دورا سياسيا من خلال ما عُرف في التاريخ بالدولة الباباوية Papal State التي تم تقليم أظافرها مع مرور الوقت خاصة عند توحيد إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أصرت الحكومة الإيطالية المركزية على تجريد الكرسي الرسولي من بعض ممتلكاته وفرضت عليه الضرائب، وهو ما دفع البابا ليقيم في مدينة الفاتيكان، واستمرت الأمور على ما هي عليه من توترات حتى تولي بينيتو موسوليني وحزبه الفاشي الحكم في إيطاليا حيث قرر أن يفتح مجالا للحوار مع الفاتيكان في عام 1926 من أجل التوصل لاتفاق نهائي يحدد العلاقة بين الدولة الإيطالية الموحدة من ناحية والكرسي الرسولي من ناحية أخرى، خاصة أن البابا كان حبيس الفاتيكان منذ توحيد إيطاليا.

وقد أسفرت المفاوضات عن التوصل لاتفاقية أو اتفاقيات «لاتيران Lateran» الشهيرة عام 1929 التي نظمت العلاقة بين الطرفين وكان من أهم بنودها:

أولا: الاعتراف بسيادة الكرسي البابوي على مدينة الفاتيكان وإعلانها دولة مستقلة ذات سيادة، مع التزام الحكومة الإيطالية بعدم التدخل في الشأن الداخلي لها.

ثانيا: عدم المساس بممتلكات الكنيسة فضلا عن الاتفاق على التعويضات التي تمنحها الحكومة الإيطالية لدولة الفاتيكان مقابل الممتلكات التي تم تأميمها، ويحدد الملحق بهذه الاتفاقية حجم التعويض بـ750 مليون ليرة إيطالي، أي المعادل آنذاك لقرابة 40 مليون دولار، فضلا عن امتلاك الكنيسة لسندات إيطالية بقيمة مليار ليرة مقابل 5% فائدة سنويا.

ثالثا: اعتبار الكاثوليكية الدين الوحيد بالدولة أو الدين الرسمي للدولة، وتمنح المادة 36 الكنيسة الدور الريادي في الإشراف على التعليم الديني في البلاد، فضلا عن الاعتراف بالزواج الكنسي باعتباره زواجا رسميا.

رابعا: نظمت الاتفاقية أيضا التمثيل الدبلوماسي المستقل لدى الفاتيكان، وحق هذا التمثيل الأجنبي في البقاء في إيطاليا ومنحه الضمانات اللازمة لأداء وظائفه، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الأعراف الخاصة باستقبال السفارات المعتمدة لدى الكرسي البابوي لا ترحب بأن يكون المعتمد لدى دولة إيطاليا هو نفس السفير لدي الفاتيكان وذلك كنوع من الاحترام لخصوصية واستقلالية هذه الدولة الصغيرة حجما والكبيرة مقاما.

لقد كانت هناك عدة أسباب تدفع كلا من موسوليني والبابا للتوصل لهذا الاتفاق، فلقد أدرك الأول بفراسته السياسية حاجته إلى الدعم المعنوي للكنيسة على ضوء ضعف الشعبية الحقيقية للفاشية في إيطاليا، فلقد كان الحزب الفاشي يملك أقل من 10% من المقاعد عندما أجرى موسوليني انقلابه الشهير على الشرعية في البلاد، وهو نفس السبب الذي دفع نابليون بونابرت من قبله للتوصل لاتفاق مشابه مع البابا، أما على الجانب البابوي فإن هذه الاتفاقية منحت للكرسي الرسولي قيمة سياسية هامة للغاية في وقت كانت فيه إيطاليا الموحدة تسعى جاهدة للقضاء على نفوذ الكرسي البابوي وحقه في إقامة الدولة البابوية مثلما كان يحدث من قبل، كما أنها وفرت لها فرصة لاسترداد الأموال والعقارات التي سُلبت منها، فضلا عما مثلته من شرعية جديدة أدت إلى منحها سيادة كاملة واعترافا بها كدولة مستقلة، وقد سمحت هذه الاتفاقية للكرسي الرسولي ممثلا في بابا الفاتيكان بلعب دوره السياسي بشكل أكثر تنظيما وبشكل عصري.

وعقب دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ بدأت دولة الفاتيكان تأخذ شكلها المعروف اليوم كأصغر دولة في العالم، ويرأسها البابا نفسه الذي يقوم بتشكيل اللجنة البابوية لدولة الفاتيكان من مجموعة من الكرادلة ليكون بمثابة الدعم له في تسيير شؤون الدولة، ولا يزال الفاتيكان يحافظ على تقليده بتولي الحرس السويسري مهمة حماية البابا وهو تقليد متبع منذ القرن السادس عشر ويمكن للزائر أن يرى زيهم اللافت للنظر لكونه يحتوي على مجموعة من الألوان البراقة بالشكل الذي لم يتغير من القرون الوسطي، ولكن الأمن الداخلي يعد مسؤولية «الجندرمة» وتأتي أهميته بسبب الزيارات الخارجية للمدينة.