موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٤
"الشهادة للمسيح في الجسد وبه".. عظة الكاردينال كيرت كوخ في عمّان

نقلها إلى العربية سامح المدانات :

فيما يلي النص الكامل لعظة الكاردينال كيرت كوخ، رئيس المجلس البابوي لتعزيز الوحدة بين المسيحيين، وذلك خلال ترؤسه الذبيحة الإلهية في كنيسة العذراء الناصرية للاتين، في 20 أيلول 2014، على هامش أعمال لقاء اللجنة الدولية للحوار اللاهوتي بين الكنيستين الكاثوليكية والأورثوذكسية التي عقدت في العاصمة عمّان:

العلاقة الخاصة بين المسيح وجسده، الذي هو الكنيسة

يعبر القديس بولس في رسالته الى اهل فيليبي عن توقعاته بقوله: "إن المسيح سيُمجَّد من خلال جسدي" (1: 20). هذا أملٌ جميل جداً ويظهر من الوهلة الاولى أنه ينبع كلياً من وجهة النظر المسيحية في وجود الإنسان. وفي هذه النظرة من الإيمان لا يوجد معارضة ولا ثنائية بين النفس والجسد. بل يشكل الاثنان وَحدة سرمدية وغير قابلة للانحلال إطلاقاً لدرجة أنه يُنْظَر إلى الجسد ويُتَوَقَّع منه أن يكون الوجه المرئي للنفس الغير مرئية (وفعلياً كسر ٍمقدس لداخلية أو جوهر الانسان).

وفي معنى مشابه، فإن الإيمان المسيحي مقتنع بأن المسيح أيضاً، وهو كلمة الله الغير مرئية، لديه جسد مرئي وأنه يرغب أن يبقى بيننا، عن طريق جسده الذي هو الكنيسة. وبذلك فإن يسوع المسيح وجسده يكونان وَحدة جوهرية لا يمكن فصلها. وبالطبع فإنه ليس من السهل على مسيحيي هذا العصر قبول هذا الأمر والإيمان به، ويظهر ذلك جلياً من الشعار الذي أصبح متناقلاً منذ عدة عقود وما زال ساري المفعول في أيامنا هذه: "نعم للمسيح... ولكن لا للكنيسة". ولكن لو نظرنا إلى الأمر من وجه الإيمان فإنه من المفروض ألا يكون هناك تعارض بين المسيح والكنيسة، التي هي جسده، رغم كل الخطايا التي يقترفها أبناء البشر الذي يُكّونون الكنيسة.

لا يتطابق شعار "نعم للمسيح ولا للكنيسة" مع رغبة يسوع، وبالتالي فإنه ليس شعاراً مسيحياً كما أوضح قداسة البابا بندكتس السادس عشر بطريقة تثير الاعجاب: "إن يسوع هذا الذي تم اختياره بشكل مميز جداً هو يسوع خيالي". فلا يمكن أن يكون لدينا يسوع بدون الحقيقة التي خلقها والتي عن طريقها يُظْهِرُ نفسه.

(1) يوجد بين ابن الله المتجسد وكنيسته استمرارية عميقة، سرية وغير قابلة للفصل، عن طريقها يتواجد المسيح بين شعبه. (2) من أجل دعم هذه النظرة العميقة في الإيمان، فقد استعمل قداسة البابا فرنسيس الصورة المؤثرة جداً للاسم الاول والكنية: "إذا كان الاسم الاول أنا مسيحي، فإن الكنية تكون أنا انتمي وانتسب للكنيسة". (3) وبناءً عليه فإنه لا وجود شيء اسمه مُجَرَّد مسيحي منفرد، بل على العكس إن الهوية المسيحية تتكون بالانتماء. "نحن مسيحيون لاننا ننتمي الى الكنيسة".

عندما نتأمل في هذه العلاقة الحميمة والخاصة بين المسيح والكنيسة التي هي جسده، فإننا ندرك مرة أخرى، أن يسوع أرادَ وقصَدَ كنيسة واحدة، ولا يمكن أن يكون هناك إلا كنيسة واحدة. وقد يكون من الضروري أن نشير إلى حقيقة الإيمان هذه بشكل بارز مرة اخرى: بما أن العلاقة بين المسيح وكنيسته حميمة لدرجة أننا يمكن أن نتكلم عنها كما نتكلم عن علاقة الزوج بالزوجة. بالتالي فإننا يجب أن نأخذ بالإيمان بأن المسيح وبكل وضوح ليس نصيراً لتعدد الزوجات. فالمسيح ليس له عدة أجساد، لكنه متحدٌ بجسده الواحد بكنيسته.

وقد ذُكرت هذه الحقيقة في الجملة الأولى من مرسوم المجمع المسكوني الثاني "استعادة الوَحدة" (Unitatis redintegratio) والذي أعلن منذ خمسين عاماً: "إن استعادة الوحدة بين جميع المسيحيين هو أحد الاهتمامات الرئيسية للمجمع الفاتيكاني الثاني". لقد وضع هذا التكليف الإلزامي بحيث يظهر لاهوتياً بشكل جلي أن السيد المسيح أسس كنيسة واحدة وفريدة. ويقابل هذا الاعتقاد بالحقيقة التاريخية، والتي ما زال يمكن إدراكها في يومنا هذا بالتجربة، أن هناك بالحقيقة عدد من الكنائس وجماعات كنسية، والتي تتبنى المسؤولية أمام العالم كله بأنها تمثل "التراث الحقيقي ليسوع المسيح" وحيث أن هذا قد يعطي انطباعاً بأن "المسيح نفسه كان منقسماً، فإن المجمع سيلزم على التوصل إلى قرار بأن انقسام مثل هذا يتناقض مع رغبة المسيح ويمثل حجر عثرة للعالم ويؤدي إلى أضرار في القضية الأكثر قدسية، وهي إعلان البشارة لكل خليقة".

الوحدة بين الجسد الكنسي والافخارستي

عندما ننظر إلى المسيحية اليوم، فإننا نواجه تعدداً غير محدود في الكنائس والجماعات الكنسية، وعلينا أن نسأل أنفسنا: أين توجد الكنيسة الواحدة التي أرادها السيد المسيح؟. وإذا أردنا أن نكون أمينين لإرادة السيد المسيح فلا يمكن أن نرضى بهذه التعددية للكنائس، حتى، أو بالأخص، في العلاقة المسكونية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذوكسية. عندها يجب علينا أن نضع علامة الاستفهام الصريحة خلف الطريقة المتبعة في صيغ الجمل عندما نتكلم عن "كنيستينا الاثنتين" لأن هذه الجملة تسمح بذكر "الكنائس" بدون السماح "للكنيسة" الواحدة بالظهور. وبهذه الطريقة في الكلام فإننا نُبقِي على الثنائية، وفي نهاية الأمر تصبح الكنيسة الواحدة التي أرادها وأسسها السيد المسيح من نسج الخيال.

ولكن إذا كان جوهر الكنيسة هو كونها "جسد"، وإذا اعتبرنا أن الأورثوذكس والكاثوليك حافظوا على نفس هيكلة وتركيبة الكنيسة الاولى، فنحن إذاً سوياً نشكل كنيسة يسوع المسيح في الشرق والغرب.

وإذا كان الأورثوذكس والكاثوليك مجتمعين يشكلون جسد المسيح الواحد، فهم إذاً مُلزمين عملياً بإيجاد وحدة حقيقية بينهم مرة أخرى، وأن يقوّوا الشركة الكنسية بينهم في إطار المشاركة في الافخارستيا الواحدة. يوجد بين جسد المسيح، الذي هو الكنيسة، وجسد المسيح الذي نتناوله بسر الافخارستيا وَحدة حميمة، والتي لخَّصها القديس بولس في هذه الجملة الغنية بالمعنى: "أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟. فلما كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد. لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد" (1 كورينثوس 10: 17). وهنا يشير القديس بولس إلى أن الكنيسة بإمكانها أن تكون كنيسة واحدة فقط لسبب بسيط وهو أن المؤمنين يشاركون في المسيح الواحد من خلال خبر الافخارستيا الواحد.

ونحن ندين بإعادة اكتشاف وجهة النظر العميقة هذه للإيمان، أي المفهوم الافخارستي للكنيسة، ندين به إلى إيمان الكنيسة الأرثوذوكسية. وهذا هو السبب الذي كان وراء فقدان البحث عن الوحدة عبر التاريخ، وفي إطار إعادة تنشيط الحب الكنسي، يضطرنا هذا الاكتشاف للتوجه نحو الشركة الافخارستيا، أما لماذا يبلغ الحب الكنسي ذروته في الاندهاش، فيعبر عن ذلك البطريرك المسكوني أثيناغورس، بطريرك القسطنطينية، قبل خمسين عاماً بكلماته الحماسية حين قال: "لقد حانت ساعة الشجاعة المسيحية. نحن نحب بعضنا بعضاً، ونعترف بالإيمان المشترك الواحد، فالنَسِر مع بعضنا البعض في طريق المجد إلى الهيكل المقدس المشترك".

نحن في طريقنا نحو الوحدة كنسياً، ومن ثم بجسد المسيح بالإفخارستيا، ثم نجد أنفسنا من جديد أمام السؤال كيف سنصل إلى هذه الوحدة. لنستمع إلى كلمة الله التي تمت تلاوتها في قراءات الليتورجية اليوم.

معالم المسكونية

أُعْطِيَ أول مؤشر لنا في نص الإنجيل المقدس، في مَثَل صاحب الأرض الكريم الذي استأجر عملة. وكما أن العمال يباشرون عملهم في الكرم في أوقات مختلفة، لكنهم يتساوون في تقاضي الأجرة من صاحب العمل، كذلك في السعي إلى الوحدة فإن لكل المسيحيين وكل الكنائس دورهم في المساهمة، بغض النظر عن الوقت الذي دخلوا فيه إلى الحقل المسكوني. وهنا لكل المسيحيين ولكل الكنائس مساهمة يقومون بها. لأن المسكونية لا تهتم بتجميع المعلومات عن الآخرين لهدف التعرف عليهم أكثر، لكنها بالأحرى تهتم بمن زرع الروح بينهم، وهي عطية نحن معنيين بها أيضاً.

فالمسكونية ليست ببساطة تبادل أفكار، ولكنها في إطار مبدئي "تبادل عطايا" نتعلم من خلالها أكثر وأكثر من بعضنا البعض. ويُقدم لنا البابا فرنسيس في رسالته الرسولية "فرح الإنجيل" مثالاً حياً على هذا حيث يقول: "في حوارنا مع إخوتنا الأورثوذكس، تتاح لنا نحن الكاثوليكيين فرصة أن نتعلم شيئاً أكثر عن الزمالة المسكونية وخبرتهم المجمعية". وبالمقابل، نحن الكاثوليكيين الذين ندرك أولوية أسقف روما على أنها عطية من الله للكنيسة، سوف نرى ذلك على أنه عرض قُدِّم إلى جميع المسيحيين في طريقهم إلى ايجاد وعيش الوحدة من جديد.

يعطينا القديس بولس توجيهاً آخراً في القراءة الثانية، والذي يختمه بقوله: "فسيروا سيرة جديرة ببشارة المسيح" (فيليبي 1: 27). وحيث أن الوحدة بين المسيحيين لا يمكن أن تكون إلا وحدة بالإيمان، فإن أكثر مساهمة ذات قيمة يمكن أن يقدمها المسيحيون، تتمثل في الشهادة للإنجيل بإعلانهم له وبالأخص في عيش حياتهم حسب تعاليم الإنجيل. وأصدق شهود للإنجيل هم الشهداء الذين قدموا حياتهم من أجل إيمانهم. ويُذكّرنا هذا بالوضع المأساوي الذي يتعرض له المسيحيون في العراق وسوريا وفي سائر أنحاء الشرق الأوسط. وفي عالمنا الحاضر أصبحت المسيحية مرة أخرى كنيسة الشهداء، وبالحقيقة يمكننا أن نقول أن عدد الشهداء المسيحيين اليوم يفوق كثيراً عدد الشهداء في الاضطهادات الأولى للمسيحيين.

إن الوضع المأساوي للمسيحيين في الشرق الأوسط يلفت انتباهنا إلى بُعدٍ آخر من الشهادة في العالم اليوم. فكل الكنائس المسيحية والجماعات الكنسية لديها شهدائها اليوم، لأنه لا يتم اضطهاد المسيحيين اليوم لأنهم أرثوذكس أو بروتستانت أو كاثوليك، ولكنهم يُضطهدون لأنهم مسيحيين. فالشهادة اليوم مسكونية، وعلينا أن نتكلم عن شهادة مسكونية حقة. وفي خِضم كل هذه المآسي، يأتينا وعدٌ جميل، فحيث أظهر الشهداء الثابتون على الإيمان في كل الكنائس والجماعات كيف يدعم الله نفسه الجماعة في مستوى أعمق بين المؤمنين، حيث يتطلب الإيمان الشهادة التي تتم عن طريق التضحية بالحياة. فبينما نبقى نحن المسيحيين والكنائس على هذه الأرض في وحدة غير كاملة مع بعضنا البعض، فإن الشهداء يتمتعون بالأمجاد السماوية في وحدة كلية وكاملة. وكما يؤكد البابا القديس يوحنا بولس الثاني بطريقة تثير الانتباه: "إن الشهداء هم أكثر شهادة لحقيقة أنه ببذل الذات من أجل الإنجيل فإنه من الممكن مواجه كل عنصر من عناصر الانقسام والتغلب عليه".

ونجد في مسكونية الشهداء تأكيداً جديداً على إيمان واقنتاع الكنيسة الأولى الذي عبَّر عنه اللاهوتي ترتليانوس بكلماته "إن دم الشهداء بذار لمسيحيين جدد". وبناءً عليه فإننا نأمل أن تصبح دماء شهداء زماننا هذا بذاراً لوحدة الكنيسة في الشرق والغرب. وعلّنا من خلال مسكونية الشهادة ندرك بأعمق وأقصى ما يمكن من الجهود المسكونية، والتي بالطبع تلزمنا للإنخراط بشغف من أجل وحدة الكنيسة لكي نشهد بصدقٍ للمسيح في ومع جسده. إن عالم اليوم ينتظر منا ذلك، ونحن مدينون به إلى الإنجيل.

----------------------------------------

القراءة الأولى: أشعيا 55: 6–9
القراءة الثانية: رسالة القديس بولس إلى أهل فليبي 1: 20-24، 27
الإنجيل: متى 20: 1–16