موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠١٩
السياسة الخارجية والتسامح

جواد العناني :

أهداني الدكتور والباحث المجتهد سعد أبو دية نسخة من كتاب نشره العام 1998 بعنوان “السياسة الخارجية العُمانية في عهد جلالة السلطان قابوس (1970-1998). ومع أنه مضى أكثر من عشرين عاما على نشر هذا الكتيّب، إلا أنني وجدته مفيدا وذا صلة بمساع سلطنة عمان التوسط بين الولايات المتحدة وايران.

ولا أخفي أنني في البداية قلت لنفسي إن هذا المؤلّف القليل بعدد صفحاته (103 صفحات من القطع الصغير) سيكون كتابا ترويجيا أكثر منه تحليليا. وبدأت أقرأ فيه، فإذا به يأتي بعد ثلاثة أبحاث كان الدكتور أبو دية قد نشرها عن السياسة الخارجية للأردن، ومصر عبدالناصر، والثالث مع أستاذ كندي عن قائد صنع القرار في إسرائيل.

وقد عرّف الكتاب مفهوم السياسة الخارجية لدى سياسة جلالة السلطان قابوس. وتخلُص في النهاية، بعد أن تطوي الصفحة الأخيرة من الكتاب، أن سياسة عُمان الخارجية هي سياسة متوازنة. تسعى للتراضي والتفاهم مع الجميع.

تولت أسرة آل سعيد حكم السلطنة منذ أن تولى الحكم الإمام أحمد بن سعيد الذي انتُخِب إماما العام (1744). وقد كانت السلطنة قد حاربت المستعمرين الأوروبيين وطردتهم من ساحل عُمان الذي تقول عنه “انسايكلوبيديا التاريخ الاقتصادي” التي نشرتها جامعة اكسفورد البريطانية أنه كان يعج بعشرات السفن المحملة بالبضائع القادمة من الهند والصين. وقد امتد حكم السلطنة إلى سواحل أفريقيا الشرقية، وبخاصة في زنجبار التي تشكل الآن جزءا من دولة تنزانيا بعد أن ضمها الرئيس جوزيف نيريري بعيد منتصف القرن الماضي إلى تنجانيقا لتشكلا معا تنزانيا الحديثة.

ولكن سياسة السلطنة تبقى متوازنة آخذة كل الاعتبارات وتوازنات القوى، ومحصلة الاتجاهات المحلية والإقليمية والدولية بعين الاعتبار. وبعد انتهاء ما يسميه د. أبو دية تمرد ظفار، استقرت سلطنة عُمان تحت حكم السلطان قابوس.

وتذكرنا السياسة التي تنهجها السلطنة بسياسة الأردن الخارجية رغم التفاوت في المعطيات، ولكن الشبه بين الأسلوبين كبير. ويجب ألا يخلط أحد بين القدرة على التوازن والتسامح من ناحية والضعف من ناحية أخرى. ولعل الكلمة الأمثل التي تجمع بين التسامح بدون ضعف هي كلمة “المرونة” والقدرة على التكيف مع تغير الثوابت حولها.

ويحضرني في هذا المجال تلك القصة الشهيرة عن الراحل الزعيم “نيلسون مانديلا”، الذي دخل بعدما أصبح رئيسا لجنوب أفريقيا إلى مطعم ليأكل، ورأى على طاولة أخرى رجلا أبيض يجلس وحده خائفا مرتعدا. فناداه الرئيس مانديلا وحادثه، والرجل ما يزال مذعورا لا تكاد يده من فرط هلعه تبلغ فمه بالطعام. وبعد قليل خرج الرجل مهرولا من المطعم. وقال أحد أعوان مانديلا “لا أدري ما علة هذا الرجل. لا بد أنه مريض فهو يرتعش ولم يأكل شيئا؟ فرد الرئيس مانديلا ” أبدا هذا الرجل قوي ويتمتع بصحة جيدة. ولكنه كان حارسا على زنزانتي أيام كنت مسجونا. وكلما طلبت منه ماء لأشرب وقف فوق رأسي وبال علي ضاحكا متشفيا. لقد كان خائفا خشية أن آخذ بثأري منه. ولكنني بالطبع لن أفعل معه شيئا.

ربما يكون الرئيس مانديلا قد بالغ في العفو. ولكن أليست هذه من صفات الرجال العظام “العفو عند المقدرة”. وهذا العفو ليس ضعفا، بل تحكم بالذات وهو منتهى القوة.

ولو تأملنا كم تتكبد الأمة العربية من خسائر اقتصادية نتيجة عدم التسامح، أو عدم السعي للمصالحة، وتقديم الثأر والانتقام والتشفي على أي اعتبار آخر، بغض النظر عن الكلفة.

إن الأنظمة غير المتسامحة مع مواطنيها بدون ضعف واخلال بالقانون، وعن جيرانها وأشقائها عند المقدرة قد كبدت الأمة العربية منذ سايكس/بيكو وحتى الآن أكثر من (4) تريليون دولار بأسعار اليوم. وهو مقدار الثروة البشرية والمادية المهدورة والفرص الضائعة المغيّبة.

أما آن الأوان لهذه الأمة أن تتعلم التعايش، وأن تفهم أن آخر مظاهر قوتها يجب أن تمارس على الأعداء لا الأشقاء؟

(الغد)