موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الخميس، ٦ يونيو / حزيران ٢٠١٩
الدبلوماسية الروحية

الأب فادي ضو :

يَذْكر رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في مذكِّراته، أنّه عندما أبلغ الزعيمَ السوفياتي جوزيف ستالين، أثناء مؤتمر يالطا في شباط 1945، أن الفاتيكان قد قرّر مواجهة هتلر، أجابه ستالين ساخرًا: “كم دبّابة عند بابا الفاتيكان؟”.

يدلّ هذا الحوار الشهير، على النظرة إلى موقع القوّة العسكريّة في العلاقات الدُّوَلية. فإنْ كان صحيحًا من جهة، أنه لا يمكن ردع طاغية أو مُعتدٍ عنيف بالوسائل السلميّة، فهذا لا يدلّ من جهة أخرى، على أن العنف وحده هو الذي يصنع التغيير، ويحرّك التاريخ. فلِكَي لا يعيش الصالحون والأبرياء في العالم، من أفراد وشعوب، تحت رحمة الطغاة والظالمين؛ أنتجت الحضارة الإنسانية وسائل عديدة لحمايتهم، تبدأ بالتربية على الأخلاق واحترام الحياة والحوار والتضامن، بهدف تحقيق الخير العامّ والعدالة الاجتماعية، وتمرّ بالقوانين والعقوبات التي تواجه المعتدين، وصولًا إلى وجود المؤسسات الأمنية والعسكرية، التي تهدف إلى فرض تطبيق القوانين وحماية حياة الناس وممتلكاتهم وسيادة الدول، عبر ردع المعتدين.

بالعودة إلى ملاحظة “ستالين” الساخرة، حول حجم القوات العسكرية –غير الموجودة أصلًا– للفاتيكان، نجد أنه كان مُحقًّا في مسألة الحاجة إلى القوّة العسكرية، لإنهاء نظام هتلر النازي، الذي هدّد أمْن أوروبا والعالم بأسره. ولكن في المقابل، لا يتردّد بعضهم في تأكيد دور الدِّبلوماسية الفاتيكانية “الناعمة”، ودعم البابا يوحنا بولس الثاني شخصيًّا لحركة “التضامن” في بولندا، التي أسهمت في زعزعة منظومة حلف وارسو والحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية والوسطى، وصولًا إلى إسقاط جدار برلين في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وتَفكُّك الاتحاد السوفياتي في عام 1991.

من وجه آخر، سوف نجد مجدّدًا هذا البابا نفسه، عاجزًا عن تجنيب العراق الحربَ التي شُنّت عليه في عام 2003، رغم الحملة الدِّبلوماسية الواسعة التي قادها الفاتيكان، والتي وضعته في خلاف مع الولايات المتحدة آنذاك. وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد استعمل وقتها عبارته الشهيرة: “ما من حرب عادلة. السلام وحده يكون عادلًا”، مؤكّدًا أنّ: “العنف والسلاح لا يمكنهما حلّ مشاكل الإنسان”.

أخيرًا، وقف العالم منذهلًا متأثّرًا، وبعضهم مصدومًا أو حتى شاجبًا، أمام مشهد البابا فرنسيس، وهو يقبّل أقدام زعماء جنوب السودان المتحاربين. وكان البابا الكاثوليكي بالتضامن مع رئيس الكنيسة الأنغليكانية جاستين ويلبي، قد دعَوَا الزعماء المتخاصمين في جنوب السودان، إلى المشاركة في خلوة روحية مدة يومين في الفاتيكان، انتهت بذلك الموقف المعبّر للبابا فرنسيس، الذي قبّل فيه أقدامهم، ليُشدّد -كما أعلن موقع الفاتيكان- على ضرورة السير في درب المصالحة، لأنّها وحدها تقود إلى السلام. وقد طلب من ضيوفه أن يعملوا بجهد من أجل إحلال السلام في جنوب السودان، قائلًا: “إنّ السلام هو أول واجب يقع على عاتق قادة الأمم المدعُوِّين إلى البحث عنه، وهو أيضًا شرط أساسي من أجل احترام حقوق كل إنسان، وتحقيق التنمية المتكاملة للشعب بأسره”.

أمام طبول الحرب التي تُقرع بشيء من السهولة في هذه الأيام، وأمام صفقات الأسلحة التي يَكثر الحديث فيها، وتبدو أحيانًا وكأنّها حوّلت وزراء الخارجية وقادة الدول إلى “مُروّجي بضائع” وتجّار، لدى مصانع الطائرات والصواريخ وغيرها من الأسلحة المدمّرة؛ نحتاج إلى التأمل مجدّدًا في دور الدِّبلوماسية في بناء السلام، ودور الأديان والقيادات الروحية في الإسهام في ذلك، وتجنيب الشعوب ويلات الحروب.

إنِ اختلفنا مع البابا فرنسيس، أو وافقناه على الأسلوب الذي يستعمله أحيانًا -وهو لا يخلو من المواقف الرمزية والعاطفية التي قد تكون صادمة لبعضهم-، فإنّه لا بدّ لنا من الترحيب بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدِّبلوماسية الروحية، وبالتأثير المعنوي لمواقف القيادات الدينية، مُسْهمة في السعي لحلِّ النزاعات سلميًّا وتجنّب الحروب. ثم إنّه يجب ألّا ينحصر العمل للمصالحة والسلام في الدور الذي تقوم به القيادات الروحية، وألّا يَترك ذلك انطباعًا فينا، عن أن الدِّبلوماسية السياسية، هي أصلًا دبلوماسية مصالح وحروب، لا تهدف إلى بناء السلام.

يَحضرني هنا الموقف النموذجي لوزير الخارجية الفرنسي روبير شومان، الذي يُعدّ أحد الآباء المؤسّسين للاتحاد الأوروبي، الذي أخذ المبادرة في 9 أيار/مايو 1950، بالإعلان لضرورة إنشاء مجموعة الفحم والصُّلب بين الدول الأوروبية المتقاتلة سابقًا، إبّان الحربَين العالميَّتَين الأولى والثانية. وذلك وَفْق قوله: “لِجَعْل الحربِ بين الخصمين التاريخِيَّين فرنسا وألمانيا، ليست غير منطقية وحسب، لا بل مستحيلة”. أدّى هذا الموقف الدِّبلوماسي بالفعل، إلى إنشاء الاتحاد الأوروبي تدريجيًّا، وتأمين السلام والاستقرار للقارة الأوروبية. فكما يقول شومان: “لا يمكن المحافظة على السلام العالمي بدون جهود مُبدِعة، تتناسب مع الأخطار التي تتهدّده”.

(نقلا عن موقع ’تعددية‘)