موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٨
الجار قبل الدار

د. صبري الربيحات :

التاريخ العربي والانساني مشبع بالقيم والقصص والروايات التي تتحدث عن الجيرة والجوار. وفي تجارب الآباء والأجداد الكثير من التراث حول شكل وأنماط العيش والتفاعل والشراكة التي تنمو وتتطور بين الأفراد والأسر التي تسكن في بيوت ووحدات سكنية متجاورة. فالقرب المكاني يولد العديد من المصالح المشتركة التي تقتضي إقامة علاقات قد تتطور لتنافس أو تكمل أو تتفوق على العلاقات التي تنشأ بحكم القرابة وصلة الدم. في الدين والتراث العربي العديد من الأحاديث النبوية والحكم والأقوال التي تتحدث عن فضائل حسن الجوار وأهمية العلاقة لأطرافها وللمجتمع وتنظيمه واستقراره.

في المجتمع الرعوي والزراعي قد تتذبذب علاقة الجيران بين العداء والصداقة فتارة يتنازعون على المياه والمراعي وأخرى يتحدون في وجه التهديدات والأخطار الطبيعية أو الخارجية وفي كل الأحوال تشكل المصاهرة إحدى أهم الوسائل التي تحد من الخلافات وتؤدي إلى المزيد من التقارب والوئام بين العائلات والقبائل المتجاورة.

التغير الكبير الذي طرأ على مفهوم الجيرة وعلاقة الجيران كان بسبب التحول من الحياة الريفية إلى الحضرية حيث تعيش الأسر في أحياء وضواحي المدن ويقضون جل أوقاتهم في وظائف وأعمال تقع خارج حدود الأحياء السكنية التي يعودون لها للنوم . ففي الحياة الحضرية الجديدة يتجاور أشخاص غرباء لا يعرفون بعضهم البعض وقد لا يهتم الكثير منهم في التعرف على الغير أو قد يفضل ان لا يتم هذا التعارف. البعض يشعر أن في محدودية التفاعل حماية وحرية له ولأسرته فهو لا يرغب في قضاء وقت مع أشخاص لا يعرف خلفياتهم ولا يملك الكثير من الوقت لاستثماره في علاقة لا مستقبل لها.

باستثناء بعض الأحياء الشعبية التي يتجانس سكانها في الخلفيات والمهن والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية فقد أصبح سكان الكثير من أحياء المدن يتباهون بأنهم يقيمون في منازلهم منذ أعوام دون أن يحاولوا معرفة من يسكنون بجوارهم. الحياة الحضرية الجديدة بما فيها من خدمات وانشغالات وتقسيم دقيق للعمل لا تشجع الأفراد والأسر على التعاون فالأطفال يذهبون لمدارس خارج الحي تقلهم حافلات هذه المدارس والكبار يعملون في مؤسسات ومهن مختلفة وللجميع برامج تسلية وتنمية وترفيه تقع غالبيتها خارج حدود المكان ويتطلب تنفيذها وقتا يفوق الوقت المتاح لأفراد الأسرة.

الجيرة ودفء العلاقات الذي كان يتمتع به الآباء والأجداد لم تعد موجودة في الكثير من أحياء المدن والبلدات الجديدة فلا ساحات للعب الأطفال ولا جيران يراقبون الصغار ولا خبرات مشتركة أو أنشطة يمارسها الأقران في أزقة الحي وشوارعه الضيقة.

الألعاب الالكترونية والتدريبات في النوادي والفرق الرياضية حلت مكان الأنشطة التي شكلت أولى مراحل استكشاف الصغار لميولهم ومواهبهم وسط جيرانهم وأمهات الأصدقاء اللواتي كن يتناوبن على الرقابة والإشراف والتواصل والتأديب للصغار وسط بيئة مفعمة بالحب والتعاطف والأخوة الابدية.

الانحراف المتزايد والكثير من التشوهات التي أصابت مجتمعنا اليوم ترتبط ارتباطا وثيقا بتدهور وانقراض مؤسسة الجيرة التي كانت أحد وأهم مؤسسات الرقابة والتوجيه والضبط المجتمعي. بين الجيران كانت تكتشف مواهب الصغار وفي الأحياء كان الأبناء يستمتعون برعاية الآباء والأمهات ويتعرفون على نماذج متنوعة للأبوة والأمومة والخير والشر .

مديرية الأمن العام التي حاولت ومنذ أكثر من ثلاثة عقود إحياء مفهوم الجوار وتوظيفه في التصدي لمشاكل الجريمة والانحراف مطالبة اليوم بإعادة النظر بهذا البرنامج ودراسة إمكانية العودة إليه كأحد أهم الأساليب والأدوات التي تكمننا من العناية بالأبناء وتحصين الأحياء والوقوف جميعا في وجه الجريمة والانحراف والأخطار التي تهدد سلامة مجتمعنا.

(الغد الأردنية)