موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣٠ يونيو / حزيران ٢٠١٩
التقوى الشعبية.. محاولة تحليل

الأب ألبير هشام نعّوم – بغداد :

يوم السبت، 29 حزيران 2019، ألقيتُ محاضرةً في إحدى كنائس بغداد، وفيها وجّهتُ النظر إلى موضوع "التقوى الشعبية" وهي ظاهرة منتشرة ليست في شرقنا المسيحي فقط، كما يعتقد البعض، بل حتّى في الغرب. ولكي أشرح معناها، أشرتُ أولاً إلى ميزة الإنسان الذي يتكوّن من ثلاثة قوى أساسية: الإرادة، العقل، العاطفة. ورسمتُ هذه الأبعاد الثلاثة على شكل مثلث، وضعتُ الإرادة في الرأس، والعقل والعاطفة في جانبي قاعدته. وذكرتُ أن على الإيمان أن يدخل في هذه القوى الثلاث لكي يحقق اكتماله في الإنسان.

ولكن، هناك من يركّز في إيمانه على "عاطفته" أكثر من عقله، فيميل إلى الصلوات والعبادات التقوية، ويتعامل مع إيمانه بالله بعاطفة كبيرة، وإذا زاد عن حدّه سيُشبه "... الذي يسمع الكلمة ويتقبّلها لوقته فرِحًا، ولكن لا أصل له في نفسه، فلا يثبت على حالة، فإذا حدثت شدّة أو اضطهاد من أجل الكلمة عثر لوقته" (متّى 13/20-21). أمّا من يركز على "عقله" أكثر من عاطفته، فتجده يناقش ويجادل في صحّة إيمانه المسيحي من خلال البراهين والدلائل، ويستميت في الدفاع عن إيمانه أمام الآخرين. ولكن، مثل هذا المسيحي خطرٌ كبير على الإيمان إن لم يصلّي!

فعدم التوازن هذا بين "العاطفة" و"العقل" والتطرف فيهما، يؤدي إلى خلل في "الإرادة" وبالتالي ينتج لدينا مسيحي لا يعرف أو لا يريد إرادة الله في حياته، فنلقاه يصلّي ولكنه لا يعيش ما يريد الله، أو يتكلّم كثيرًا عن الله ولكنه لا يؤمن به ولا يصلّي له.

ويشرح كتاب "ما هو إلهك؟" لمجموعة من المؤلفين (جامعة القديس يوسف – المعهد العالي للعلوم الدينية، بيروت، 1994، 40-41) حالة من يركّز على العاطفة أكثر فيقول: "هؤلاء يشكّلون شريحة في مجتمعنا تتمثل غالبًا في كبار السن، ومن النساء بخاصّة، نجدهم مداومين على الصلوات والعبادات التقوية، ولا سيما الأكثر شعبية منها، وحضور القداديس وحتى اليومية منها. إنهم ملتزمون في تطبيق قوانين الدين كما يأمر الله! فالدين بالنسبة إليهم صلوات وطلبات يرفعونها إلى الله. وهم يساهمون في نقل دينهم هذا، وكذلك تقواهم التي ورثوها من أجدادهم، إلى أبنائهم أو إلى غيرهم، فيعلمونهم مخافة الله والعمل بوصاياه (مع ما يرافقها غالبًا مما نسميه اليوم نفسياً عقدة الشعور بالذنب). إلا أن تأثيرهم هذا في الآخرين قد يختلف من فردٍ إلى آخر. فمنهم من لا يملك ذلك التأثير القوي في أبنائه مثلاً، فسرعان ما يندفع هؤلاء الأبناء يشقون طريقهم في مسالك الحياة ناسين أو متناسين الدين الذي تربوا عليه. وفي المقابل، نجد فئة أخرى تملك هذا التأثير، مما يولد في الأبناء ذات التقوى والعبادة حتى عندما يكبرون، وقد تدفع بالبعض إلى اعتناق الحياة الرهبانية أو الكهنوتية. لذا فمن الممكن أن تُسهم هذه الشريحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الأقل، في الحفاظ على أصول الدين ومعتقداته على مر الأجيال. إلا أنهم لا يُسهمون في تطوير إيمانهم ومحاولة بنائه من نواحٍ مختلفة...".

إنها دعوة لندرس ونحلل هذه الظاهرة فنخرج بثمار مفيدة لإيماننا في عالمنا المعاصر الذي يميل إلى العقلنة!