موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٥ مايو / أيار ٢٠١٨
التسامح في مواجهة التشدد

د. زيد حمزة :

تحت هذا العنوان وقبل أحد عشر عاما كتبت في ((الرأي)) (4/ 8/ 2007) ما يلي: في خضم الحديث عن الديمقراطية والعلمانية وحقوق الانسان يتردد تعبير ((التسامح)) في مواجهة الأفكار المتطرفة والمبادئ المتشددة وهو مأخوذ عن الكلمة الانجليزية Tolerance مع أن معناها أوسع من ذلك إذ يشمل القبول بالآخر وتحّمل آرائه واحترام أفكاره ما دامت سلمية وغير معتدية، لكننا هنا مضطرين لاستخدام الكلمة (( التسامح )) طالما أصبح القصد منها شائعاً ومعروفاً في هذا المجال تحديداً أي (( تبادل )) السماحة حين تصطدم وجهات النظر..

لقد اصبح من المعلوم أن ادعاء احتكار الحقيقة يؤدي الى الاعتقاد بأن الآخرين كلهم على خطأ، خصوصا عند من يظنون أنهم يمتلكون تفويضاً سماوياً بفرض فكر ما على من لا يريدون هذا الفكر، وأخطر ما في هذا (( التشدد )) هو الاعتداء على الآخرين إذا لم (( يقتنعوا ))! والتاريخ البشري مليء بالامثلة التي تبرهن على ذلك، لكننا نلتقط هنا بعض تلك التي عايشناها خلال المئة عام الأخيرة:

في الغرب وتحديداً في ايطاليا وألمانيا شهدنا صعود الفاشيين والنازيين مستغلين الديمقراطية التي أتاحت لهم النشاط والانتشار ومن ثم الاستيلاء على الحكم من خلال صناديق الاقتراع، وبعد ذلك توالت جرائمهم ضد مواطنيهم من الاحزاب الأخرى أو حتى الاديان الاخرى ثم ضد القوميات الأخرى في حرب عالمية مرعبة قضت على أرواح 55 مليوناً من البشر.. ومؤخراً في أميركا تطور التطرف لدى الكنيسة الايفانجليكية فأفرز جماعة ال Dominionists التي تكفرّ الآخرين وتهددهم باستعمال العنف. أما في المشرق فقد شهدت الساحة الفكرية صراعاً بين القوى المتشدده والقوى المعتدلة والمستنيرة منذ ظهور الاخوان المسلمين عام 1928 ومازال الصراع قائما حتى اليوم يطفو على السطح حينا ويختفي في الباطن احياناً اخرى، كما أن فرقاً ومجموعات عديدة خرجت من تحت عباءة هذا التشدد وحاولت فرض نفسها ونهجها ومبادئها على الآخرين بالقوة وفي ساحات متعددة كان منها أفغانستان والعراق والصومال وما حدث في غزة.. ولا ننسى طبعا البعثيين حين استلموا الحكم في العراق وسوريا لمدة طويلة والشيوعيين لفترة وجيزة مع عبد الكريم قاسم.

لا يوجد حد فاصل في التعامل بين التشدد والتسامح لكن هناك مؤشرات عامة أنتجتها الخبرة الطويلة لدى العديد من المجتمعات البشرية في المجالين السياسي والاجتماعي، ومن أوضح ما قرأت حول ذلك ما جاء في كتاب The Open Society and Its Enemies ( المجتمع المنفتح وأعداؤه ) لكارل بوبر Karl Popper الصادر عام 1971: (( ان التسامح Tolerance المطلق لا بد أن يؤدي في النهاية الى تغييب التسامح نفسه، فاذا نحن تسامحنا بلا حدود حتى مع أولئك الذين هم أنفسهم غير متسامحين، وكنا غير مستعدين استعداداً كافيا لان ندافع عن مجتمعنا المتسامح في وجه الاعتداء عليه من قبلهم فانهم سوف يدمرون المتسامحين ومعهم ((التسامح)) ذاته.. ويمضي كارل بوبر: أنا لا أوحي بهذه المعادلة أن علينا دائماً أن نقمع العقائد غير المتسامحه، إذ ما دمنا قادرين على مواجهتها بالحوار العقلي والمنطقي ووقفها عند حدها إذا لزم بالاعتماد على دعم الرأي العام فان القمع يصبح غير حكيم البتة، لكن علينا أن نستخدم حقنا في قمعها إذا كان ذلك ضروريا حتى بالقوة، لأن أصحابها غير المتسامحين قد يظهرون على حقيقتهم في عدم الاستعداد لملاقاتنا على مستوى الحوار وقد يمنعون اتباعهم من الاصغاء لأي جدل عقلاني ثم يأمرونهم أن يردوا علينا باستعمال قبضاتهم أو مسدساتهم، لذلك ينبغي – باسم التسامح – أن نعلن عن حقنا في عدم التسامح مع غير المتسامحين وعلينا أن نعلن بوضوح أن أي عقيدة تدعو لعدم التسامح إنما تضع نفسها خارج القانون، وعلينا أن نعتبر التحريض على عدم التسامح عملاً جرمياً ، تماماً كالتحريض على القتل أو الاختطاف..)). وبعد.. لقد قال الامام الشافعي قبل أثني عشر قرنا: ((كلامي صواب يحتمل الخطأ ، وكلامك خطأ يحتمل الصواب)) ومازال بين ظهرانينا من لم يستوعب ذلك حتى اليوم !

أستحضر هذا المقال اليوم لا حفزاً للتفكر والتمعن فحسب بل كذلك للتذكير بان معارضة التشدد لم تتوقف قط في تاريخنا المعاصر منه والقديم رغم أنها لم تكن سهلة أبداً، وقد مارسها كثيرون وبشجاعة في فترات مختلفة وعلى العديد من المنابر الاعلامية رغم الرقابات الحكومية العربية الموجهة أو الممولة احيانا من الخارج ورغم نفوذ الجماعات المتعصبة نفسها وهي لا تخجل من المجاهرة بتعصبها باللفظ طوراً وبالعنف طوراً آخر.. وباسم الدين!

واغتنم مناسبة هذا الحديث ايضاً للتأكيد على ان المعارك المريرة باهظة الثمن التي خاضتها بعض الشعوب العربية في ثوراتها منذ عام 2011 ضد الظلم والطغيان والرجعية ومن اجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لم تضع سدى كما يحب البعض ان يروّج فقد راكمت وعياً جماهيريا منقطع النظير وحطمت في طريقها كثيراً من حواجز الخوف والحرج والحساسية الفكرية وفي خضمها ثبت لكثير من مثقفيها من كل العقائد ان لغة الحوار والتفاهم سلمياً هي التي تقود المجتمعات الى عالم ديمقراطي ينمو ويتطور ويلحق بركب الحضارة.. كما أدركتْ شرائح عريضة من هذه الشعوب أن التشدد والتعصب واحتكار الحقيقة قد اخذت البلاد الى نتائج كارثية لا حصر لها، خصوصاً بعد عام 2012 – 2013 الذي حكم فيه الاخوان مصر وظنوا أنهم قادرون على إعادة المسيرة الى الوراء وكشفوا عن نيات وسياسات لهم كانت مضمرة، بما مهّد للاطاحة بهم واستيلاء الدولة العميقة على الحكم!

(الرأي الأردنية)