موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
التسامح فضيلة ناقصة

فادي ضو :

185000 نسخة بيعت في فرنسا سنة 2015، من كتاب “رسالة في التسامح” للفيلسوف فولتير، بعد الاعتداء الإرهابي على مجلّة “شارلي إبدو”. والسؤال: هل التسامح هو الرَّدُّ الشافي على التطرّف والإرهاب؟ وما الذي يجعل الناس يتهافتون على هذا الكتاب الذي صدر سنة 1763، أيْ قبل 252 عامًا على ذلك الاعتداء آنذاك، وكأنّ فيه العلاج الوحيد لمرض عالمنا الخبيث، أعني التطرّف؟ إنَّ ما جرى في فرنسا، يجري أيضًا في مجتمعاتنا العربية، التي تكثر فيها المؤتمرات والفعَّاليّات عن قيمة التسامح.

كَتب فولتير رسالته عن التسامح، ليُعيد الاعتبار إلى شخص اسمه جان كلاس، حَكم عليه القضاء الفرنسي ظلمًا بالإعدام تحت الضغط الشعبي، متَّهمًا إيّاه بقتل ابنه الذي اعتنق المذهب الكاثوليكي في الديانة المسيحية، في حين هو والعائلة يَدينون بالمسيحية على المذهب البروتستانتي. وبعد ثلاث سنوات من تنفيذ حكم الإعدام، أعاد القضاء الفرنسي المحاكمة، وأعلن براءته. أيقظت هذه الحادثة شبح “الحروب الدينية”، التي كانت قد عصفت أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بسبب الصراعات الدموية بين أتباع المذهبَين الكاثوليكي والبروتستانتي في المسيحية. وقد أراد فولتير أن يحذّر المجتمع من خطورة العودة إلى التعصّب الديني والمذهبي والخرافات الدينية. فقال: “إن الفلسفة، والفلسفة وحدها، التي هي أخت الدين، نزعت السلاح من أيادٍ كان الفكر الخرافي أدْمَاها طويلًا. والفكر البشري تفاجأ عند استيقاظه من سُكْره، من المبالغات التي قاده إليها التطرّف”.

لقد طرح فولتير فضيلة التسامح، كسبيل إلى تجنّب الحروب الأهليّة. ففي مَعرِض مقارنته بين التسامح والتعصّب، شبّه الأول بالأمِّ التي تتخلّى عن ولدها لتنقذ حياته، والثاني بالأمِّ التي تفضّل أن يُذبح ولدها لكي لا يأخذه أو يستفيد منه شخص آخر. يتبيّن من استعماله لهذا التشبيه المقتبَس من مأثورات سليمان الحكيم، أن مفهوم التسامح فيه نوع من إذعان لسلطة قاهرة، بهدف تجنّب التصادم والعنف. فيَقْبل فولتير مثلًا -على هذا الأساس- أن تتمتّع أكثريّةٌ تَدِين بِدِين الملك، بامتيازات غير متوَافِرة لأقلِّيّة دينيّة أخرى، شرط أن تكون حياة المواطنين وحقوقهم الأساسية مَصُونة. أمَّا طموحه، فيَكمن في أن يرى جميع الناس أنفسهم إخوة، إذ يسأل: “ألسنا جميعًا أبناءً لنفس الأب، وخليقة لنفس الإله؟”.

كان الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، قد كتب أيضًا قبل فولتير “رسالة في التسامح” سنة 1689، اعتبر فيها أنه يقوم على مبدأين. الأول: يَكمن في الفصل بين السلطة السياسية والدين؛ لأنّه في غياب ذلك -بحسب قوله- سوف تبقى النزاعات متواصلة بين هؤلاء الذين يعملون لخلاص الناس، وأولئك الذين يعملون للصالح العامّ. أمَّا المبدأ الثاني، فهو ألَّا يكُون إكراهٌ في الدين تحت أيِّ ذريعة. فيجب أن تتبنّى كلُّ الجماعات الدينية، حقّ الإنسان الطبيعي في حرية الضمير والمعتقد واختيار الدين وممارسته، وأن ينطبق ذلك على حدٍّ سَواء على أتباع تلك الجماعات الدينية وعلى سائر الناس. يقول لوك بأنه: “ليس تَنوّع الآراء الذي لا يمكن إلغاؤه، بل رفْضُ التسامح تجاه الآراء المختلفة، هو الذي أحدث في العالم المسيحي كلَّ هذه الضوضاء والحروب تحت غطاء الدين”.

نستنتج من السياق التاريخي لولادة مصطلح “التسامح”، والتأصيل له فلسفيًّا أو حتى دينيًّا، أنّه ارتبط بغاية مباشرة وأساسية، هي ردع الظلم والعنف، خاصة تجاه الفئات المهمّشة بالنسبة إلى الحكّام والأكثريات التابعة لهم. وهذا بالواقع ما يدلُّ عليه أيضًا الأصل اللغوي للكلمة. ففي اللغة اللاتينية، يرتبط أساس الكلمة بمعنى “تحمّل الألم”، والقبول لِأمرٍ مختلف غريب وذِي توصيف سلبي. لذلك، لا تزال الكلمة إلى اليوم تُستعمل في اللغات اللاتينية، للتعبير عن تَحمُّل شيء مزعج أو تَقبُّله، كالألم أو الضجيج. وفي اللغة العربية، يتشارك مصطلح “التسامح” الجذر نفسه مع فعل “سامح”. ومع هذا التمايز بين التسامح كقبول لموقف مختلف، والمسامحة التي تعني العفو عن ذنب أو إساءة، إلّا أن الأمرَيْن يقتضيان موقفًا من جهةٍ لديها الخيار أو السلطة، في أن تَتسامح مع الآخر على اختلافه، أو تُسامحه على إساءته.

إنّ السياق التاريخي لمصطلح التسامح، كما أصلُه اللغوي، يربطانه بديناميَّةِ معنًى تَجعل العلاقة غير متكافئة بين الطرفَين المعنيَّيْن؛ ما يتعارض مع مبدأ أساسي في عالمنا الراهن، ألا وهو المساواة بين جميع الناس انطلاقًا من كرامتهم الأصيلة بذاتهم. أيضًا يتعارض هذا المعنى للتسامح، مع اعتبار التنوّع مَصدرًا للتعارف والتفاعل والإبداع. لذلك، إنّ فضيلة التسامح، وإن كان لها الفضل سابقًا في وقف حروب وحقن دماء كثير من الأبرياء؛ لكنها اليوم لم تعُدْ تَرقى إلى مستوى القيم الأساسية للعيش معًا.

العيش معًا، الصادق، لا يتحقّق في ظلّ فوقيّة المتسلّط بِاسْم القوة أو الأكثرية، ولا في تَخلّي أقليّة عن شيء من كرامتها للمحافظة على وجودها وحياتها. فهل تَرغب مجتمعاتنا اليوم في الانتقال من فضيلة التسامح “الناقصة”، إلى شجاعة الاعتراف بالمساواة وبالحقِّ في الاختلاف، وتثمين التنوّع؟ أو هل “التهافت” الراهن على مصطلح التسامح، يعني أنّ الناس يُفضِّلون السِّلم الزائف، للمحافظة على غلبة قوميّة أو دينية أو حضارية ما، بدل الانتقال إلى السلام المستدام القائم على الأخوّة البشرية الشاملة، والحاضن لكل تنوّعاتها؟

(تعددية)