موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٩
التسامح.. رؤية حضارية

محمد حسن الحربي :

من الحقائق التي أصبحت بحكم التجارب الإنسانية مسلَّمَات، حقيقة أن العيش المشترك هو ركن الدولة العصريّة، ويشكل الاعتراف بهذه الحقيقة بداية العمل على ضمان الاستمرار في النهج ذاته وتطويره، ولعل من الأسئلة التي قد تطرح في هذه الجزئية تعميقاً لهذه الحقيقة، سؤالان: ألم نجتمع على ما نحن عليه من تشارك واختلاف، طواعيةً وبإرادتنا؟ ألم نقرّر ضمناً وبكامل وعينا، أن نعيش المشاركة الغنيّة بالمعاني والقيم، ونحافظ عليها قائمةً مستمرةً دون ثغرة يدخل منها المخربون والأشرار؟

الجواب.. نعم؛ فما من أحد قادر على جعلك تعيش قيم المشاركة والتسامح والسلم الاجتماعي بكامل معانيه، إذا أنت لم تكن واعياً وراغباً في هذه التجربة الإنسانية والحضارية، وما من أحد قادرٌ على جعلك تتقدّم وتتطوّر إلاَّ إذا كنت حريصاً وجاداً في أن تكون في مصاف السابقين تنافسهم في مضمار الحضارة، إضافةً وتأثراً وتأثيراً، في عملية أخذ وعطاءٍ متبادلين، وفي حالة مثاقفة معرفيّة إنسانية مستمرة لا تنتهي، تشمل كافة مجالات الحياة وجوانبها، وهكذا إنما تكون حال الدول العصرية، اليقظة والمتنبّهة، والطموحة التي تنشد المكانة الأفضل لها ولشعبها في الحاضر والمستقبل، إن الذين يتشاركون العيش ويعلون قيم التسامح فيما بينهم، في مجتمع يتطلع إلى التنمية والتطور والرقي، هم أولئك أصحاب الإرادات التي تعاظمت في تطلعاتها ومطامحها، فجرفت في طريقها الجهل والغلو والفقر والتخلف والمرض، فغدت صلبةً لا يقف في طريقها مخرب أو متطرف أو إرهابي، لقد بات معلوماً لبناة الحضارة والدول العصرية، أنه من غير الجائز أو المقبول تسليم الأوطان والإنسان فيها، إلى المجهول أو لمجموعة من المتطرفين والمخربين والأشرار، تحت أي حجة أو شعار.

تعزيز السلم في المجتمعات البشرية، المسلمة منها وغير المسلمة، يحتاج أول ما يحتاج إلى إشاعة قيم التسامح لتصبح ثقافة عامة لدى أفراد المجتمع، وإلى حب العيش المشترك، لما ينطوي عليه من إثراء للتجربة الإنسانية في الحياة، وإلى التفكير في الآخر، مصالحهُ ومشاعرهُ وثقافتهُ، وإلى أن نبلغه مأمناً إذا ما اقتضى الأمر ذلك، وعليه مثلما علينا من واجبات؛ فعبر هذا التبادل البناء الذي يتعدى المصالح والمشاعر والثقافة وحرية المعتقد، تُبنى الدولة العصرية، وترقى المجتمعات البشرية على ما فيها من اختلاف الألسن والألوان، وتُصان الحقوق، ويأمن الفرد في يومه وغده؛ إذ إن التسامح - الذي - هو في أصل الإنسان، أما التعصّب والتطرف فهما دخيلان على فطرة الإنسان، وهذه حقيقة ثانية تتضافر مع الأولى في سياق الموضوع نفسه وتشده، ولفتني في سياق التسامح، ما أورده المفكر جابر عصفور - وزير الثقافة المصري السابق- في كتابه (هوامش على دفتر التنوير)، من أن التسامح يمكن (إنتاجه) وتوفّيره في أي مجتمع بشري، وعلى نحو تلقائي بل حتمي، إذا ما توفرت له عناصر بعينها، ووضع تلك العناصر في شكل معادلة كالتالي (التنوع+المساواة+السلام = التسامح).

وبتقديري، إن التسامح ينبغي أن ينبني على اعتقاد أن هنالك دائماً من قد يخالفك النظرة إلى الموضوع، أو بالرأي أو بالفكر أو بالثقافة واللسان والمعتقد، وهذا هو الواقع الماثل عياناً بياناً في حياة الفرد اليومية في مختلف بقاع الأرض؛ فالتسامح وحده يحمل حلاً سحرياً لمرض التعصّب الذي تفشّى في المجتمعات البشرية، والتعصب بحسب تعريف المفكرين له (نوع من الغلو الشديد في الاعتقاد، بصحة ما يقوله الفرد، ويراه إلى حد ملامسته العصمة).. والعصمة لله، وختاماً، لنا في قوله سبحانه وتعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) خير ما ينبغي تأمله والوقوف عنده.

(الاتحاد الإماراتية)