موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ يوليو / تموز ٢٠١٩
البطريرك ساكو يوجّه رسالة الى الأساقفة والكهنة قبيل رياضتهم الروحية

الكاردينال لويس روفائيل ساكو :

الإتباع – التلمذة فعلُ إيمانٍ ومسألةُ حبٍّ، وليس مجرد فكرة أو عمليةٍ مسلكيّةٍ. وكاريزما المكرَّس ان يَقيس ذاتَه على قياس ملء قامةِ المسيح، وليس على نفسه ورغباته وطموحه. عليه ان يلبّي نداء الرب بـ “هاءنذا“ على غرار صموئيل (1 صموئيل 3: 4)، وان يسعى ليأخذ منه شيئا كلَّ يومً، ويضعه على نفسه ليتحول تدريجياً اليه، وخصوصاً بالنسبة للكاهن الذي مُسِحت يداه بزيت الميرون، حتى يتشبه بالمسيح.

هويتنا كمكرسين مرتبطة ارتباطاً مطلقاً بالمسيح الذي هو قدوتُنا وأساسُ خلاصنا. اختيارنا له، مسألة حبٍ ينبغي ان يكون أقوى من أي شيء آخر في الدنيا، لنكون تحت تصرفه، لذلك وهبنا له ذاتنا بحرية. تكريسنا هذا يولد من رحم الإيمان والإنجيل والصلاة، للإرتقاء الى ملء قامةِ المسيح (أفسس 4: 13). حضوره فينا يحررنا من القلق والخوف، ويمنحنا قابلية التجاوز. أما مشاكلنا، إذا ما شخّصناها بعمق، فهي ايمانية ومتعلقة بفتور ارتباطنا بالله وبالمسيح.

الرياضة الروحيّة، مناسبةٌ سنويّة، ضروريّة للخلوة – السكينة، وللخروج من الامور الادارية الرتيبة، لنلتقي مع ذاتِنا، ومع بعضنا البعض، ولنصلي ونقرأ واقعنا أمام انظار الله. الرياضة زمن نشتغل فيه على ترويض ذاتنا، فنُوقِظ قلبَنا، ونَنضج وننتعش انسانياً وروحياً واجتماعياً وكنسياً. هذا هو مشروع التلمذة، اي التعلّم من المسيح، عِبرَ الاصغاء اليه بانتباه، والطاعة له. فالاصغاء يُمكِّن المُصغي والمتكلم من اقامة علاقة عميقة بينهما، خاصة اذا كان المتكلم – الملهم هو الروح القدس.

الاتباع استجابة حرّة لدعوة المسيح الى السير على خطاه بأمانة وفرح، والالتصاق به، ومرافقتِه، وقراءة كلماته والتأمل بها. هذه الخطوات تعمق معرفتنا به، وترسِّخ حبّنا له، وتقوِّي الشركة بيننا، حينها تشع علاقتنا فنندفع الى الالتزام بخدمة الآخرين (أعمال الرسل 20: 35، متى فصل 25). الاتباع يتطلب الدخول من “الباب الضيق” (متى 7: 13)، الذي هو شخص المسيح (يوحنا 10: 9)، وليس مكاناً جغرافياً. اتباعه بجذرية: “اترك كل شيء واتبعني” (لوقا 18: 18-25)، سيساعدنا على السير بقربه، ويسندنا في مواجهة الصعاب والتحديات، لئلا نعيش على هامش تكريسنا. وهنا اشدد على أهميّة علاقة الكاهن مع المسيح كمنطلق لعلاقته مع شعبه.

كل ما نفعله من دون العلاقة مع المسيح يبقى جسماً بلا روح. هذه الخبرة الوجدانية علينا ان ننقلها الى الآخرين، كما فعل فيليبس مع نتنائيل “ولَقِيَ فيلِبُّسُ نَتَنائيل فقالَ له: الَّذي كَتَبَ في شأنِه موسى في الشَّرِيعَةِ وذَكَرَه الأنبِياء، وَجَدْناه، وهو يسوعُ ابنُ يوسُفَ مِنَ النَّاصِرَة. فقالَ له نَتَنائيل: أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شَيٌ صالِح؟ فقالَ له فيلُّبس: هلُمَّ فانْظُرْ؟” (يوحنا 1: 45-46). هذه الرسالة لن نقدر أن نؤديها بفاعلية إلا اذا تشبّهنا به. بهذا المعنى يقول اقليمس الاسكندري في كتاب المربي: “لنتشبهّنَّ بالكلمة إذن في جميعِ أعمالنا وتصرفاتِنا، فهو لنا القدوة والمثال، ومشوراته هي طرق وأنظمة موجزة لإنماء بذور الأبدية في نفوسنا…والمسيح يهدف من خلالها إلى تربيتنا وتربية البشر جميعاً”.

أحياناً نلمس أن ليس عند هذا المكرس أو ذاك ما يشهد به. يا للخسارة! لنحافظ على أدبيات تكريسنا التي بدأت تتراجع، مما ينعكس على الدعوات. نعم، عندنا صعوبات وآلام، لكن أما تكفينا “نعمة الله” (2 قورنثية 12: 9). لنتمسك بروح الرجاء الذي يميّز ويندهش ويشكر، ولا نتركن روح العالم (الطموحات الشخصية، والشائعات، ووسائل التواصل الاجتماعي والافكار الليبرالية الغربية المتطرفة)، تخرّب ثقتنا وعلاقتنا وانسجامنا. فناسُنا يحتاجون الى مكرسين فرحين وسعداء، يتفهمّون واقعهم، وليس الى اشخاص مكتئبين وعبوسين: “افرحوا في الرب كل حين، واقول لكم ايضاً افرحوا” (فيليبي 4: 4). بصراحة عندما يغيب عنا الفرح، يتعين علينا ان نبحث عن السبب في قلبنا، وليس في مكان آخر، لذا نحتاج الى تنشئة قلبنا بشكل مستدام.

طموحات: لماذا لم اُصبح أُسقفاً؟

يطمح بعض رجال الدين أن يكونوا أساقفة أو..، ومن المؤسف جداً ان يُصبح هذا الهدف هاجساً obsession يتسلط على تفكيرهم ومواقفهم فيسجنهم. هؤلاء الأشخاص غايتهم الترقية من أجل الترقية. وعندما لا تتحقق أحلامهم يتخبطون ويتذمرون وينتقدون الرئاسة الكنسية ويعيشون بمرارة. أقول لهم: ليس مهماً أن يكون الكاهن اُسقفاً أو بطريركاً حتى تكون له كرامة ومكانة. فكرامة الكاهن هي في محبته وخدمته وعطائه ودوره التنويري الذي يقوم به، فيترك بصمة واضحة في تاريخه وفي كنيستنا أمثلة حيّة. هذا الموضوع يستحق ان نراجعه في داخلنا.

ليعلم كهنتنا الاحبّة، أن الأسقفيّة دعوة خاصة، دعوة تلقائية من الله عِبرَ الكنيسة، وليست استحقاقاً تكريمياً، ولا للوجاهة. الاسقفية ليست بالسهولة التي ينظر اليها الطامحون. أعود وأطمئن الكل، بأن الانتخاب يتم في السينودس وعِبر التصويت السري الحرّ.

وأخيراً أود أن اُذكّر أن الدعوة كي تكون فاعلة لا اسمية، يحتاج المدعو الى التهيئة النفسية والروحية والراعوية والاجتماعية، والى ثقافة عالية، وروح قيادية، وبخاصة التحلّي بروح الأبوّة، ومسحة الاخوة، وديمومة الفرح والاستعداد للتضحية والعطاء والتواري والألتحام مع الاخرين كفريق عمل ورسالة.

في الختام، لنشكر الله على أن غالبية كهنتنا ملتزمونَ بتكريسهم ويخدمون رعاياهم بتواضع وسخاء وفرح. موقفنا الروحي العميق والحرّ هذا، ينبغي أن ينبع من الاحتفال بالافخارستيا ببُعدِها العلائقي الشامل، وليس مجرد ممارسات لا تلامس قلبنا، ومن الصلاة الشخصية والجماعية. هذا يذكرنا بقول البابا فرنسيس: “بدون صلاة لا يمكن لأحد أن يكون تلميذاً ليسوع؛ بدون صلاة لا يمكننا أن نكون مسيحيين! إنها الهواء” (في المقابلة العامة 19 حزيران 2019).