موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الكنيسة والسياسة موضوع لا غرابة يثير الجدل، وقد تكتنفه الضبابية، عندما تطلق الآراء بشتى الاتجاهات وعلى مختلف المستويات. وتأتي كتابة هذا المقال من موقع بطريركي مسؤول، لنوضح الرؤية للقارئ الكريم، وخصوصا لأبناء كنيستنا الأحبة، من حيث الموقف المبدئي من هذا الجدل والتعامل الكنسي التراتبي معه.
من وحي بشرى الانجيل
المسيحية بشرى فرح لحياة الانسان كابنٍ لله وأخٍ للجميع "أنتم كلكم اخوة" (متى23/8). وكان كلّ هم يسوع ان يكوّن جماعة -كنيسة -أُخُوّة تعيش في المحبّة والسعادة والكرامة: "وكان جميع الذين آمنوا جماعة واحدة" (2/44-46). هذه البشرى لا تقتصر على مجال واحد، بل تشمل جميع مستويات الحياة حتى السياسية منها. ليس في تعليم يسوع، ثنائية تناقض، انه يصرح: "اتيت لتكون الحياة للناس وبوفرة" (يوحنا10/10). بل ليسوع مواقف قاسية تجاه السياسيين، لذلك للكنيسة كلمة وموقف للدفاع عن المظلومين والفقراء وترسيخ العدالة الاجتماعية، ولها دور هام في إحياء الأفكار الوطنية ودفع التطور والتوازن. يكفي مراجعة الرسائل العامة للباباوات وخطاباتهم ومواقفهم ومنهم البابا الرائع فرنسيس.
اين يكمن الفساد
بعد ما سبق ذكره، للمسؤول الكنسي الاعلى كلمته وموقفه ومن باب أولى في أوقات الازمات، وذلك للدفاع عن الشعب وحقوقه. ولكن أين يكمن الفساد؟
يكمن الفساد والخروج عن الموقف الانجيلي المبدئي، عندما تنتقل الكنيسة الى سدّة الحكم وتتحول الى قوّة سياسية وعسكرية تحكم باسم الدين كوحدة مشتركة كما الحال اليوم في بعض دول منطقتنا، وكما حصل للمسيحية مع الامبراطور قسطنطين في مرسوم ميلانو سنة 313 وإعلان المسيحية دينًا للإمبراطورية وسنّ هو وخلفاؤه قوانين وسياسات بهذا الاتجاه وترأس هو بنفسه مجمع نيقية عام 325، وفقدت الكنيسة بالتالي زخمها النبوي- التلقائي وحريتها مما دفع ببعض المؤمنين الى الهروب الى الدير- الصحراء او الجبال، وما درج على تسميته ( الهروب من العالم fuga del mondo) لعيش جذرية الانجيل بعيدا عن صخب المملكة وامتيازاتها وفسادها، وغدت اديارهم مع الزمن مراكز ثقافية وعلمية.
يعود الفصل بين الدين والسياسة الى عصر النهضة من خلال:
– أصوات نبوية كنسية صارخة في البرية، كان من شأنها اعداد الكنيسة الى حركة اصلاح نبوية ضمن المجمعية الاسقفية، لفصل الدين عن السياسة بنحو سلمي منسجم، لولا تشابكات ظروف وتعقيدات تاريخية أدت الى نحو انقسامي، على اثر ما عرف بحركة الاصلاح اللوثري، لمارتن لوثر سنة 1517.
- وكذلك اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 والتي قامت تحت شعار: حقوق الانسان وفصل الدين عن الدولة.
ما لقيصر وما لله: الدين والدولة مجالان متميزان
أجل رسالة الدين رسالة روحية وإنسانية تعارض المظالم، أما مجال الدولة فهو إدارة شؤون السياسة والأحزاب وتطبيق النظام، وعليه فالشأن السياسي مستقل عن رسالة الكنيسة لان الانجيل يعلن صراحة: "أعْطُوُا إِذَاً مَا لِقَيْصَرْ لِقَيْصَرْ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ" (لوقا 20/25)، لكن هذا لا يعني اقصاء رأي الهيراركية الكنسية من السياسة والشأن العام: فمن واجب الكنيسة في المجال الاجتماعي الا يقتصر نشاطها على الأعمال الخيرية للمعوزين، بل من صميم رسالتها ان تعارض القوانين التي تتعارض مع حقوق الانسان، وان تدعم القوانين التي تعزز العدالة الاجتماعية والتنمية والقضاء على الفقر والجهل والتمييز العنصري، وهكذا قدمت المسيحية، عبر الأجيال، شهداء قديسين من مختلف المراتب الكنسية، نذكر على سبيل المثال اسقف السلفادور – أمريكا اللاتينية اوسكار روميرو
موقف الكنيسة الكلدانية
في زمن يشهد حرية التعبير والكتابة الالكترونية بين الغث والسمين، وليس ثمة طائل للردود والتعقيب، لكنه كان لا بدّ ان نؤكد بأن الكنيسة الكلدانية تحافظ على استقلاليتها، لا تدعم الأحزاب أو تعارضها. ولا يستجدّ اهتمام بما يشيّعه البعض وهو عار عن الصحة!
أجل قد تنتقد البطريركية أداء وتبعية البعض، لكنها أيضا لا تريد ان تكون قوة ومرجعية سياسية. والبطريرك لا يسعى ابدا ليكون زعيما قوميا للكلدان ولا قطبا سياسيا للمسيحيين. يكفيه ما له من مسؤوليات واعباء، لكن من واجبه كأب وراعٍ وفي ظل البيئة السياسية والاجتماعية والامنية الحالية على اثر الصراعات المتعددة وظهور داعش وتداعياته، ان يدافع مثل معلمه المسيح عن المظلومين والمقهورين والمهجرين والفقراء، وان يدعو الى تحقيق المصالحة الوطنية والشراكة الفعلية لبناء دولة قوانين عادلة ومؤسسات، ووطن شامل يحتضن الكل على حدّ سواء. من هذا المنطلق بعينه، وبغية ان "نبقى معًا" دعا الى تكوين مرجعية سياسية مسيحية من نخب وأحزاب وتنظيمات ذات اقتدار لتكون الصوت السياسي للدفاع عن حقوق المسيحيين الاجتماعية والسياسية الكاملة، وتقوم بدور وطني رائد بالتعاون مع المرجعيات السياسية الاخرى. وهذا المنطلق بحد ذاته، يبين ضحالة ما يشاع من آراء غير واقعية، والعقبة امام تشكيل كذا هيئة هو التشدد القومي والطائفي!
كذلك الأمر فيما يخص الرابطة الكلدانية التي اثارت ضجة كبيرة وكأن المسيحيين متحدون وهي تقسمهم. الرابطة مؤسسة علمانية مدنية تسعى لربط العائلات الكلدانية في العالم ببعضها في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي خصوصا ان الكلدان يفتقرون الى تنظيمات من هذا النوع. مبادرة تأسيس الرابطة جاءت من قبل البطريركية، لكن من دون ان تكون تنظيما حزبيا أو سياسيا ولا ان تكون للبطريركية وصاية عليها. من حق البطريركية ان تفكر وتخطط وتؤسس جماعات تعمل لخير الناس، والساحة المسيحية حافلة بالأمثلة: هكذا تفعل جماعة سانت إيجيديو San Egidio او "شركة وتحريرcommunione e liberazione ، وحركات العمل الكاثوليكي. إنها مجموعات علمانية تشجع الحوار وتدفع من اجل تحقيق العدالة وتدافع عن المظلومين.
والبطريرك من جانبه سعى بموقف مبدئي للقيام بما يمليه عليه ضميره ومسؤوليته: طالب بنظام ديمقراطي يقوم على مبدأ المواطنة لجميع العراقيين؛ ومواقفه الوطنية حسّنت الصورة العامة للكنيسة في نظر العراقيين؛ عارض بقوة قانون البطاقة الموحدة، وطالب بتحرير المناطق المحتلة وعودة المهجرين قسرًا الى بيوتهم وبلداتهم، وطالب بإعادة بيوت المسيحيين المغتصبة، وحذر من مخاطر تشكيل فصائل مسلحة مسيحية منعزلة خشية على حياتهم، ونصح بأن يشاركوا في الجيش النظامي الرسمي والبيشمركه.
لا غرو ان للناس آراء وتطلعات مختلفة ومتباينة، وترضية الناس غاية تدرك، الا أننا نستطيع أن نخلص الى القول بأن المرجعية المسيحية ان تشكلت والرابطة الكلدانية ستخففان من وطأة عمل البطريركية لمتابعة تفاصيل شؤون المسيحيين اليومية!
"عَصاكَ وعُكَّازُكَ هما يُعزيانني"(مز23/4).