موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ فبراير / شباط ٢٠٢٠
البطريرك الماروني بشاره الراعي: الصوم جسرٌ بين الدِّنح والفصح
رسالة البطريرك الماروني الكردينال بشاره بطرس الراعي لصوم 2020:
"الصوم جسرٌ بين الدِّنح والفصح"
البطريرك الماروني خلال ترؤسه قداس بداية الصوم عام 2015 (البطريركية المارونية)

البطريرك الماروني خلال ترؤسه قداس بداية الصوم عام 2015 (البطريركية المارونية)

البطريركية المارونية :

 

لاهوت الصَّوم الكبير

 

1. زمن الصَّوم الكبير يتوسَّط زمنَي الدِّنح والفصح: إنَّه يُواصِلُ لاهوت زمن الدِّنح وروحانيَّته، ويُهيِّئ زمن الفصح الجديد ومفاعيله. دِنحُ المسيح يُذكِّرنا بمعموديَّتنا من الماء والرُّوح. ماء النِّعمة غسَلَ خطيئتَنا، والرُّوح القدس أعطانا الحياة الجديدة. فبحسب رموز المعموديَّة، النُّزول في الماء موتٌ عن الخطيئة مع المسيح الذي مات لفدائنا، والخروج من الماء قيامةٌ مع المسيح الذي بقيامته أقامَنَا لحياةٍ جديدةٍ. وهكذا سِرُّ موت يسوع وقيامته هو "حجر الزاوية" للحياة المسيحيَّة الشَّخصيَّة والجماعيَّة" (رسالة البابا فرنسيس لصوم 2020). بهذا المعنى كتَبَ بولس الرَّسول إلى أهل كولوسي: "لقد دُفِنتم مع المسيح في المعموديَّة، وفيها أيضًا أُقِمتم معه" (كول 12:2).

 

يسوع نفسه بعد معموديَّته، صام أربعين يومًا وأربعين ليلةً، قضاها في التَّأمُّل والصَّلاة، وجاهَدَ بوجه تجارب الشَّيطان الثَّلاث وانتصَرَ عليها (راجع متى 4: 1-11). ثمَّ باشَرَ رسالة إعلان ملكوت الله بالكلمات والآيات، حتَّى بلغ ذروتها بآلامه وموته من أجل خطايانا، وبقيامته لتبريرنا (روم 25:4). لقد أضحت حياتنا موسومةً بمسار موتٍ عن عتيقنا، وقيامةٍ لحياةٍ جديدةٍ من الرُّوح القدس.

 

2. كان زمن الصَّوم فترةً تعليميَّةً على الأخصّ للموعوظين تحضيرًا لهم لقبول سرّ المعموديَّة في ليلة عيد الفصح. أمَّا اليوم فيبقى زمن الصَّوم زمنًا تعليميًّا لكلام الله وتعليم الكنيسة من أجل التَّجدُّد في الإيمان وتجسيده في الأعمال، والعبور بالتَّوبة مع الفصح إلى حياةٍ جديدةٍ بالمسيح القائم من الموت. فيكون سرُّ التَّوبة بمثابة معموديَّةٍ جديدةٍ يموت فيها المؤمن عن خطاياه، ويُصبح شريكًا في الحياة الجديدة بالمسيح القائم من الموت، ويَقبَل روح الله الذي أقام يسوع (راجع روم 11:8).

 

3. وبما أنَّ زمن الصَّوم الكبير هو زمن الاغتذاء من كلام الله، فيما نصومُ عن الطَّعام، فإنَّه، لهذه الغاية، زمن الرِّياضات الرُّوحيَّة في الرَّعايا. فنطلب من إخواننا السَّادة المطارنة ومن أبنائنا كهنة الرَّعايا تنظيم أسابيع الرِّياضات، بحيث يَشمَل الأسبوع مواعظ، ورتب توبة وإعترافات، ومصالحات، وزيارة المرضى. فلا تكفي عظة يوم الجمعة، مع زيَّاح الصَّليب، كما هي الممارسة في بعض الرَّعايا. إنَّ التَّأمُّل بكلام الله والاستنارة به هما الطَّريق الأفضل والأسلم لتهيئة مشاركتنا في سرِّ المسيح الفصحيّ، سرِّ موته وقيامته، من أجل ولادةٍ جديدة. ولهذا يُسمَّى الصَّوم "الزَّمن المقبول" و"زمن النِّعمة".

 

مرتكزات الصَّوم الكبير

 

4. يقوم زمن الصِّيام الكبير على ثلاثة مرتكزات هي علامات توبتنا وارتدادنا:

 

أ. الصِّيام: هو الامتناع عن الطَّعام وعن السَّوائل ما عدا الماء، من نصف اللَّيل حتَّى الظُّهر. هو إفقارُ مائدتنا كوسيلةٍ للإنتصار على الأنانيَّة، والعيشُ بمنطق العطاء والحُبّ. فعندما نحرِمُ نفسنا من شيءٍ، غير ممَّا هو فائض، نتعلَّم كيف نبحث عن آخر، هو الله الذي نراه إلى جانبنا في وجه العديد من إخوتنا في حاجاتهم. وهكذا تُصبِح ممارسة الصَّوم حُبًّا لله كوصيَّةٍ أولى، وحُبًّا للقريب كوصيَّةٍ ثانيةٍ (راجع مر12: 30-31).

 

ب. الصَّلاة: تُولَدُ صلاتُنا أساسًا من كلمة الله التي تُقدِّمها لنا الكنيسة بشكلٍ فائضٍ في زمن الصَّوم. فإذا قبلناها في قلبنا، وتأمَّلنا بها، وجسَّدناها بأفعالٍ في حياتنا اليوميَّة، تُصبِح صلاتَنا الفاعلة. فالصَّلاة بطبيعتها هي جوابُنا على كلام الله، الذي يُغذِّي فينا الإيمان. الصَّلاة بهذه الصِّفة تُدخلنا في مفهومٍ جديدٍ للزَّمن، بحيث هو انفتاحٌ على الأبديَّة وسموُّ فوق المحسوس، لا مجرَّد وقتٍ منتظم بحدِّ ذاته، من دون أُفقٍ ومستقبل. بل حين نُصلِّي نقتطع وقتًا لله لكي نَدخُل في شركةٍ عميقةٍ معه ملؤها الرَّجاء والفرح اللَّذين لا ينتزعهما أحدٌ من قلوبنا (راجع يو 22:16).

 

ج. الصَّدَقة: هي إشراكُ الغير في حاجته ممَّا نملُك، أكان كثيرًا أم قليلاً. لكنَّ الواجب يقع بنوعٍ خاصّ على الذين يملكون الكثير. فإذا أشرَكوا غيرهم بخيراتهم ينتصرون على تجربة الجشع في التَّملُّك، ومحبَّة المال التي تُناقض أولويَّة الله في حياتنا. هذه الآفات تولِّد العنف وإهمال الواجب. إنَّ عبادة أموال الدُّنيا تفصِلُنا عن الله وعن النَّاس، وتغشُّنا بسعادةٍ هي من سراب. بالتَّصدُّق نفهم جودة قلب الله الأبويّ، ونشهد له؛ وفي الوقت عينه، نُفرِغ قلبنا من ذاتنا لنمتلئ من الله ومن محبَّته ورحمته. الصَّدَقة هي فعلُ المحبَّة الذي نقوم به تجاه من هو أو هم في حاجةٍ مادِّيَّةٍ أو معنويَّةٍ، روحيَّةٍ أو إجتماعيَّةٍ. معهم يتماهى الرَّبُّ يسوع، إذ قال: "كنتُ جائعًا فأطعمتموني، عطشانًا فسقيتموني، غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليَّ" (متى25: 35-36). ويُسمِّيهم "إخوته الصِّغار" (متى 40:25).

 

5. يكون القيام بواجب الصَّدَقة إمَّا مباشرةً إمَّا بواسطة تجمُّعاتٍ وجمعيَّاتٍ ومؤسَّساتٍ خيريَّةٍ ومنظَّماتٍ معروفة. فإنَّا نشكرهم جميعًا أفرادًا وجماعات. ونذكرُ على الأخصّ "رابطة كاريتاس لبنان"، جهاز الكنيسة الكاثوليكيَّة الاجتماعيّ في لبنان. فإنَّها بهيكليَّة تنظيمها تُغطِّي جميع الأراضي اللُّبنانيَّة، وتُحقِّق البرامج التَّالية:

 

- تأمين مساعدات مادِّيَّةٍ فوريَّةٍ وغذائيَّةٍ للعائلات.

 

- الرِّعاية الصِّحِّيَّة الأوَّليَّة في مراكزها العشرة والعديد من عياداتها الجوَّالة.

 

- تعليم الأولاد ذوي الاحتياجات الخاصَّة في مراكزها الأربعة.

 

- دعم المدارس الرَّسميَّة من خلال توزيع موادٍّ غذائيَّةٍ على الطُّلاَّب، وتأمين الأدوات التَّعليميَّة والنَّقل والبرامج الصِّحِّيَّة.

 

- دورات تدريبيَّة بالمعلوماتيَّة لجميع أفراد المجتمع، وإعطاء شهادة رسميَّة.

 

- استكشاف حاجات الأفراد والعائلات بواسطة مساعِدات اجتماعيَّات، والعمل على توفيرها. بالإضافة إلى تأمين وجبات طعام ساخنة، وتنظيم نشاطات ترفيهيَّة للأطفال، في أقاليم كاريتاس السِّتَّة والثَّلاثين.

 

- القيام بمشاريع تنمويَّة في المناطق وتوفير فرص عمل بالتَّعاون مع البلديَّات.

 

- نشاطات متنوِّعة تقوم بها شبيبة كاريتاس السَّبعماية والخمسون المتطوِّعون.

 

6. إنَّنا نُعبِّر عن شكرنا لجميع العاملين في رابطة كاريتاس لبنان، وندعو إلى الإسهام في حملتها السَّنويَّة التي حدَّدها مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان في زمن الصَّوم الكبير. وهي حملةٌ يقوم بها مندوبو كاريتاس على أبواب الكنائس وفي المدارس والجامعات والمؤسَّسات الخاصَّة والعامَّة وعلى الطُّرُقات. فيُرجى تسهيلها وتشجيعها.

 

توجيهاتٌ راعويَّةٌ

 

أولاً: الصَّوم الكبير والقطاعة فيه وخارجه

 

7. يَدُوم الصَّوم الكبير سبعة أسابيع، استعدادًا لعيد الفصح. يبدأ في اثنَين الرَّماد، وينتهي يوم سبت النُّور ظهرًا. ويقوم على الامتناع عن الطَّعام من منتصف اللَّيل حتَّى السَّاعة الثَّانية عشرة ظهرًا، وعلى القطاعة عن اللُّحوم والبياض (الحليب ومشتقّاته والبَيض).

 

8. يُفسَّح من الصَّوم والقطاعة أيَّام السُّبوت والآحاد والأعياد التّالية: مار يوحنَّا مارون (2 آذار)، الأربعين شهيدًا (9 آذار)، مار يوسف (19 آذار)، بشارة العذراء (25 آذار) وشفيع الرَّعيَّة. أمَّا طيلة أسبوع الآلام من الاثنين إلى سبت النُّور فيبقى الصَّوم والقطاعة إلزاميَّين.

 

9. يُعفى من الصَّوم والقطاعة على وجهٍ عامّ المرضى والعجزة الذين يَفرِض عليهم واقعهم الصِّحيّ تناول الطَّعام ليتقوَّوا وخصوصًا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاعٍ صحِّيَّةٍ خاصَّةٍ ودقيقةٍ، بالإضافة إلى المرضى الذين يَخضَعُون للاستشفاء المؤقَّت أو الدَّوريّ. ومعلومٌ أنَّ الأولاد يَبدَأون الصَّوم في السَّنة التي تلي قربانتهم الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في أيَّام الدِّراسة.

 

هؤلاء المعفيُّون من شريعة الصَّوم والقطاعة مدعوُّون للاكتفاء بفطورٍ قليلٍ كافٍ لتناول الدَّواء.

 

ونظرًا لمقتضيات الحياة وتخفيفًا عن كاهل المؤمنين والمؤمنات، تبقى شريعة القطاعة إلزاميَّةً، في الأسبوع الأوَّل من الصَّوم الكبير، وفي أسبوع الآلام، على أن يُعوِّض مَن لا يستطيع الالتزام بالقطاعة بأعمال خيرٍ ورحمة.

 

10. وتُمارِس الكنيسة القطاعة بمناسبة ثلاثة أعياد، وقد حصرنا كلّاً منها بأسبوعٍ بما لنا من سلطان. وهي الآتية: قطاعة الرّسولَين بطرس وبولس والرّسل الاثنَي عشر (من 21 إلى 28 حزيران)، وقطاعة انتقال السيّدة العذراء (من 7 إلى 14 آب) ، وقطاعة الميلاد (من 17 إلى 24 كانون الأوّل).

 

11. أمّا قطاعة يوم الجمعة فتبقى على مدار السَّنة. يُستثنَى منها يوم جمعة أسبوع المرفع، وأيّام الجمعة الواقعة بين عيدَي الفصح والعنصرة، وبين عيدَي الميلاد والدِّنح. وتُستثنَى أيَّام الجمعة التي تقع فيها الأعياد التَّالية: ختانة الطِّفل يسوع (أوَّل كانون الثَّاني)، عيد مار أنطونيوس الكبير (17 كانون الثَّاني)، دخول المسيح إلى الهيكل (2 شباط)، عيد مار مارون (9 شباط)، عيد مار يوحنَّا مارون (2 آذار)، عيد الأربعين شهيدًا (9 أذار) عيد مار يوسف (19 آذار)، عيد بشارة العذراء (25 آذار)، عيد القدِّيسَين الرَّسولَين بطرس وبولس (29 حزيران)، عيد الرُّسُل الإثنَي عشر(30 حزيران)، عيد التَّجلِّي (6 آب)، عيد إنتقال العذراء (15 آب)، عيد قطع رأس يوحنَّا المعمدان (29 آب)، عيد ميلاد العذراء (8 أيلول) عيد إرتفاع الصَّليب المقدَّس (14 أيلول)، عيد الحبل بسيِّدتنا مريم العذراء بلا دنس (8 كانون الأوّل)، عيد ميلاد الرَّبِّ يسوع (25 كانون الأوّل)، عيد شفيع الرَّعيَّة، عيد قلب يسوع.

 

ثانيًا: الصَّوم القربانيّ

 

12. هو الإنقطاع عن الطَّعام الخفيف من قبل الكهنة والمؤمنين إستعدادًا لتناول القربان الأقدس خلال الذَّبيحة الإلهيَّة، أقلَّه ساعةً قبل بدء القدَّاس الإلهي. ونُذكِّر في المناسبة بالمحافظة على حالة النِّعمة والحشمة في اللِّباس والخشوع، واستحضار المسيح الرَّبِّ الحاضر تحت شكلَي الخبز والخمر.

 

الخاتمة

 

13. الصَّوم الكبير هو "الزَّمن المقبول" باستحقاقاته الرُّوحيَّة والإنسانيَّة، المتأتِّية من الصِّيام والصَّلاة والصَّدَقة، ومن التَّوبة والمصالحة. إنَّه "زمن النِّعمة" المؤدِّي بنا إلى "العبور" مع فصح المسيح إلى حياةٍ جديدةٍ. نسأل الله بشفاعة أمِّنا مريم العذراء، سيَّدة لبنان، وأبينا القدِّيس مارون، أن يشمل بنعمته جميع أبناء كنيستنا، رعاةً وكهنةً ورهبانًا وراهباتٍ ومؤمنين، في لبنان والنِّطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار. ونلتمس الاستقرار والسَّلام لأوطاننا، تمجيدًا للثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرُّوح القدس، آمين.