موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٣
البطريرك الراعي عن الحوار: يقتضي المجيء اليه بدون أحكام مسبقة

أبونا :

 

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان، حيث شدّد في عظته على أنّ الحوار يقتضي المجيء إليه بدون أحكام مسبقة، وإرادة فرض الأفكار والمشاريع، كما يقتضي التجرّد من المصالح واعتبار الدستور الطريق الوحيد الواجب سلوكه.

 

وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى غبطته عظة بعنوان: "خطاياها الكثيرة مغفورة، لأنّها أحبّت كثيرًا" (لو 7: 4)، وقال: "أهمّ ميزة في الإنسان أن يكون في قلبه حبّ. ذلك أنّه "مخلوق على صورة الله ومثاله" (تك 1: 27)، والله بجوهره محبّة. كتب يوحنّا الرسول في رسالته الأولى: "لنحبّ بعضنا بعضًا، لأنّ المحبّة هي  من الله ومن يحبّ فهو مولود من الله، ويعرف الله. لأنّ الله محبّة" (1 يو 4: 7-8)".

 

أضاف: "في هذا الحدث الإنجيليّ بانت قدرة المحبّة وشجاعتها وتأثيرها على قلب الله. فتلك المرأة الخاطئة المعروفة في المدينة قادها الحبّ الذّي في قلبها ليسوع، وألهمها قرار التوبة والتماس مغفرة خطاياها من محبّته بالأفعال لا بالكلمات. هذا الحبّ علّمها أنّ يسوع الرحوم قادر أن يغفر خطاياها الكثيرة، ويجعلها تبدأ الحياة من جديد. ذرفت دموع التوبة على رجليّ يسوع، ونشفتهما بشعرها. قبّلت قدميه ودهنتهما بالطيب. بهذه الأفعال عبّرت عن ندامتها وحبّها ليسوع فقال للفرّيسيّ مستضيفه المتشكّك: "هذه المرأة مغفورة لها خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا" (لو 7: 47). ولها قال: "إيمانك خلّصكِ! إذهبي بسلام!" (لو 7: 50). من يحبّ الله، يقرّ بخطاياه ويتوب نادمًا، والله يغدق عليه غفرانه مهما كان ثقل خطاياه، لأنّه يقرأ في قلبه إيمانه بقدرة الغفران".

 

 

إيمان وحبّ وتوبة

 

وقال: "ايمان وحبّ وتوبة. ثلاثة مترابطة يعلّمها الربّ يسوع في حادثة الإنجيل. امتدح يسوع إيمان المرأة الخاطئة وحبّها وتوبتها، وبادلها غفران خطاياها بحبّ أكبر. آمنت المرأة بيسوع، وأدركت أنّه قادر على أن يغفر خطاياها ويشفيها، لكي تبدأ حياة جديدة. ولهذا قصدته في بيت سمعان الفرّيسيّ".

 

أضاف: "استعدّت للتوبة، وقصدته بحبّ وثقة، وقامت بمبادرة مزدوجة غنيّة بالمعاني: وقفت باكية عند قدميّ يسوع تبلّلها بالدموع. هي علامة انسحاق القلب والندامة. ندمت عن حياتها الماضية وعن الخطايا التي شوّهتها. بكت على حالها وماضيها، وأسفت وقرّرت تغيير مجرى حياتها. وبكت خجلًا على ما فعلت، وفي قلبها بريق أمل بأنّ يسوع سيتفهّمها ويغفر لها".

 

وأوضح بأنّ "الندامة هي هذا الإنسحاق في القلب والأسف على الحالة السيئة وعلى الماضي، وفي طيّات الندامة قرار حاسم بتغيير مجرى حياتها وطريقة عيشها، وإصلاح الحال. وراحت تنشّف قدميه بشعرها وتقبّلهما وتدهنهما بالطيب. هي علامة حبّها الكبير ليسوع، حبٍّ يفوق كلّ الأشياء والأشخاص. بفعل الحبّ الصامت والتعبيريّ في آن، كانت تقرّ بخطاياها غير المحصاة وتلتمس المغفرة".

 

 

الكبرياء أمّ كلّ الرذائل

 

وأشار إلى أنّ "سمعان الفريّسيّ تشكّك من مبادرتي المرأة الخاطئة. فأجابه يسوع بمثل الدائن والمديون، وبأنّ ما فعلته تلك المرأة كان فعل حبّ كبير وتوبة عن خطاياها الكثيرة قاستحقّت المغفرة عنها كلّها. وتشكّك المدعوّون إلى الوليمة من سلطان يسوع على مغفرة الخطايا، فكان منه تأكيد سلطانه الذي يزرع السلام في القلوب، إذ قال للمرأة: "إيمانكِ خلّصكِ، إذهبي بسلام!" (لو 7: 50)".

 

وقال: إنّ أثمن هبة تركها المسيح لجميع الناس هي مغفرة خطاياهم من صميم قلب الله الرحوم. هذه الهبة سلّم خدمتها للكنيسة وكهنتها، وأرادها ثقافة مسيحيّة نقيضةً لشريعة قديمة: "سمعتم أنّه قيل: العين بالعين، والسنّ بالسنّ. أمّا أنا قأقول لكم: "أحبّوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحنوا على مبغضيكم" (متى 5: 38 و 44).

 

أضاف البطريرك الراعي: "تقول القدّيسة تريزا دي كلكوتا: "القلب الفارغ المنفتح على الله يملأه الله حبًّا ورحمة. أمّا القلب الملآن كبرياءً وبغضًا وحسدًا، فلا يستطيع الله مع كلّ قدرته أن يملأه". وحدها الصلاة والتوبة تفرغان القلب من الكبرياء التي هي أمّ كلّ الرذائل".

 

 

الأوضاع في لبنان

 

تابع: "تكثر بكلّ أسف، ولا سيما لدى معرقلي نهوض لبنان وانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، القلوبُ الفارغة من محبّة الله ورحمته وحنانه، ومن روح الندامة والتوبة عن الخطايا الشخصيّة. فأصبح المجتمع يعيش في هيكليّة من الخطايا التي لا يتوب عنها أحد، وكأنّها أصبحت خطايا من دون مرتكبين. يتكلّمون مثلًا عن الفساد ومكافحة الفساد ولا يعلم أحدٌ من هم المفسدون. لا مجال لبدء حياة جديدة على كلّ الأصعدة الخاصّة والعامّة، الشخصيّة والجماعيّة، من دون إرادة إيمانيّة، وقرار بالتغيير في نمط التفكير والتصرّف. الجميع، ولا سيما المسؤولون السياسيّون، بحاجة إلى قلوب تملي عليهم ما يجب أن يفعلوا من خير".

 

وختم البطريرك الراعي عظته بالقول: "الحوار المدعوّون إليه نوّاب الأمّة، إذا حصل رغم التجاذبات بين القبول والرفض، إنّما يقتضي أوّلًا المجيء إليه بدون أحكام مسبقة وإرادة فرض أفكارهم ومشاريعهم ووجهة نظرهم من دون أي إعتبار للآخرين؛ ويقتضي ثانيًا روح التجرّد من المصالح الشخصيّة والفئويّة، ويقتضي ثالثًا اعتماد الدستور واعتباره الطريق الوحيد الواجب سلوكه؛ ويقتضي رابعًا الصراحة والإقرار بالأخطاء الشخصيّة والبحث عن الحقيقة الموضوعيّة التي تحرّر وتوحّد".