موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٥ يونيو / حزيران ٢٠١٩
البابا فرنسيس.. عن اللاجئين وعولمة اللامبالاة

القاهرة - إميل أمين :

مثير جدًا شأن البابا فرنسيس، روما خليفة القديس بطرس، ففي الوقت الذي تذهب فيه أوروبا نحو المزيد من التعصب والتزمت، الأمر الذي انعكس في صورة نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، نراه يمضي قدمًا في تأكيد وحدة الإنسانية، وبعيدًا عن التمركز حول الذات، والأنانية المنغلقة على النفس، لا سيما إذا تعلق الأمر بواحدة من الاشكاليات المعاصرة التي تعاني منها أوروبا في حاضرات أيامنا، ونعني بها الهجرة من الجنوب الإفريقي، ومن شمال وشرق العالم العربي، حيث ألقت المياه بعشرات الآلاف من المعذبين في الأرض على الشواطئ الأوروبية، ليجدوا حالة من الرفض غير الإنساني تزيد من معاناتهم ولا تخفف من آلامهم.

في التاسع العشرين من تموز المقبل يحتفل العالم باليوم العالمي للمهاجرين، ولهذا وجّه البابا فرنسيس في هذه المناسبة رسالة إلى الإنسانية جاءت تحت عنوان "الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب"، أشار فيها إلى الإشكالية بشروحات وطروحات فائقة الحس الإيماني والإنساني.

على أنه قبل الحديث عن رسالة البابا فرنسيس الأخيرة، يعن لنا أن نتساءل: هل هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها فرنسيس عن اللاجئين والمهاجرين، المهانين والمجروحين من جراء النزاعات العنيفة والحروب الحقيقية التي تمزق البشرية؟

بالقطع للبابا فرنسيس ومنذ بداية الأزمة مواقف تقدمية غير مسبوقة في حق اللاجئين والمهاجرين، وقد اصطحب على سبيل المثال عند زيارته لاحدى تجمعاتهم في اليونان عدة عائلات معه إلى الفاتيكان، ووفر لهم الملجأ والمأوى والعمل، بل أبعد من ذلك، فقد طالب الكنائس الأوروبية بأن تفتح أبوابها وقلوبها لاستضافة هؤلاء وأولئك.

فرنسيس، ومن قبل، أشار إلى أن الجواب على أزمة الهجرة يجب أن يتمحور حول أربعة أفعال: الترحيب، والحماية، والتعزيز، والادماج، كما وأيّد الحبر الأعظم تغيير التصرفات حيال المهاجرين واللاجئين، والانتقال من موقف الدفاع والخوف واللامبالاة والرفض، إلى موقف مليىء بالكرم، منتقدًا الأنانية والديماغوجية الشعبية، ومصّرًا على أن حماية الآخر المطرود من بلاده واجبًا أخلاقيًا.

لم يتردد فرنسيس من قبل في أن يذكر الأوروبيين بأنهم في لحظة تاريخية بعينها كانوا لاجئين في بلاد العالم، وهي لحظة ليست بعيدة، بل قائمة في ثنايا وحنايا التاريخ المعاصر، إبان الحرب العالمية الثانية، وقد كانت بلاد العرب وشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط هي المواقع والمواضع التي يسّرت لهم الملاذ من جحيم الحرب.

السؤال: للأوروبيين آذان، لكن هل يسمعون؟

من أجل هذا العطب الأخلاقي الكبير تأتي رسالة فرنسيس الأحدث، والتي يحاول من خلالها أن يفتح عيون وقلوب الأوروبيين على حقيقة مؤلمة وتتمثل في أن المجتمعات الأكثر تقدمًا اقتصاديًا تنمي داخلها ميلاً إلى نزعة فردية ظاهرة تنتج، إذ ترافقها الذهنية المنفعية وتضاعفها شبكات الإعلام، "عولمة اللامبالاة"، وفي هذا السيناريو، أصبح المهاجرون واللاجئون والمشردون وضحايا الإتجار بالبشر، شعارًا للتهميش لأننا وبالإضافة إلى المصاعب التي تتضمنها حالتهم، غالبًا ما نحملهم أحكامًا سلبية تعتبرهم سببًا للعلل الاجتماعية. هل يقصد فرنسيس أن يبعث للأوروبيين رسالة بعينها؟

بلا شك هناك دعوة مستترة لأن يراجع الأوربييون أحكامهم الأدبية والأخلاقية، سيما وأنهم يحيلون كافة الإشكاليات الحياتية في أوروبا اليوم على المهاجرين، ويعتبرونهم سبب الشقاء الأعظم في مشاكلهم الاقتصادية، ولا ينظرون إلى الجانب الآخر من المشهد، إذ يمكن اعتبار هولاء رصيدًا إنسانيًا مضافًا، رصيدًا يصلح حال الكثير من إشكاليات أوروبا، وفي المقدمة منها نقص عدد الأيدي العاملة، بسبب وصول معدل المواليد إلى الصفر تقريبًا.

يؤمن فرنسيس بأن موقف الأوروبيين تجاه اللاجئين يمثل جرس إنذار يحذّر من التدهور الأخلاقي الذي تسير نحوه شعوب القارة الأوروبية، لا سيما إذا استمرت في افساح المجال لثقافة التهميش.

تفاخر أوروبا وتجاهر بإرثها المسيحي، لكن إلى أي حد ومد تعيش جوهر المحبة المسيحية، أو تحث أبناءها على التضحية من أجل الآخرين، وتقديم نموذج إيماني وإنساني يؤكد صدقية جذورها، وكي لا يضحى الأمر مجرد شعارات جوفاء لا طائل من ورائها؟

يرى بابا الفاتيكان أن وجود المهاجرين واللاجئين، وكذلك وجود الأشخاص الضعفاء بشكل عام، يمثّل دعوة لاستعادة بعض الأبعاد الأساسية للوجود المسيحي الحقيقي، غير المنحول أو المزيف، وبالقدر نفسه استرجاع مساحة واسعة من الإنسانية، التي انستنا إياه عولمة تسليع الإنسان، تلك التي تدفعنا في طريق الاسترخاء واستعذاب نمط حياة غني بالراحة، ومن هنا يمكن للمرء أن يفهم السر وراء عنوان الرسالة "الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب"، أي أننا إذ نهتم بهم نهتم أيضًا بأنفسنا وبالجميع، وإذ نعتني بهم، فإننا نمو جميعًا، وإذ نصغي إليهم نعطي أيضًا صوتًا لذلك الجزء من ذواتنا الذي ربما نبقيه خفيًا لأنه ليس مقبولاً في أيامنا.

رسالة فرنسيس الأخيرة هي صوت صارخ في البرية الأوروبية التي ارتفعت فيها الأيام الفائتة أصوات اليمين المتطرف والقوميات المتشدة عطفًا على الجماعات التي تأخذ العنف مسلكًا لتبرير رؤاها الأنانية الضيقة، حيث إيمانها بامتلاكها للحقيقة المطلقة، يجعلها تسحق وتمحق الآخر، ولا تعتبر فرح اللقاء به أمرًا حيويًا، بل تهديدًا مباشرًا لها في الحال والاستقبال.

يدعو فرنسيس أبدًا ودومًا إلى تذّكر قيمة الأخوّة، قائلاً إن وجود الآخر لا يهدد هويتنا الفردية، بل يغنيها. وعن الدمج يقول، إنه ليس محو ثقافة على حساب الأخرى، وليس عزلاً متبادلاً، بل هو عملية باتجاهين، تتأسس على الاعتراف المتبادل بالغنى الثقافي للآخر، وفي كل الأحوال يبقى تعزيز التنمية البشرية للمهاجر واللاجئين والمشردين يعني ضمان الحق بإيجاد الشروط التي تسمح بعيش كريم.

فرنسيس يعيش بقلب إنسان حقيقي مليء محبة ورحمة، ويرى أن من يفر من بلاده بسبب الحرب والعنف والاضطهاد، يحق له تلقي ضيافة وحماية مناسبتين في البلدان التي تطلق على نفسها متمدنة، ولطالما ارتفع صوته من أجل تكريس كل الجهود بشكل خاص في مجال مكافحة الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين.

فرنسيس بابا إصلاح القلب، يطلب من المهاجرين الصفح نيابة عن المجتمعات الأوروبية المتحجرة والمتكلسة قلوبها.. اغفروا الانغلاق واللامبالاة من جانب مجتمعنا، الذي يخشى التغيير في الحياة والعقلية الذي يتطلبه وجودكم، ويذكرهم بأن كل واحد منهم يمكنه أن يكون جسرًا يجمع شعوبًا بعيدة معًا، ما ينتج إمكانية لقاء ثقافات وديانات مختلفة...

فرنسيس.. طريق لإعادة اكتشاف إنسانيتنا المشتركة.