موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٦ ابريل / نيسان ٢٠٢٠
الإيمان في زمن الوباء: الكنيسة البيتية.. نواة الخلاص

ناجح سمعـان :

 

تعلمنا المبادئ الأولى في علم الاجتماع أن الأسرة نواة المجتمع، وأنه متى كانت الأسرة صحيحة البنية متماسكة الروابط صار المجتمع كله قويًا. يتوجب الظرف الصحي الحالي الذي يعيشه أبناء الأرض في مواجهة الوباء العالمي كورونا، أن نستدعي من ذاكراتنا التعليمية ما نشأنا عليه من معارف وعقائد وقيم كانت وستظل بمثابة قناديل نور تهدي خطواتنا وتنير بصائرنا نحو قراءة الواقع واستشراف المستقبل. تحاول المقالة التالية بين كلماتها أن تناقش موقع الإيمان في تقوية البناء الروحي للعائلة، لا سيما في خضم التحديات والمحن التي نتلمس برجاء لا يخيب في الرب، بزوغ الشمس ليوم خلاصنا.

 

في البداية نقف أمام نظرة الكنيسة إلى العائلة ونقرأ معًا في كتاب "تعليم الكنيسة الاجتماعي للشبيبة" (DOCAT) الذي يحمل فصله الخامس عنوان (العائلة أساس المجتمع) حيث يقول: "تنظر الكنيسة إلى العائلة على أنها الجماعة الطبيعية الأولى والأهم. وللعائلة حقوق خاصة وهي تقوم مقام المحور في الحياة المجتمعية. وبالتحديد هي المكان الذي تنشىء فيه الحياة الإنسانية وتنمو العلاقات الأولى بين البشر. وهي تشكل أساس المجتمع إذ منها ينبثق كل نظام اجتماعي. في ضوء هذة المكانة الكبيرة التي تحملها العائلة ترى الكنيسة فيها مؤسسة إلهية".

 

وعن موقع الكنيسة في المجتمع المعاصر يقول التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية: "إن اسلوب الحياة في العائلة بكل ما يحمل من مثل عليا وعلاقات جديدة، يشكل أفضل إطار للحياة بالنسبة إلى الإنسان المعاصر. ففيها يتعلم عمليًا أن الاحترام المتبادل والعدالة والحوار والمحبة هي أشياء مهمة لنجاح الحياة المشتركة أكثر من أي شيء أخر. فالعائلة إذا هي أكثر من مجرد مؤسسة تتلائم والمجتمع المعاصر، إنها المكان المركزي للاندماج الإنساني. وفيها تنمو ظروف الحياة الإنسانية والاجتماعية الضرورية لقيام الدولة والقطاعات المجتمعية المختلفة. بالطبع، كل ما تقدمه العائلة على مستواها الداخلي لذاتها أو لأحد أعضائها، يعتبر ذا أهمية للمجتمع. فهذا الأخير لا يمكن أن ينجح في الحقيقة، إلا إذا كان كل عضو فيه بخير وشعر بأنه محبوب ومعترف به وبفضل هذه التربية العائلية، يتمكن البشر من القيام بكل انواع المهمات في المجتمع".

 

حول الصلاة العائلية ودورها في تربية الإيمان، يذكر المتنيح الانبا يؤانس زكريا، مطران الأقصر للأقباط الكاثوليك، في كتابه (الخدمة الرعوية في ضوء التعليم الانجيلي والإرشاد الكنسي) حيث كتب ما يلي: "الصلاة العائلية هي الصلاة الجماعية لأفراد الأسرة المجتمعين معًا لكي يقدموا للرب الشكر والحمد، ويطلبوا منه النعمة والبركة. هذه الصلاة تضفي على المنزل وكل من فيه روحًا من المحبة والتعاون والسلام، وهي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الأطفال والأبناء التربية المسيحية الحقيقية ويتعلمون ويمارسون التعاليم الإنجيلية". ويضيف: "من بين خصائص الصلاة العائلية، أنها صلاة جماعية، يقوم بها الزوجان والأبناء وكل أفرد الأسرة، يصلون معًا بروح المحبة والاتحاد، الذي هو ثمرة الأسرار المقدسة وخاصة أسرار العماد والتثبيت والزواج والتوبة والافخارستيا".

 

وعن موضوعات الصلاة العائلية كتب طيب الذكر الأنبا يؤانس: "ترتبط مواضيع الصلاة بالحياة الأسرية، وما تختبره العائلة من أفراح وأتراح، وما تعيشه من مناسبات مختلفة. وتشمل هذه الصلاة، صلوات الصباح والمساء، وقراءة كلمة الله والتأمل فيها، والاستعداد للأسرار المقدسة، وعبادة قلب يسوع، وإكرام سيدتنا مريم العذراء بصلاة المسبحة الوردية، وإكرام القديسين، كذلك صلاة قبل الأكل وبعده، وكافة الممارسات التقوية. إن الكنيسة دائمًا تصلي من أجل وحدة وسلام العائلة المسيحية، كما تدعوها للمواظبة على الصلاة معًا".

 

في ذات السياق، يتناول الأب رفيق جريش، راعي كنيسة القديس كيرلس للروم الكاثوليك ورئيس مجلس إدارة وتحرير جريدة حامل الرسالة، القضية في كتابه (الزواج هذا السر العظيم) حيث يتحدث عن (الكنيسة الصغيرة) ويقول: "الكنيسة الصغيرة، هكذا وصف القديس يوحنا ذهبي الفم "الزواج"، وهذا الوصف لم يأتي من فراغ، فقد عرفنا أن الحب الإلهى اختار الزواج لينتقل عبره إلى كل الأجيال ورأينا عبر التاريخ المقدس أن الزواج كان له دائمًا مكانة رفيعة، ولما أتى ربنا يسوع المسيح رفع الزواج إلى مستوى السر المقدس وطلب من الكنيسة أن تحافظ عليه".

 

وعن موقع الصلاة في حياة الزوجين كتب جريش قائلا: "يجب أن تكون للصلاة الأولوية المطلقة في حياة الزوجين كما يجب أن تكون الصلاة مستمدة من حبهما لله، فهي بحث دائم عن الله، وإلحاح للتكلم معه والإصغاء إليه. صلاة الزوجين معًا هي حوار ذات اتجاهين، حركة أفقية أي حوار ولقاء بين الزوجين، ثم حركة رأسية يقدم فيها الزوجان حوارهما إلى الله فهما سيتكلمان مع الله، والله سيسمعهما، كما أن الله بدوره سيكلمهما، فعليهما إذًا أن يكونان مستعدين لسماعه بشوق عميق ورهافة عاطفة يسودها الشغف ليعرفا مشيئة الله لحياتهما وبالتالي يتجاوبان معه". وعن رسالة الأسرة في المجتمع يقول الأب رفيق جريش: "إنّ الرسالة المسيحية المدعو إليها الأزواج والأبناء تتخطى حدود البيت لتشمل المجتمع الذي تعيش فيه والعالم بوجه عام، فالأسرة الكنيسة الصغيرة التي وجدت لتكون في المجتمع مثل حبة الحنطة، ويكفي أن تكون تصرفات أعضائها تنم عن سلوك مسيحي حتى تكون هذه العائلة مثلاً حيًا للحب الإلهي".

 

تعطي القراءة السابقة في أدبيات الكنيسة بشأن العائلة، مقدمة أساسية تفضي إلى نتيجة منطقية محورها عظم الدور الذي تلعبه العائلة في حياة الإيمان في العالم. وإذا كان البحث في موقع الإيمان في قراءة الأحداث هو الموضوع الجوهري لدراستنا الحالية، لذا يتوجب على الباحث أن يرصد ملامح التعبير عن الإيمان في العائلة إزاء مواجهة ما يعيشه إنسان هذا الزمان في حربة ضد الوباء القاتل كورونا.

 

وهو ما يتجلى فى المشاهدات التالية:

 

1. ما قبل الوباء كانت العائلة المصرية تعيش حالة من الضغط اليومي نتيجة صعوبات الحياة العامة مما تباعد بين أعضائها حتى أنهم قلما أن التقوا معًا حول مائدة طعام أو مذبح صلاة.

 

2. أثرت وسائل الاتصال الاجتماعية في تعزيز مجتمع العلاقات الافتراضي بين الناس على حساب تنامي حرارة الروابط العائلية بين أفراد الأسرة الواحدة.

 

3. استقبلت العائلات المصرية نبأ وباء كورونا أول الأمر بعدم الاكتراث وربما التندر حتى كانت المفاجأة المؤلمة مع سقوط ضحايا هذا الفيروس اللعين بالالاف وفي أيام معدودة بالعديد من دول العالم.

 

4. أتاحت الإجراءات الحكومية الحاسمة، لاسيما منذ منتصف مارس، في الزام العائلة المصرية على البقاء بالمنزل حفاظًا على سلامة وحياة اعضائها.

 

5. أعطى بقاء العائلة بالمنزل الفرصة للوالدين في تعميق الحوار مع ابنائهم، لاسيما في قراءة الحدث الأبرز، ومن ثم البحث عن حضور الله والسعي إلى اكتشاف ارادته المقدسة.

 

6. كان لممارسة العائلة للصلوات التقويّة والقراءة في كلمة الله عامل أساسي في تنمية إيمان الأسرة وتقوية الرجاء لدى ابنائها في التماس رحمة الله.

 

7. تتزامن أحداث هذ الوباء في أحد فصوله مع الزمن الطقسي الخاص بالصوم الأربعيني وأسبوع الآلام، وأمام حرمان أبناء العائلة من المشاركة في الصلوات الطقسية بالكنائس، يضحى التمسك بالصلاة العائلية فلك نوح الذي يتوجب على الأسر الدخول فيه، حتى ينعم الرب على كوكبه بالخلاص.

 

8. تقود القراءة الروحية المتأنية لحدث الوباء العالمي كورونا إلى ميلاد طائفة جديدة من الأفكار الإنسانية والقيم الروحية تكشف في الغد القريب عن إلهامات الروح الإلهي لأصفيائه، ومن له أذنان للسمع فليسمع.