إذا كان للصلاة الفردية دورها في تعميق الحياة الروحية الشخصية نحو الاتحاد بالله، وللصلاة العائلية موقعها الحيوي في تربية الإيمان وغرس القيم الروحية والإنسانية بين افراد الأسرة، فإن للصلاة الجماعية التي يرفعها المؤمنون بالكنائس من خلال الاحتفال بالطقوس وممارسة الأسرار مكانتها الفريدة في التعبير عن الإيمان الجمعي الذي يعزز روح الوحدة، ويشعل في قلوب المؤمنين الرجاء نحو الحياة الدائمة. أمام حالة الحرمان التي يعيشها أبناء الكنيسة من المشاركة في الصلوات الطقسية كاجراء احترازي لمنع انتشار عدوى فيروس كورونا بين المصلين، يضحى توثيق الحدث وتحليله أمر لا بد منه في السعي نحو القراءة الإيمانية للظاهرة الروحية.

الطقوس في الكنيسة الجامعة

يعكس التنوع الطقسي في حياة الكنيسة الكاثوليكية قيمة الغنى الروحي الذي يعيشه ابناء الكنيسة الكاثوليكية شرقًا وغربًا ويعد المجمع الفاتيكاني الثاني بمثابة نقطة تحول جذرية في تاريخ المسيرة الطقسية للكنيسة الجامعة فخلال اعمال المجمع (1962–1965) وقراراته اعلن الاب الاقدس، خليفة القديس بطرس مع آباء المجمع، أهمية ان تعبر الطقوس عن ثقافة الشعوب وتقاليدها فضلاً عن اقرار المجمع امكانية ممارسة الصلوات الطقسية باللغة المحلية لكل كنيسة تنضوي تحت لواء الكنيسة الجامعة.

عن موقع الطقس في تربية الايمان لدى ابناء الكنيسة الكاثوليكية كافة، كتب اباء المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور "الطقوس المقدسة" ما يلي: "إن الطقوس وهي القمة التي يتجه نحوها عمل الكنيسة، هي في الوقت نفسه الينبوع الذي تتدفق منه كل قوتها. إذ ان الاعمال الرسولية تهدف إلى ان يجتمع الكل في واحد بعد ان يصبحوا ابناء الله بالايمان والمعمودية، وان يسبحوا الله في وسط الكنيسة، ويشتركوا في الذبيحة ويتناولوا عشاء الرب. والطقوس نفسها تحث بدورها المؤمنين ان يتناولوا الاسرار الفصحية، على ان يكون لهم قلب واحد في التقوى. ثم ان تجديد العهد بين الله والبشر في القربان المقدس يجذب المؤمنين إلى محبة المسيح الملحة ويشعلها فيهم. فمن الطقوس إذن وبخاصة طقس القربان المقدس تفيض النعمة فينا فيضها من نبعها. وبالطقوس يتحقق وبأقصى فاعلية تقديس البشر في المسيح وتمجيد الله وهذا ما تستهدفه الكنيسة من جميع أعمالها".

الطقوس في الكنيسة القبطية

كان لكنيسة الاسكندرية دورها التاريخي في الكرازة بالانجيل ونشر التعليم الديني من خلال مدرسة الاسكندرية اللاهوتية والرهبنة القبطية فضلاً عن اهتمام المصريين بالعلوم والثقافة من خلال تراكم الرقائق الحضارية للعصور الفرعونية واليونانية والرومانية وهو ما تأصل فى الخلفية الفكرية للثقافة المسيحية المصرية وعبرت عنها الكنيسة في تقليدها العريق وطقسها الثري.

عن موقع الطقوس في الكنيسة القبطية الكاثوليكية يقول نيافة الانبا كيرلس وليم، مطران اسيوط للاقباط الكاثوليك ورئيس اللجنة الطقسية بالكنيسة القبطية الكاثوليكية: "علقت الكنيسة القبطية أهمية بالغة على الطقوس فهي مدرسة الإيمان والاخلاق. من خلالها تعمل على تنمية إيمان ابنائها وتهذيب اخلاقهم، فاحتلت الطقوس فيها مكانة خاصة، لا بل جعلت منها كل شيء تقريبًا. استخدمت الكنيسة القبطية النصوص الطقسية لاعلان العقائد الاساسية في مواجهة البدع وبنيت الكثير من المبادئ على الممارسات الطقسية والنسكية. فطقوس الكنيسة القبطية اساسًا طقوس رهبانية طويلة تدعو إلى التأمل والصلاة اكثر منه إلى الاستعراض والاداء، وتساعد على التحليق فى اجواء روحية سمائية". وأضاف سيادته: "كما تميزت الطقوس القبطية بأنها طقوس شعبية انطلقت من الحياة اليومية للإنسان العادي فرتبت صلوات لفصول السنة الزراعية نظرًا لأن السواد الاعظم من الشعب في ذلك الوقت كانوا من الفلاحين الكادحين وكانت الطقوس دائمًا تقام باللغة القبطية السائدة بلهجاتها المختلفة في صعيد مصر وباللغة اليونانية في المدن الكبرى ثم ترجمت تلقائيًا إلى اللغة العربية حيث كانت الكنيسة القبطية سباقة في استخدام اللغة المحلية في طقوسها".

روحانية أسبوع الالام في الطقس القبطي

تدعو الازمنة الطقسية في حياة الكنيسة القبطية المؤمنين إلى معايشة الإيمان من خلال التأمل في احداث حياة الرب يسوع وتعاليمه المقدسة. ويعتبر اسبوع الالام اكثر الازمنة الطقسية زخمًا حيث تتسم صلواته بالكثرة والعمق معًا. عن روحانية وترتيب صلوات اسبوع الالام يقول الأب انجيلوس شحاته، مدرس الطقس بكلية العلوم الانسانية واللاهوتية بالمعادي ومدير مركز التعليم المسيحي بأبرشية اسيوط: "منذ البداية تعمل الكنيسة من خلال إيمانها على تأوين الخلاص هنا والآن في المكان الذي تجتمع فيه. ولذلك فهذه الصلوات الليتورجية الكنسية منذ القرون الأولى للمسيحية هي تذكارا واحتفالاً بالأحداث الهامة في نهاية حياة السيد المسيح على الأرض مثل دخول المسيح الانتصاري إلى اورشليم كملك وتأسيس سر الافخارستيا والمحاكمة والصلب علاوة على دفن المسيح وقيامته ممجدًا. فكل هذه الأحداث التاريخية العظيمة كان لا بد للكنيسة ان تجعلها منارة تنير كل طقوسها وعباداتها. ولكن ذلك لا يعني أن الكنيسة منذ القرون الأولى حتى الآن تعيش فقط أحداثًا تاريخية وذكريات مضت وتنظر إليها بعين الإعجاب والرضى عما فعله الرب من أجلها ولكنها مدعوة لأن تدخل في السر الفصحي، فما حدث في هذا الأسبوع هو من أجلها ومن أجل خلاصها ودخولها في موت وقيامة الرب. ولذلك تحتفل الكنيسة وتمارس أحداث هذه الأيام المقدسة وهي تتأمل تحقق خلاصها وهويتها".

واضاف الاب انجيلوس قائلاً: "في هذا الأسبوع العظيم وهو أسبوع الآلام، أو أسبوع البصخة، تعيش الكنيسة إذًا من خلال القراءات والطقوس تتبع خطوات السيد المسيح خطوة خطوة وحادثة حادثة في حياته خلال أسبوعه الأخير على الأرض. لا تقرأ الكنيسة فقط بل تعيش مع المسيح ربها ومخلصها ومعلمها ورأسها السري الأحداث وتدخل بحياتها في هذه الأحداث بعمل الرموز والإشارات للاحتفال مثل أحد الشعانين حيث تفرح الكنيسة مع ربها وسيدها وتحزن معه وتتألم معه وتصنع ما صنعه وتموت معه وتقوم معه. وهكذا تمارس الكنيسة مع أبنائها المؤمنين وتعيش وتحتفل في كل يوم من أيام هذا الأسبوع بالأحداث التي تدور حولها كل قراءات اليوم كذلك يزخر الطقس بالالحان الشجية المعبرة عن معايشة الكنيسة لالام الرب وايضا نغمات الفرح التي تعبر عن ابتهاج الكنيسة بقيامة الرب من بين الأموات".

الصلوات الطقسية فى زمن الكورونا

كان الاحتفال بعيد الصليب فى 19 مارس 2020 هو آخر الاحتفالات الطقسية التي شارك المصلون فيها بالكنائس القبطية الكاثوليكية حيث صدر صباح يوم الجمعة 20 مارس 2020 بيان السينودس البطريركي بإيقاف القداسات بكل الكنائس حتى اشعار آخر كاجراء وقائي في مجابهة انتشار فيروس كورونا. وتبعه الآباء بقرار آخر يوم 3 ابريل 2020 يعلن استمرار ايقاف صلوات القداسات بحضور المؤمنين بكل الكنائس على ان يقوم الاباء الكهنة بالاحتفال به يوميًا مع احد الخدام متحدين مع كل المؤمنين في طلب معونة الله، كذلك أوصى اباء السينودس بأن يقوم الاباء الكهنة بطقوس اسبوع الالآم واعياد القيامة كل في كنيسته ويكون الاحتفال قاصرًا على رعاة كل كنيسة مع اثنان أو ثلاثة من الشمامسة والمرتلين بدون حضور المؤمنين.

أمام هذا المشهد النادر الحدوث في تاريخ الكنيسة يقول نيافة الانبا كيرلس وليم، مطران اسيوط ورئيس اللجنة الطقسية بالكنيسة القبطية الكاثوليكية: "يحل علينا هذا العام اسبوع الآلام المحيية أقدس ايام السنة الطقسية في وسط ظروف قاسية، يعاني منها العالم بأسره، تدعونا إلى تحمل التضحيات إذ نشعر بمرارة شديدة لعدم تمكن المؤمنين من المشاركة فرحة ونعمة هذه الأيام المليئة بالتعزيات". وأضاف سيادة المطران: "كم هو شديد وقع تلك المحنة على المؤمنين وعلى الرعاة ايضًا عندما لا يرون ابنائهم يملأون الكنائس ويرددون الألحان ويتقدمون لقبول الأسرار المقدسة، ولكن هذا شأن جميع كنائس العالم شرقًا وغربًا. سوف تبث الاحتفالات الطقسية عبر العديد من وسائل الاتصال الاجتماعية، ويمكن لأبناء الكنيسة متابعتها من بيوتهم ومن ثم المشاركة عبر الاتحاد في الصلاة وفعل المناولة الروحية. إننا نقبل من الرب القيام بهذه التضحية ونتبع توجيهات أمنا الكنيسة والسلطات المدنية حفاظًا على ارواحنا وارواح جميع ابنائنا إلى أن نعبر هذه المحنة بسلام فنتمم في اجسادنا ما ينقص من الآم المسيح".

واختتم المطران بقوله: "إن الصليب الذي حمله يسوع المسيح عنا أجمعين كان أثقل بكثير، وبقوة صليبه انتصر على الخطيئة والموت وهذا سبيلنا نحن أيضًا متى حملنا صليبنا بصبر وقبول فسوف ننتصر على جميع الآلام والمشقات والصعاب بما فيها هذه المحنة، ونفرح معه ومع بولس الرسول نردد، نشاركه في الآمه لنشاركه أيضًا في مجده واثقين أن آلامنا في هذه الدنيا لا توازى المجد الذي سيظهر فينا (رو 8/ 17–18)".