موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٩
الأحد الثالث لزمن المجيء، السنة ج

رئيس الأساقفة بيير باتيستا :

(متى ١١، ١-١١)

في المقطع الإنجيلي الخاص بهذا الأحد الثالث من زمن المجيء (متى ١١، ١-١١) نلتقي بشخصية يوحنا المعمدان من جديد. لا نجده هذه المرة في الصحراء، حيث كان يدعو الجميع إلى الارتداد والتوبة وإلى انتظار ذاك الّذي لا بد أن يأتي، بل نجده في السجن. هو سجين ومُرغم على الصمت من قِبل هيرودس أنتيباس (راجع متّى ١٤، ٣-٤).

في داخل السجن يسمع يوحنا بأعمال يسوع، فتصيبه الدهشة: كان أعلن عن مجيء المسيح الذي كان سيقوم بعملية ثورية لينقّي بيدره (متى ٤، ١٢). أنبأ عن مسيح ناريّ كان سيضع كل الأمور في نصابها الصحيح، مسيح كان الجميع في انتظاره. غير أن الأنباء الّتي وصلته عنه لا تتوافق مع هذه الصورة على الإطلاق.

ومن هنا جاء السؤال الذي طرحه يوحنا، بواسطة بعض تلاميذه، على يسوع: "أأنت الآتي، أم ننتظر آخر؟" (متّى ١١، ٣). إنه سؤال حيوي بالنسبة للمعمدان. لقد قضى كل حياته في التحضير لمجيء يسوع، وربما يعلم أنه لن يخرج من هذا السجن حياً. بهذا السؤال، يبدو كما لو كان يخاطب نفسه: هل هو حقًا الشخص الذي قضيت كل حياتي من أجله ومن أجله سأموت؟ لماذا لا يجري ما كنت قد أعلنته عنه؟ هل يُعقل أني قد أخطأت في كل ما يتعلق به؟

كلمات يسوع لا تُجيب على السؤال مباشرة.

يُحيل يسوع إلى يوحنا ما يعرفه يوحنا جيدا وهو ما يحدث تحت نظر الجميع. وما يحدث بالفعل هو أنّ العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُشفون ... ، والإشارة هنا واضحة إلى النبوءات المسيحانية المختلفة الواردة في نبوءة أشعيا.

دعونا نتوقف عند الآية ٤: "اذهبوا وبلغوا يوحنا ما تسمعون وما ترون".

المسألة ليست مجرد رؤية، بل أيضًا مسألة إصغاء، أي الفهم بأن ما يجري هو بالضبط عبارة عن تحقّق الكلمة التي كانت إسرائيل تسمعها منذ قرون؛ نحن على يقين بأن الأمرين، في نهاية المطاف، قد تزامنا، وأن ما كانت العيون تراه هو ذات ما كانت الآذان تسمعه أيضاً. إنّ وعد الربّ يتتحقّق الان.

بالنسبة لنا اليوم، يعني الأمر أن الإنسان لا يرى ما لم يكن قد استمع إليه من قبل، وأن الرؤية والاستماع يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب. إذا نظر الإنسان إلى أحداث الحياة بدون أن يكون هناك كلمة تُدوّي في قلبه، فإنّه لا يفهم معنى ما يحدث. يرى الإنسان ما يُؤمن به وليس العكس.

ولكن هناك أيضًا أمر جديد في كلام يسوع. في اقتباسه للنبوءات المسيحانية، يُقوم يسوع بعملية انتقاء: يأخذ شيئاً ما ويترك شيئاً آخر. لا يورد الاقتباسات بكاملها. فهو يترك كل ما يتحدّث عن الانتقام وعن العقاب والقصاص، بينما يُبرز تفضيله للفقراء والآخِرين والّذين يتمّ الإعلان عن البشرى السارّة لهم. وكمثال على ذلك يقتبس الآية٦١، ١ من نبوءة أشعيا، الّتي تتحدث عن الحرية للسجناء: "أرسلني لأبشر الفقراء وأجبر منكسري القلوب وأنادي بإفراج عن المسبيين وبتخلية للمأسورين" ولكنه يترك الجزء الثاني من نفس النص، الّذي يتحدث عن "يوم انتقام لإلهنا..." (أشعيا٦١، ٢).

وهذا بالضبط ما يجعل يوحنا في حالة تشكك واندهاش. ولهذا السبب يضيف يسوع في النهاية: "طوبى لمن لا أكون له حجر عثرة!" (متى ١١:٦).

يوحنا، مثل أي شخص آخر، يجب أن يبذل جهدا لقبول الأمر الجديد. بعد دعوة الجميع في الصحراء للتوبة والارتداد، عليه الان القيام بذلك من داخل السجن. وهذا هو الارتداد الأصعب، لأن الأمر ليس مسألة إقرار بخطاياه الشخصية، بقدر ما هو تغيير الصورة الّتي لديه عن الرب، وتقبله لإله يختلف عن الإله الّذي كان ينتظره.

إن المصطلح الذي يستخدمه يسوع في نهاية إجابته قوي للغاية، ويشير إلى احتمال أن يكون حجر عثار له (متّى ١١،٦). يمكننا القول أن مجيئه، بالضرورة، يجب أن يعثّرنا بشكل أو بأخر.

وهناك نوعان من المعثرة.

هناك المعثرة الايجابية الخاصة بأولئك الذين يندهشون من إله صالح الى هذا الحدّ، إله يصير صغيرًا وفقيراّ بهدف الوصول إلى الصغار والفقراء، إله ينبذ الانتقام والتسلط، ويختار أن يُحب الجميع. وهناك معثرة أولئك الذين ينغلقون عن التجديد، ولا يستطيعون قبول إله من هذا القبيل.

وبين هذين النوعين من المعثرة، هناك مساحة للارتداد، ونحن مدعوون إليها مرّة أخرى، وهي تشمل حياتنا كلّها.

في هذا الصدد، ربما ينبغي إعادة قراءة كلمات يسوع في نهاية هذا المقطع، عندما يقول بأن يوحنا رجل عظيم، ولكن من ينتمي إلى الملكوت هو أعظم منه بكثير (متى ١١، ١١).

وهذا يعني أن أولئك الذين يقبلون، من خلال النعمة، معثرة التجديد الذي أتى به يسوع ويسمحون لحياتهم بأن تتغيّر، فإنهم يولدون ثانية لحياة جديدة. يوكد يسوع بأن الحياة الجديدة لم تعد الولادة الجسدية، بل هي حياة الربّ ذاتها فينا.