موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٣
الأب علاء علمات في مراجعة لكتاب "من أجل حدود مفتوحة بين الزمن والأبدية"

بيت جالا - الأب علاء علمات :

مراجعة كتاب "من أجل حدود مفتوحة بين الزمن والأبدية"
للأب رفيق خوري
منشورات مركز اللقاء، القدس 2012
مقدّمة الكتاب لغبطة البطريرك ميشيل صباح البطريرك الأورشليمي للاتين المتقاعد

خلالَ دراستي اللاهوتَ العقائدي في روما (2010-2012)، كانت تنتابُني صفعاتٌ مِن الدّهشةِ فيما أقرأ. وعندَ عودتي إلى مهدِ تنئشتي الكهنوتية؛ إلى المعهد الإكليريكي في بيت جالا، أهداني الأب رفيق خوري مولّفَه الأخيرَ وليسَ الآخِر "مِن أجلِ حدودٍ مفتوحة بينَ الزمنِ والأبدية"، فطفقتُ أقرأُه بشوقٍ على جرعاتٍ قبلَ مَنامي. (على فكرة، أنا مُدمِنٌ على القراءةِ الخفيفة في سريري قبل النوم، ولكنّ هذا الكتابَ أرّقني). ولا أُخفي عليكم أن هذا الكتابَ أرّقني –ولم يزَل- لأنّه يوقظُ فيَّ شهيّةً لاهوتيّةً كادَت أن تُفارِقّني بعد الإنتهاء مِن دراسةِ الماجستير، بالإضافةِ إلى أنّ "الصوتَ النبوي هو صوتٌ استفزازي" كما جاء في الكتاب الذي أعتبرُه مِن النوعِ "النبويّ".

عُدتُ إذن إلى الأراضي المقدّسة؛ إلى أرضِ التجسّد: إلى "كنيسةِ الجلجلة" كما يدعوها غبطةُ البطريرك فؤاد الطول، إلى "كنيسةٍ متجسّدة" كما يدعوها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، إلى "كنيسة الرجاء" كما يدعوها الأب جان كوربون. وجدتُ نفسي في طيّاتِ هذا الكتاب أمامَ "لاهوتٍ سياقي" يعشقُ المكانَ والزمان، أمامَ "لاهوتٍ مُتجسّدٍ" يحترفُ قواعِدَ لُعبةِ "الآنَ وهُنا". فمِن إيمانٍ بإلهٍ متجسّدٍ، وبكنيسةٍ متجسّدة، و"بلاهوتٍ متجسّدٍ في تُربةِ بِلادِنا"، يجدُ القارئُ الحَذِقُ ذاتَه أمامَ كاهنٍ ولاهوتيٍّ وإنسانٍ "متجسّدٍ" في لُغةِ وواقعِ وتربةِ بلادِه المقدّسة التي أحبّ، لأنَّ اللهَ أحبّها.

ولكنَّ هذا "البُعدَ التجسُّدي" لا يتضمّنُ "البُعدَ الإنغلاقي" ولايستبعِدُ "البُعدَ الإنفتاحي"، فترى مؤلّفَ الكتابِ يُشرّعُ أبوابَ الإنفتاحِ على الأبدية. لا على تلك الأبديّة التي ستأتي لاحقاً بعدَ الموت، ولا على تلكَ الأبديةِ التي تخدّرُ مُعاناتَنا بأفيونِ المواعِد المُستقبليّة والتي "لا شأنَ لها مع الزمن". بل بالأحرى على الأبديّةُ التي "بدأت" و "لم تكتمل بعد" مع تجسّدِ اللهِ الذي تجلّى في يسوعَ المسيح. ومع هذه الألفاظ اللاهوتية، لا يُخفي المؤلفُ خشيتَه من اختيارِها، ولا يرفضُ النقّاشَ في صوابيّتِها.

كتبَ مرةً غبطةُ البطريرك ميشيل صباح في تقديمِه لأحد كُتُب الأب رفيق، فقال: "والأب رفيق خوري، مِن كهنةِ البطريركية الأورشليمية اللاتينية (...)، وهو أحدُ كِبارِ المفكّرينَ في كنيسةِ القدس، وقد عاشَ الكثيرونَ بروحِهِ وصلاتِهِ وإرشادِهِ وتعليمِهِ وقدوتِهِ ومودّتِهِ للجميع". وأشهدُ أنَّ ما قيلَ فيهِ صحيح. قالَ أحدُهم: "إذا أردتم تكريمَ كبيرٍ فلا تُعطوهُ بل خذوا منه، بهذا تكرّمونَه". وفي اعتقادي أنّنا –إلى الآن- لم نُكرّم الأب رفيق بالقدرِ الكافي، لأنّنا لم نأخُذ منه بعد كفايةً، مقارنةً مع ما أعطاناه مِن كنوز.

ومجلّدُ "نحوَ لاهوتٍ متجسّدٍ في تُربةِ بلادِنا" هو أحدُ كنوزِ وإبداعاتِ الأب رفيق، والذي كما قال في مقدمتِه "هو الأولُ مِن أربعةِ مجلّداتٍ ستُنشرُ تباعاً إن شاءالله". صحيحٌ أنَّ هذا الكتابَ يحتوي على "مقالاتٍ أو محاضراتٍ أو مداخلاتٍ نُشرت متفرّقة"، غير أنّ قاسماً مُشتركاً يجمعُ بينها، وهو الواقعيّة التي تطالُ إنسانَ هذه الأرض المقدّسة، في موروثاتِه الدينية والحياتية. هو قاسمٌ مُشترَكٌ يُلقي الضوءَ على "ما يكونُ الإنسانُ اليوم"، ولكنّه يدعوهُ إلى "ما يجبُ أن يكونَ عليه". هذه المقالات المتفرّقة مع هذا القاسم الذي ذكرنا تجعلُ اجتماعَها في كتابٍ واحدٍ سمفونيّةً متجانسةَ الآلاتِ والموسيقى. ولذلكَ جاءت هذه المقالاتُ مِنَ الأب رفيق متوافقةً تماماً مع "روحِانيّة إنسانِ الأرضِ المقدّسة" كمِن أهلِ بيتِها الأدرى بشِعابِها، لا غريبةً عنها كِمن ضيفِ شرفٍ متطفّل أو كمِن سائحٍ يسيح.

نستشفُّ من محاضراتِ هذا الكتاب واقعيّةً مميّزة تصِلُ إلى حدِّ الحديثِ عن "بائعِ الفلافل". كما تُفرّحنا ولادةُ لاهوتٍ فلسطيني محلّي، يستشعرُ واقعَ الاحتلالِ ويقولُ كلمةً إنسانيّة ونبويّةً في ضوءِ كلمةِ الله. ثمَّ نجدُ تأمّلاً تصويرياً عن تلميذيّ عمواس تخالُ نفسَكَ تقرأ الكلماتِ كأنّها "أيقونة" وتتأمّلً مع المؤلفِ في أيقونةِ الثالوثِ الأقدس لأندريه روبليف، فتندهِش من كونِ الثالوثِ الأقدسِ يتأمّلُ في وجهِكَ باحِثاً عن صورتِه فيكَ. كما نستشعرُ رجاءَ مؤلِّفِنا في أن يكونَ مستقبلُ المسيحين في الشرق، مُستقبلاً مُشرِقاً: في البُعدِ الكنسي الداخلي بالإنتقالِ من الطائفية للولوجِ إلى سرِّ الكنيسة؛ وفي الحِوارِ المسكوني؛ وفي البُعد العلائقي بين المُسلمين والمسيحيّين والذي تُشكّلُ حضارةُ كُلُّ منهما جزءاً لا ينفصل مِن هويّةِ الآخر... الخ.

وصفوةُ القولِ أنّ هذه المحاضرات في شكلِ كتاب، تشكّلُ "خارطةَ طريقٍ – carta magna" لمسيحيّ بلادِنا في إيمانِهم بالمسيحِ وفي انتمائِهم في الكنيسة وفي شهادتِهم في المجتمع. وهي لهم فسيفساءُ جميلةٌ في تعدّديتِها وتناغُمِها: اللاهوت المسيحاني، اللاهوت المريمي، اللاهوت الكنسي المحلي، اللاهوت السّياقي، اللاهوت الفلسطيني، لاهوت الثالوث، لاهوت التحرير، لاهوت التجسّد، لاهوت الفِداء والقيامة، لاهوت الأيقونة. وكُلُّ عبقريةِ الأب رفيق استُخدِمَت للتطرّقِ إلى هكذا مواضيعَ لاهوتيّةٍ بأسلوبٍ شيّقٍ ولغةٍ ساحرة تُناسبُ جميعَ الأذواق. وما يُعطي هذا الكتابَ –في رأئي- طابعاً لُغوياً ولاهوتياً فاتِناً، هو بعضُ المفرداتِ والألفاظِ الرائعة التي يجدها القارئ في غياهب صفحاته، وأذكرُ منها:

(اللهُ بحرٌ يستوعبُنا أكثر مما نستوعبه – نلتقي بالله، أو بالأحرى يلتقي هو بِنا، عندَ حدودِ عجزِنا – المحبةُ علاقةٌ وشركة – فاللهُ يكشفُ عن ذاتِه الإلهيةِ للإنسانِ ويكشفُ عن ذاتِ الإنسانِ للإنسان – فما دُمنا في خانةِ الأنا فاللهُ عبدٌ لنا – إنّ السجودَ عملٌ سياسي – فالإنسانُ هو همُّ اللهِ الأكبر – ذاكرةُ الماضي وحيويةُ الحاضر ومواعيدُ المستقبل – الكلمةُ تصنعُ الحياة، والحياةُ بدورِها، تفجّرُ ما في الكلمةِ من طاقاتٍ وإمكاناتٍ لا يحدُّها حد – إنّ كلمةَ اللهِ حدثٌ خلاصيّ - فالكلمةُ فعلُ خلق – الوحيُ المستمرُ، ليس بمعنى وحي جديد، بل بمعنى أن كلمةَ اللهِ تبسُطُ إمكاناتِها اللامحدودةِ في ظروفٍ تاريخيّةٍ دائمةِ التغيّر – نودّ أن نرصُدَ معالمَ حالةٍ لاهوتيّة تنتظرُ مَن يحوّلها إلى فكرٍ لاهوتي – إنها كنيسةٌ متجسّدة على غرارِ المسيحِ المتجسّد – كما يساعدُ اللاهوتُ المحلي على ربطِ الأبديةِ بهذا الزمن – مخاضٌ حضاري – مسكينٌ هوَ اللهُ في هذا الشرق – أصبحت الثقافةُ لا دينيّةً، والدينُ لا ثقافي – ليس التاريخُ قوةً عمياء، بل بيئة إلهية تتجلّى فيها إرادةٌ ربّانية – انتقلوا مِن سجنِ الذاكرة إلى رحاب النبوّة – فالعودةُ إلى الأصولِ تؤدي إلى الأصالةِ، وليسَ حتماً إلى الأصوليّة – الواقعيّة الخلاّقة والواقعيّة المهزومة – إنَّ الشرقَ هو أرضُ التجسّد – ديناميّة سرّ التجسّد – ديناميّة فصحيّة – كنيسة الحِوار – روحيّة الحِوار – كنائسُنا موسومةٌ بعلامةِ الفصحِ المجيد – خطاب البطريرك صبّاح هو خطابُ الأصالةِ والشموليّةِ والانفتاح – روحانية مواجهة الصعاب...)، وإلى آخره مِن قاموسِ كلماتٍ أخرى مُضيئة.

يجدرُ القولُ أن اعتبارَ هذه الجملِ أو المصطلحاتِ مجرّدةً مِنَ السّياقِ التي قيلت فيه، يُعدُّ نوعاً مِنَ التحريفِ لفكرِ قائلِها. أمّا أخذُ اعتبارِ السياقِ التي قيلت فيه كاملاً، سيؤدي إلى تقدير الجرأةِ اللاهوتية التي تفرّدَ بها المؤلفُ، والتي تُطوِّعُ الكلماتِ لتحتضنَ المعاني.

وأخيراً فإنَّ الكلماتِ الأصلحَ، ليست تلكَ التي تُقالُ عن شخصٍ ما، بل ما قاله ذلك الشخصُ عن ذاتِه. ولكن ما السبيلُ كي نتعرّفَ على الأب رفيق خوري إن كانَ لا يُجيدُ الكلامَ عن نفسِه؟ وللإجابةِ عن هذا السؤالِ أقول: شخصُ الأب رفيق خوري موجودٌ في المعهد الإكليريكي في بيت جالا، وفِكرُه موجودٌ في هذا الكتاب، فتفضّلوا جميعاً بالتعرّفِ إليه، شخصياً وفِكرياً، وستجدونَ –بالتأكيدِ- ما يُثيرُ إعجابَكم.

إن نصحتُكم فقط بقراءة هذا الكتاب، فلا أكونُ قد وافيتُ المؤلِّفَ حقَّه. ولكي لا أكونَ مُجحِفاً بحقِّ الكتابِ نفسِه، فإني أدعوكم لقراءتِه مراراً، والتفكُّرِ فيهِ في حلقاتٍ دراسيةٍ نقاشية، والاستشهادِ بِهِ في محاضراتٍ أو أبحاثٍ أو عِظات.

أتمنّى لكم التوفيقَ في أن تكتشفوا في الكتابِ بعضاً مِن ذاتِ الأب رفيق خوري، لأنّ الكتابَ –في نظري- أيقونةٌ للمؤلف. كما وأرجو أن تجِدوا فيهِ بعضاً مِن ذاتِكم، لأنّه إن قُلتَ لي ماذا تقرأ أقولُ لَكَ مَن أنتَ. فيا أيها المسيحي والمسلمُ المتجسّدُ في أرضِنا المقدّسة، هلمَّ وتعرّف على هذا الكتابِ، وعلى مؤلِّفِهِ، وعلى ذاتِكَ أيضاً.

وتفضّلوا بقراءةٍ ممتعة

الأب عـــلاء نــديــم عـــلـمـــات
عميد كلية الفلسفة واللاهوت
أستاذ في اللاهوت العقـائـدي
المعهـد الإكليريكي-بـيـت جالا