موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الثلاثاء، ١٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٩
الأب ريمون جرجس يكتب: الحرية الدينية حق للشخص الإنساني

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

يمر العالم بأزمة دوليَّة خطيرة، لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إنَّه "زلزال" أنثروبولوجي وأخلاقي، مليء بالطاقة المدمّرة للنظام الإنسانيّ والمؤسّسات الديمقراطية، وهي تضرب أقدس حقوق الإنسان الأساسيَّة وتهدد بإنهيار البعد الديني الحرّ في حياة الإنسان. إنَّها الفلسفة العلمانية التي تهيمن على الفكر الفلسفيّ والثقافيّ في الغرب والشرق، وتدفع بسياسات وتشريعات تهدف إلى تهميش البعد الدينيّ على أساس الاعتقاد بأنه قد اختفى مع ظهور الحداثة.

الإيمان الديني، كما يقول البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر، ليس جزءًا منفصل عن هوية الشخص، بل يتخلله بالكامل. ويحذر البابا من أنه "من غير المعقول أن يقوم المؤمنون بقمع جزء من أنفسهم -إيمانهم- كي يكونوا مواطنين فاعلين، فليس من الضروري أبدًا رفض الله كي يتمتعوا بحقوقهم الخاصة". لذا، فقد خُلقنا على صورة الله ومثاله، وإذا لم يكن هناك إله، تبقى الكرامة الإنسانية كلمة منمَّقة فقط. ومن الناحية العملية، لا يمكن أن يكون هناك قانون أو دستور يحمي الحرية الدينية دون أن يضمن للناس عيش عقيدتهم بحريّة. فإن احترام كرامة الإنسان الذي يتجذر فيه الحق في حرية عبادة الله يمنع أي شكل من أشكال الاختيار الأحادي أو المنع من الممارسة. لذلك لا يمكن لدولة طائفية أن تحمي دين الدولة، إذ أنها تضغط على الضمائر، ولهذا يعتبر انتهاك للحرية الدينية. فإنَّ حماية الحرية الدينية هي اليوم ضرورة ليس فقط بالنسبة للمؤمنين، وإنما أيضًا لغير المؤمنين وللمجتمع ككل. يحمي حقّ الاختيار لدين خاص أو تغييره. لذا نقول في البداية الحديث إنَّ حماية حقّ الحرية الدينية هي اليوم ضمانة أساسية للتعددية الفكرية والدينية وأساس لا غنى عنه لمناخ التعايش والاحترام المتبادل.

لذلك، اسمحوا ليّ أن أتطرّق اليوم إلى موضوع هو أكثر حساسية من أي وقت مضى ألاَّ وهو حقّ الحرية الدينية؛ أقدم الحقوق الإنسان الأساسية والذي يعتبر أساس لبناء مستقبل السلام والتكامل بين الشعوب والثقافات. وللأسف هو اليوم أكثر الحقوق انتهاكًا. لا يمكننا السماح لبعض الأصوات التي تدعي أنها تمثل التقدم والانفتاح الفكري أن تجعلنا نصمت. فعلينا أن نعلن عن وجهات نظرنا بصدق ومحبة وهدوء. نلتقي اليوم لهدف مشترك متمثّل في الحفاظ على حقّ الحرية الدينية، لأننا نؤمن بالله، كحقيقة موضوعية، مطلقة والتي لا تعتمد على عقولنا أو إرادتنا، حتى لو كان موضوع البحث بإرادة حرّة وبعقل بدون أحكام مسبقة. وأي كلام حول هذا الموضوع يجب أن ببدأ مع الحقيقة أن الحرية الدينية حقّ أساسي من حقوق الإنسان، وهو حق لا غنى عنه. لذلك نصَّ القرآن الكريم على حرية الاعتقاد والتدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقـال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" البقرة /256 ،وذلك للإرشاد إلى حسن الاختيـار، وليتحمل الإنسان مسؤولية اختياره، فأكمل االله الآية بقوله تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بـاالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، واالله سميع عليم" البقرة 257. لذا يترك الإسلام للإنسان حريته واختياره في العقيدة، لأن الإيمان أساسـه إقـرار القلـب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدى بالأبدان.

لذلك، حقّ الحرية الدينية يعني حقّ "العبادة لله وفقا لحكم الضمير العادل والاعتراف بدين (الإنسان) في الحياة الخاصة والعامة". وانتهاك هذا الحقّ هو "الظلم الجذري" لأنها تمس جذور الكرامة الإنسانية، التي هي أقدس ما لدى الإنسان. بهذا المعنى فإنَّ حماية حقّ الحرية الدينية تتطلب في نفس الوقت حرية الضمير. من هنا ينشأ لكل شخص "الحق في عبادة الله وفقا لما يمليه الضمير المستقيم، وبالتالي الحق في العبادة لله الخاصة والعامَّة". ومن الواجب الأخلاقي لكل شخص البحث وراء الحقيقة بهدف معرفتها. وهذه الحريَّة تأتي مباشرة من الله وهي مقدّسة فيجب إحترامها كي يعيش المؤمنون وفقاً لما يمليه عليهم ضميرهم، وأن يكونوا قادرين على إظهار شخصيّتهم بحريَّة. لذا يجب فهم الحريَّة الدينيّة بالتزامن مع إحترام الإنسان كشخص. "أي أنه طبيعة وهبت العقل والإرادة الحرة. وبالتالي فهو موضوع حقوق وواجبات، تنحدر مباشرة وفي مجموعها من طبيعته: فهي إذن حقوق وواجبات تتميز بشمولها وحرمتها وعدم قابليتها لأن يتنازل عنها". لذلك، فإنَّ حق الحرية الدينية قائم على أساس الكرامة الأنطولوجية الأساسية للشخص البشري، وليس على أساس عدم وجود مساواة بين الأديان. قال البابا بولس السادس أنَّ "المجمع، لم يؤسس حق الحرية الدينية على حقيقة أن جميع الأديان، والعقائد، حتى الخاطئة، والتي تهم بهذا المجال، سيكون لها قيمة أكبر أو أقل على قدم المساواة. بل فإنه يقيمه على أساس كرامة الشخص الإنساني، الذي يطالب بعدم خضوعه للاكراهات الخارجية التي تهدف إلى قمع الضمير في البحث عن دين حقيقي والتمسك به».

إذن، الحرية الدينية حقّ تقتضيه كرامة كلّ كائن بشريِّ وكلّ مواطن مهما كان أصله أو قناعاته الدّينيّة أو خياراته السّياسيّة. وهو يفرض نفسه على جميع البشر بغض النظر عن انتمائهم الديني. ومن الخطأ أيضًا اعتبار الحرية الدينية مجرد حرية من بين الحريات الآخرى، بل "الحُرِّيّة الدِّينيِّة هي تاج كلّ الحُرِّيَّات. إنَّها حَقٌّ مُقَدَّسٌ وغير قابل للتفاوض". وهي لا تقتصر على حرية العبادة فقط إنَّما "تَشمل في الوقت ذاته، الصّعيدين الفرديّ والجماعيّ، حُرِّيّة اتباع الضَّمير في المسائل الدِّينيِّة؛ حريّة اختيار الدّيانة الَّتي يرتأي الشَّخص أنَّها صحيحة والتّعبير علانية عن هذا المعتقد". وهذا للأسف، لا يحدث في بعض الأماكن، حتى لو اعترفت الكثير من الدول الحديثة في ميثاقها الدستوري بمبدأ الحرية الدينية. وهنا نذكر الإرشادُ الرَّسوليُّ "الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسط شهادة ورسالة"، لعام 2012، الذي وضّح بأدق العبارات مسألة الحرية الدينية، على أنَّه واجب وحق مسيحيي الشرق الأوسط: "المشاركةُ التَّامّة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء أوطانهم. ينبغي أن يتمتَّعوا بمواطنة كاملة، لا أن يُعاملوا كمواطنين أو مؤمنين من درجة ثانية". لذلك، على الشرع المدني والمجتمع أن يوفرا مساحة كافية تمكّن الناس والمؤسسات الدينية أن يعتنقوا معتقداتهم بشكل أعمق وبشكل حر. فالأمر لا يتعلّق بمسألة إثبات حقيقة المعتقدات الدينية كي يتم الحصول على الحق في ممارستها؛ ولا قبول أي شكل من أشكال التدين وفقاً لمنطق النسبية أو اللامبالاة. بل على العكس. فإنَّ العلاقة بين أنظمة الدولة والمعتقدات الدينية يجب أن تنطلق من مطلب أنثروبولوجي عام، مطلب يجب السعي إليه بحذر في حوار مع مختلف التيارات الثقافية. بشكل عمليّ، " يجب أن يُسمح للإنسان بممارسة ديانته والتّعبير عن رموزه بحريّة، دون أن يعرض حياته وحريته الشَّخصيّة للخطر". لذلك، لا يمكن أن يقتصر الضمان الكامل للحرية الدينية على حرية ممارسة العبادة فقط؛ ولكن أيضاً أن يستطيع المؤمنون القيام بدورهم في بناء نظام اجتماعي". وكما أشار البابا فرانسيس إلى أن الحرية الدينية "حق أساسي يشكل الطريقة التي نتفاعل بها اجتماعيّاً وشخصيّاً مع جيراننا، الذين تختلف رؤيتهم الدينية عن رؤيتنا".

من هذا السياق، نستنتج أنَّ التزام الكنيسة بالدفاع عن حقوق الإنسان، وأولها الحرية الدينية، لا يعتمد على مفهوم ديني حصري، بل على الاعتراف بالكرامة الفائقة الطبيعة لكل شخص، ولإيمانها أنَّ حقوق الإنسان هي جامعة وغير قابلة للتجزئة ومترابطة، قائمة في القانون الطبيعي المكتوب في قلب كل إنسان والحاضر في مختلف الثقافات. فإذا "كان جميع الناس أشخاصاً، أي ذوي عقل وإرادة حرَّة، ومن ثمَّ ذوي مسؤولية شخصية، فبداعي كرامتهم وبدافع من طبيعتهم نفسها ومن الإلزامية الأدبية يجب عليهم أن يطلبوا الحقيقة، ولا سيما تلك التي تتعلَّق بالدين". فحق الحرية الدينية"حق طبيعي لأنَّه مسجل في طبيعتنا البشرية. الحرية الدينية، وحرية الضمير ، هما أهم الحقوق التي يتمتع بها كل إنسان مع الحق في الحياة". في هذا المنظور، أكَّد البابا يوحنا بولس الثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 1995، على أهمية الحفاظ على "الحق الأساسي في حرية الدين وحرية الضمير وإنهما الأعمدة الأساسية التي تقيم عليها حقوق الإنسان وأساس المجتمع كلّه حقَّاً حر. ولا يجوز لأحد أن يبيد هذه الحقوق من خلال استعمال القوة القسريّة لفرض جواب على سرّ الإنسان".

الإنسان، يقبل ويعترف ضميرياً بواجبات الشَّرع الإلهيّ، وهو مطالب بأتباعها في كل أفعاله من أجل الوصول إلى الله، هدفه الأخير". والضمير هو حكم العقل الذي من خلاله يكتشف الإنسان القيمة الخلقية لعمل ما سيقوم به أو يقوم به الآن أو قام به في الماضي". لذلك، كي يتمكّن الضمير الأخلاقيّ، من قيادة التصرَّف الإنسانيّ بجدارة، عليه قبل كل شيء أن يرتكز على أساس حقيقة صلبة، أي عليه أن يكون مستنيرا كي يتعرف على قيمة الأعمال الحقيقيّة وعلى صلابة موازين التقييم، لكي يعرف أن يميز بين الخير والشر، حتَّى عندما لا تساعد البيئة الإجتماعيّة، والتعددية الثقافية والمصالح المتشابكة على ذلك.

إنَّ حقّ الحرية الدينية مثله في احترام الضمير في سعي الإنسان إلى الحقيقة، يُعتبر بنوع خاص وكل يوم أساس حقوق الإنسان بمجملها. لذلك الحرية الدينية هي في قمة حقوق الإنسان الأساسية، إذا هُددت وفُقدت، في أي جزء من العالم، فإنها تسبب في انهيار كامل لحقوق الإنسان". وإنَّ الرغبة في حرية وكرامة الإنسان تكمن في كل إنسان. هذه الطموحات ليست مشروطة ثقافيّاً أو نتيجة لفرض المثل الغربية. فهي جزء من كل واحد منا. ويستند النظام العالمي للقانون الدولي الحديث إلى هذه القيم العالمية التي يتقاسمها الناس من جميع الثقافات والمجموعات العرقية والديانات.

تفسر العلاقة بين حقّ الحرية الدينية وواجب البحث عن الحقيقة السبب في أن حقّ الحرية الدينية هو مصدر جميع حقوق الإنسان الأخرى. فإن الاعتراف بالحرية الدينية واحترامها يعني الاعتراف بالبعد الديني للإنسان". والإنسان يستطيع قبول هذا البعد ورفضه أيضاً بحرية، ولكن كونه جزء من الطبيعة البشرية فهو موجود لدى الجميع. فإذا كان السعي وراء الحقيقة يجعل الإنسان يستحق التقدير والاحترام، فالبحث عن الحقيقة الدينية، "يعبر عن أعمق تطلعات الشخص الإنساني [...] الذي يقدم في الأساس، الجواب على السؤال حول المعنى الحقيقي للوجود الشخصي والاجتماعي". والاعتراف بطموح الشخص للأساس السامي وهو الله كبعده الطبيعي الخاص نفهم أيضاً أنَّ "الحقيقة في الإنسان هي قيمة سامية". وهذا هو السبب في أن حقّ الحرية الدينية هو "قلب الحقوق الإنسانية". ويجب أن تستند حقوق الإنسان إلى بُعد أسمى من البعد السياسي. حرية الدين تتمثّل في حرية تأسيس حقوق الإنسان بشكل مطلق. لذا فإنَّها حقّ ليس فقط للمؤمنين بل للجميع. -قد تكون هناك أديان تتعارض في ممارساتها مع حقوق الإنسان نفسها وهي تدّعي بحريتهم. وهذه هي حالة الإرهاب، الذين يقتلون باسم الله: "عندما تكون فكرة معينة عن الله هي أصل الأعمال الإجرامية، هذه علامة على أن هذا المفهوم أصبح بالفعل أيديولوجية". الأديان قد تناقض حقوق الإنسان حتى عندما لا تعترف بالكرامة المتساوية لجميع البشر دون تمييز في الجنس أو العرق أو الطبقة الاجتماعية.

"من دواعي القلق الشديد أن ينكر البعض اليوم البعد العالمي لحقوق الإنسان، وينكرون أن هناك طبيعة بشرية يتقاسمها الجميع. "التأكيد على التعددية المشروعة لـ"أشكال الحرية" شيء، ولكن إنكار أي بعد عالمي لطبيعة الإنسان أو للتجربة الإنسانية شيء آخر". لذلك لا بد من الانتباه من الخطر المتمثل في أن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" يتم إفراغه تدريجياً من السلطة الاخلاقية والقوّة الملزمة، بسبب الانتشار المتزايد للفكر الفلسفي والسياسي للفردانية التحررية، الذي يتناول مفهوم الحرية الزائفة المنفصلة عن الحقيقة، والتي لا تعترف بحدود أخلاقية موضوعية للسلوك الشخصي والاجتماعي، ولا تعترف بوجود قيم موضوعية وأخلاقية عامّة ملزمة من الناحية القانونية، من بينها المفهوم الصحيح "للحرية الدينية" والممارسة الصحيحة لهذا الحق. في الواقع، التشريع كنظام هو ممثّل بمجموعة قواعد وعلاقات تنظم الناس في مجتمع اجتماعي. وهذا النظام يجب ان يتّخذ هيكلية يأخذ في الاعتبار أن الشخص البشري هو الأساس والغاية من الحياة الاجتماعية.

إن أحد الأشكال الرئيسية لحماية حقّ الحرية الدينية وحقوق الإنسان الأخرى هو اعتراف الدولة بالحقّ في الاعتراض الضميري، والقيم المتسامية المتأصلة في كرامة الإنسان؛ دعوة الإنسان إلى طاعة الله. أيضا في هذه الحالة، الدولة ملزمة بالاعتراف بهذا الحق ليس لأسباب "دينية"، ولكن لسببين يرتبطان بحقيقة الشخص البشري: السبب الأول هو الاعتراف بالوعي الشخصي باعتباره المجال الأصلي لحرية الشخص. والثاني هو الاعتراف بالمعنى السياسي لاعتراض الضمير، والذي لا ينظر إليه على أنَّه واقعة شخصية خاصة فحسب، بل عامة أيضاً لأنه يدعو السياسة نفسها إلى ما ليس تحت تصرفها، وبذلك تؤكدها في حريتها.

فلا بُد من التشديد على أن ممارسة حقّ الحرية الدينية يجب أن يتوافق مع المبادئ العامة للقوانين العالمية لحقوق الإنسان. فالمعتقد الديني أو النظام القانوني الذي "يضفي الشرعية" على التمييز والعنف والتعصب والإقصاء الاجتماعي يتناقض بشكل واضح مع القانون الدولي الحالي لحقوق الإنسان، وخاصة المبدأ التأسيسي للمادة 1 من الإعلان العالمي: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهِبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء". فعندما النظام القانوني على جميع المستويات، الوطني والإقليمي والدولي، يسمح أو يتغاضى عن التعصب الديني أو المعادي للدين، يفشل في مهمته الخاصة، والتي تتمثل في حماية وتعزيز العدالة والحق".

يعترف القانون الدولي الحالي بحقّ الحرية الدينية ضمن قاعدة تتضمن أيضًا حرية الفكر وحرية الضمير: فهو الثالوث المقدس من القانون العالمي لحقوق الإنسان. تعلن المادة 18 من الإعلان العالمي لعام 1948 أن ""لكل فرد الحق في حرية الفكر والضمير والديانة؛ ويشمل هذا الحق حرية تغيير الديانة أو المعتقد، وحرية اظهار بشكل فردي أو جماعي وفي الأماكن العامة أو الخاصة، ديانة الشخص أو معتقده في التعليم والممارسة والعبادة ومراعاة الطقوس".

في الواقع، خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان لمفهوم "الحرية الدينية" و "حقّ الحرية الدينية" دلالات مختلفة في قانون الدولة وفي قانون الكنيسة الكاثوليكية. في الحالة الأولى، كانت فكرة الحرية الدينية قائمة على أسباب مرتبطة بالمفاهيم الليبرالية، الموجهة في المقام الأول لحماية المصلحة الخاصة للفرد تجاه الدولة، التي أعلنت نفسها بدورها "محايدة" أو "غير طائفية". في الحالة الثانية، فإن فكرة الحرية الدينية -مثل "حرية الكنيسة"– قائمة على الشرع الإلهي الوضعي، والاعتراف بأنَّ الحقيقة وحدها لها الحقّ في الوجود، لذا اعتبرت الحرية الدينية من متطلبات الخير العام، وليس حقًا طبيعيًا. فالنقطة المحورية في الأصل لم تكن كرامة الشخص، بل العلاقة بين الحقيقة والخطأ: الخطأ ليس له حقوق، لكن الحقيقة فقط لها الحقّ. أمَّا في النصف الثاني من القرن العشرين، قامت الكنيسة الكاثوليكية بخطوات التقارب المذهبي التي أسست "الحرية الدينية "في نفس المفهوم الأساسي:" كرامة الشخص الإنساني"، أساس كل "الحقوق الجامعة للشخص".

أعلنت الكنيسة: "الحريَّة الدينيةَ حقٌّ للشخصِ الإنسانيّ. وهذه الحريَّة تقومُ بأنْ يكونَ جميعُ الناسِ بمعزلٍ عن الضغطِ سواءٌ أتى من أفرادِ أو من هيئات إجتماعيّة أو أتى من أيّ سُلطةٍ بشريّة، وهكذا ففي أمورِ الدينِ لا يجوزُ لأحدٍ أن يُكرَهَ على عملٍ يُخالفُ ضميرَه، ولا أن يُمنَعَ من عملِ، في نِطاقِ المعقولِ، وِفقاً لضميرِهِ، سواءٌ كان عملُهُ في السرِّ أو في العلانيّة، وسواءٌ كانَ فرديّاً أو جماعياً. وهو إلى ذلكَ يُعلنُ أنَّ حقَّ الحريَّة الدينيَّة مُتجَذّرٌ في كرامةِ الشخصِ البشريّ نَفْسِها، كما وردَ ذلك في كلامِ الوحيِ الإلهيّ وأوضحهُ العقلُ نفسه. وفي إطارِ النّظام القانونيّ للمجتمعِ يجب أن يُعْتَرَف بحقّ الشخص البشريّ هذا في الحريَّة الدينيّة بحيثُ يصبحُ حقاً مدنياً". نتيجة لذلك، أساس هذه الحرية لا يقوم فقط على حرية فعل الإيمان، ولكن قبل كل شيء في الكرامة الإنسانية.

مضمون حقّ الحرية الدينيَّة هي حريَّة "من" أي شكل من أشكال القسّر الذي تفرضه السُّلطة المدنية في المجتمع فيما يتعلّق بالإعتراف بالإيمان الشخصيّ والجماعي. وهكذا، فإن موضوع الحقّ هو الحصانة من الإكراه. ويمكن اعتباره أحيانًا حقًا سلبيًا، وليس حقًا "إيجابيًا" أي التصرف (ius agendi)، بل حقّ في عدم إكراهه أوالمطالبة بعدم التعرض للإكراه (ius exigendi). في الواقع، يجب أن نميز (دون الانفصال) بين النظام الأخلاقي والنظام القضائي. ففي النظام الأخلاقي، لا يملك الإنسان الحق "الإيجابي" في اعتماد خطأ ديني. في النظام القضائي على أنه سلبي على وجه الحصر والحق في عدم التعرض للإكراه في الأمور الدينية. في الواقع ، حتى لو لم يكن هناك حق التصرف في النظام القانوني، فإن منع من خلال الإكراه هذا التصرف لن يكون غير عادل، لذلك لن يكون هناك حق عدم الإكراه. إنَّ الإكراه في مسائل الدين "الَّذي قد يتخذ أشكالا مُتَعدِّدة وخطيرة على الصُعد الشَّخصيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والإداريّة والسّياسيّة، يتناقض مع مشيئةِ الله. وهو يُستخدم أداةً لتحقيق مآربَ سياسيّة-دينيّة، أداةً للتمييز والعنف الَّذي قد يؤدِّي للموت". بالنسبة لأولئك الذين يبررون الإرهاب، يذكر بندكتس السادس عشر قائلاً: "إنَّ اللهَ يريد الحياةَ لا الموت. إنَّه يُحَرِّم حتَّى قتل القاتل".

ذكّر البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام لعام 2011، والمكرَّسة كليَّا للحرية الدينية أنَّ هذه الحرية عالمية وهي جزء من الشرع الطبيعي. يقول البابا "يجب أن نعبد الله بحرية ولا يسمح لوجود الإكراه في طبيعة الدين كون الإنسان يتمتع بالقدرة على الاختيار الحر الشخصي ولأن الله ينتظر من الإنسان جواباً حراً على دعوته، فإن الحق في الحرية الدينية يجب أن يعتبر وراثيًا للكرامة الأساسية لكل إنسان، في انسجام مع الانفتاح الفطري للقلب البشري إلى الله". "العالم بحاجة إلى الله. يحتاج إلى قيم أخلاقية وروحية، جامعة ومشتركة، ويمكن للدين أن يقدم مساهمة قيمة في بحثه عن بناء نظام اجتماعي عادل وسلمي. ومن العفوية أن نشير إلى أن المادة 28 من الإعلان العالمي تنص على الشرعية الرسمية والكاملة للقانون الدولي الحالي: "كل فرد له الحقّ في نظام اجتماعي ودولي يمكن فيه أن تكون جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققت بالكامل". إنه سلام قائم على العدالة: السلام "هبة من الله وفي نفس الوقت مشروع يجب تحقيقه لا يتحقق أبداً بشكل مطلق".

في الواقع، "من البساطة الاعتقاد بأن حق الحرية الدينية مضمون بما فيه الكفاية، عندما لا نستخدم العنف أو عدم التدخّل في القناعات الشخصية أو عندما نقتصر على احترام مظاهر الإيمان، والذي يحدث في نطاق مكان العبادة". لذلك، إن الاحترام الكافي لحق الحرية الدينية يعني ضمناً التزام كل سلطة مدنية "بتوفير الأجواء المؤاتية لازدهار الحياة الدينية، بحيث يتمكّن المواطنون تمكناً حقيقياً من ممارسة حقوقهم الدينية، ومن القيام بواجباتهم، ويتمكّن المجتمع نفسه من أن ينعم بمعطيات العدالة والسلام الخيرة ثمرة أمانة الناس لله ولمشيئته المقدّسة". فالكنيسة "لا تضع آمالها في الامتيازات التي توفرها السلطة المدنية. إنّها قد تتخلّى عن ممارسة بعض الحقوق التي اكتسبتها بطريقة شرعية، إذا كانت ممارستها لها تحمل على الشك في صدق شهادتها أو إذا كانت أوضاع الحياة الجديدة تقتضي تنظيما آخر". مع العلم أن "الجماعة السياسية والكنيسة، في حقل كل منهما الخاصّ، وبنسبة الواحدة إلى الأخرى، ذات استقلال ذاتي وانفراد في السلطة الخاصّة". وكلاهما "في خدمة البشر أنفسهم من حيث دعوتهم الشخصية والاجتماعية". وأنهما تقومان بهذا العمل بطريقة أجدى وأفعل، لأجل خير الجميع، بمقدار ما تسعيان إلى التعاون الصحيح، على أن تراعى أيضاً احوال المكان والزمان".

ومن الواضح أن هذا المبدأ يمكن أن يوضع موضع التنفيذ العملي وخاصة عندما يكون هناك مجتمع تعددي، لدرجة أن الحكومات تحترم حقوق الأشخاص والجماعات. "فإذا، قضت أحوال بعض الشعوب الخاصَّة بأن يُعترف، في النظام التشريعيّ المدني، بإحدى الجماعات الدينية، اعترافاً مدنيّاً خاصّاً، فلا بدّ إذ ذاك من الاعتراف أيضاً لجميع المواطنين وجميع الجماعات الدينية، بالحقّ في الحرية الدينية واحترام ذلك الحقّ".

فالعلاقة بين الدين والحقيقة هي أساس الحق في الحرية الدينية. هذا ليس حقًا تعسفيًا، ولكنه تعبير عن واجب البحث عن الحقيقة. لهذا على الدولة، باعترافها بهذا الحق، أن تفعل ذلك دون أن تقطع الرابط بين الدين والحقيقة. فإذا اعتبرت الدولة حق الحرية الدينية كحق تعسفي وحُرمت من حقيقته، فسوف ينتهي بها الأمر إلى مساواة جميع الأديان في اللامبالاة النسبية التي يمكن أن تفتح الطريق إلى عدم احترام حقوق الإنسان الأساسية.

نلاحظ في أيامنا الحاضرة وجود تهديدات تُشنّ على حقّ الحرية الدينية، نجمت عن الأنظمة السياسية القمعية، التي قامت على الطائفية أو التفرد الأيديولوجي، الذي لا يسمح للمؤمنين أن يعيشوا إيمانهم بحرية أو تغيير معتقداتهم الدينية أو الطائفية. هذه مسألة ملحة ذات أهمية كبيرة، تتطلب الحوار بين الأديان والثقافات. لمواجهة هذا التحدي، والمساهمة من الأديان، يمكن أن يُحدث فرقاً من خلال تقديم اقتراح "رؤية الإيمان ليس من وجهة النظر التعصب والتمييز أوالصراع، ولكن من منطلق الاحترام المطلق للحقيقة والتعايش والحقوق والمصالحة. والتهديد الثاني أو الخطر على حقّ الحرية الدينية ينجم عن الاتجاهات الثقافية، المنتشرة بشكل كبير في الدول الديمقراطية، وبالتالي في المجتمع الدولي، والتي، حتى لو أنها تعترف رسمياً بهذا الحق، فهي تتوقف على التفسير الفرداني والضيّق الذي لا يعترف بالبعد العام للدين وللمؤمنين وبالامكانية الفعالة في المشاركة في بناء النظام الاجتماعي والسياسي، وإظهار إيمانهم وقيمهم علنا.

إنَّ تاريخ تطور مشكلة الحرية الدينية في مختلف الأديان في الشرق الأوسط يدعونا إلى موقف مزدوج: الواقعية النقدية، والانفتاح الشامل. لا يمكن تجاهل واقع الاضطهاد باسم الدين، بل يجب النظر إليه وانتقاده كخطوة إنسان بالغ في تاريخ تطور الذكاء البشري. يجب أن نكون واقعيين ونقاد في نفس الوقت. بالنسبة للأخطاء التي يرتكبها المؤمنون من مختلف الأديان لا يجب إلقاء اللوم على الله، ولكن على ضعف الإنسان فقط.يجب أن يكون الموقف الثاني موقف الانفتاح تجاه بعضنا البعض، والمؤمنون نحو الملحدين. إنها مسألة الدخول في حوار لفهم الآخر، وإدراك دينه أو تصوره للإنسان بطريقة مختلفة تجاه الله أو تجاه الإنسان المطلق. مستقبل العالم اليوم هو في الحوار والتعاون بين المؤمنين من مختلف الأديان. والدعوة موجهة إلى المؤمنين في أن نفهم بعضنا البعض، ونعمل معا لتعزيز القيم الإنسانية، وفي الاعتقاد بأن دياناتنا هي طرق مختلفة للوصول إلى الله كي نعرف إرادته ونصبح على صورته: الحب الذي يعطي ذاته. وهكذا فالحرية الدينية هي الطريق إلى أنسنة الإنسان.

حقّ الحرية الدينية يعني حقّ "العبادة الله وفقاً لحكم الضمير العادل والاعتراف بدين (الإنسان) في الحياة الخاصة والعامة". وانتهاك هذا الحقّ هو "الظلم الجذري" لأنها تمس جذور الكرامة الإنسانية، التي هي أقدس ما لدى الإنسان. بهذا المعنى فإنَّ حماية حقّ الحرية الدينية تتطلب في نفس الوقت حرية الضمير.

في مناخ من الاحترام والثقة المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين والذي يكتسب أهمية خاصة في عصرنا اليوم، نجد جماعات متطرفة حرفت المعنى الحقيقي الديني وشوهت واستغلت الخلافات بين الطوائف المختلفة، مما جعلها عنصراً خطيراً من المجابهة والعنف بدلا من التوجه نحو الحوار المفتوح والاحترام وتبادل الأفكار حول ما يعنيه أن نؤمن بالله واتباع شريعته. لا أحد يعتقد أن بإمكانه حماية نفسه من الله بينما يخطط وينفذ أعمال العنف والقمع! لا يجب على أحد أن يأخذ الدين ذريعة لأعماله المخالفة لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، خصوصاً وقبل كل شيء الحياة والحرية الدينية! في الواقع، إن التعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة هو خير لا يقدر بثمن من أجل السلام ومن أجل التنمية المتناسقة لشعب ما. إنه قيمة يجب الحفاظ عليها وتعزيزها كل يوم، ويجب الصلاة كل يوم طالبين منه هذه النعمة.

قال إيريناوس من آباء الكنيسة: "إن مجد الله هو الإنسان الحي". أعتقد أنه صحيح. وأضيف أن مجد الرجل والمرأة يتكوّن من قدرتهما، بنعمة الله، على المحبة كما يحب الله، وعندما تحدث هذه المعجزة، حتى في واحد منا، يبدأ العالم في التغير".