موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٥ سبتمبر / أيلول ٢٠١٨
افتتاح اعمال المؤتمر الخامس والعشرين للمدارس الكاثوليكية في لبنان

بيروت – أبونا :

رعى البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي افتتاح أعمال المؤتمر الخامس والعشرين للمدارس الكاثوليكية في لبنان بعنوان "استمرارية المدرسة الكاثوليكية: شروط وتطلعات"، بحضور ممثلين عن البطاركة الكاثوليك وقيادات روحية وسياسية وتعليمية ومجتمعية.

وألقى أمين عام المدارس الكاثوليكية في لبنان الأب بطرس عازار كلمة رحب فيها بالحضور، لافتًا إلى "الجهود التي بذلها غبطته ولا يزال لخير الأسرة التربوية ولضمان تأمين تعليم التلامذة مع الحفاظ على حق المعلم والمدرسة، انطلاقًا من ايمانه بان حق التلميذ في التعلم هو فوق كل اعتبار". كما ذّكر بنداءات البطريرك للدولة اللبنانية "بعدم ارهاق المواطن بالضرائب وانصاف المعلمين والاهل في المدارس الخاصة من خلال اعتماد البطاقة التربوية وان تتحمل الدولة مسؤوليتها حيال هذا الملف المصيري، ومتابعة تداعيات القانون 46 لإنتشال التعليم الخاص من الهاوية التي اوقعوه فيها".

وأشار إلى أن "حل ازمة المدارس يبقى عند الحكومة ومجلس النواب" متسائلاً عن "استمرارية المدارس الكاثوليكية في ظل وضعها المتأزم. فمدرسة مار يوسف الظهور في صور توقفت عن العمل بسبب هذه الأزمة بعد مرور 140 سنة من عطاءاتها في القطاع التربوي لكافة شرائح المجتمع اللبناني في قضاء صور. أضف الى ذلك البطالة وصرف المعلمين والموظفين وتسرب التلامذة والملاحقات غير المنطقية امام قضاة العجلة وسط صمت الدولة واختلاف المسؤولين على وزارات سيادية"، مشددًا على أن "المدارس الكاثوليكية هي ذات طابع تربوي وليس ربحي، لذلك نحن مؤتمنون عليها وحريصون على الحقوق العادلة للجميع، وسنبقى ملتزمين بالتعددية والتنوع كميزة للجودة في التعليم".

وتم عرض الواقع الحالي للمدارس الكاثوليكية في لبنان، حيث تحتضن نحو 190 ألف تلميذ، وتشكل نحو 11% من مجموع المدارس في لبنان وهي منتشرة على كافة الأراضي اللبنانية باستثناء قضائي حاصبيا والضنية. وتم التأكيد أن هذه المدارس لا يمكنها الإستمرار إن لم يتم مساعدتها ودعمها من قبل الدولة لا سيما انها تقدّم تعليمًا خاصًا يمتاز بجودته ونوعيته. ولفت إلى أنه منذ 12 سنة تم إقفال نحو 24 مدرسة كاثوليكية بسب عجزها عن الإستمرار، وبالتالي تقع على الدولة المسؤولية الأولى في تأمينها، لاسيما في غياب التعليم الرسمي الجيد.

بعدها القى رئيس اللجنة الأسقفية للمدارس الكاثوليكية المطران حنا رحمة كلمة سرد فيها تاريخ تأسيس المدارس الكاثوليكية في لبنان، ولعراقتها استغرب "كيف انها باتت اليوم موقع ادانة وتهكم وتشن عليها الحملات بأنواعها ومن كافة المستويات. فهذه المدارس تعاني اليوم من اضطهاد مبرمج سواء على الأصعدة الإدارية أو الإعلامية.

وفي الختام القى البطريرك الراعي الكلمة التالية:

1. يسعدني أن أشارك في افتتاح هذا المؤتمر السّنوي الخامس والعشرين للمدارس الكاثوليكيّة، حول "خلود المدرسة الكاثوليكيّة: شروط وتطلّعات"، وأن ألقي كلمة الإفتتاح بموضوع "تحرير المدرسة الكاثوليكيّة من أجل لبنانٍ متأنسنٍ ومتضامن". ويطيب لي أن أحيّيكم جميعًا بإسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وأهنّئكم باليوبيل الفضّي لمؤتمركم السّنوي. وأحيّي اللّجنة الأسقفيّة للمدارس الكاثوليكيّة بشخص رئيسها سيادة أخينا المطران حنا رحمه، والأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة بشخص المدير العام الأب بطرس عازار، والأستاذ ليون كيلزي العضو في لجنتها التنفيذيّة ، شاكرًا إيّاهم على كلماتهم اللّطيفة. كما أحيّي رئيسة ثانويّة مار الياس غزير التي تستضيف المؤتمر، وجمعيّة الراهبات الأنطونيّات، بشخص رئيستها العامّة الأم جوديت هارون؛ وهذا الجمهور من المعلّمين والمربّين، رجالاً ونساءً.

I- خلود المدرسة الكاثوليكيّة

2. إنّ الموضوع الذي اخترتموه لهذا المؤتمر: "خلود المدرسة الكاثوليكيّة"، لهو في محلّه تمامًا. لأنّكم، إذ تصفون المدرسة الكاثوليكيّة "بالخلود" فأنتم تعلنون أنّ خلودها من صلب طبيعة الكنيسة ورسالتها، فالمسيح أرسلها قائلاً: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم... وعلّموهم... وأنا معكم طول الأيّام، حتى نهاية العالم" (متى 28: 19-20). وبالتالي تلتزمون، مع الكنيسة، بالمحافظة عليها، أمانةً للمسيح وللرّسالة التعليميّة الموكولة منه إليها، مهما كانت الصّعوبات والتحدّيات.

أكّد القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي: "رجاء جديد للبنان" (بيروت 10 ايار 1997) أنّ "الكنيسة تتمتّع بتقليد ينبغي أن يُصان، وهي مدعوّة إلى أن تكون مربّية الأشخاص والشّعوب. فتولي المدارس الكاثوليكيّة اهتمامها بأن تشارك بفاعليّة في رسالة الكنيسة، وأن توفّر تعليمًا نوعيًا... وأسسًا ثقافيّة وروحيّة وخلقيّة، تجعل من الأجيال الطّالعة مسيحيّين ناشطين، وشهودًا للإنجيل، ومواطنين مسؤولين في بلادهم" (الفقرة 106).

II- التربية على الأنسنة

3. أصدر مجمع التربية الكاثوليكيّة في الكرسي الرسولي، للمؤسّسات التعليميّة توجيهات بعنوان: "التربية على الأنسنة المتضامنة، من أجل بناء حضارة المحبّة" (16 نيسان 2017). كتب القديس البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة الأولى "فادي الإنسان" (4 أذار 1979) "أنّ الإنسان هو طريق المسيح والكنيسة" (الفقرتان 13 و 14). وقياسًا نقول: هو طريق المدرسة الكاثوليكيّة، المؤتمنة على إكمال هذا الطريق الذي يتناول إنماء الإنسان بكلّ أبعاده العلميّة والروحيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة والوطنيّة. فتأخذ على عاتقها هذا الإنماء الشّامل.

علّمت الكنيسة بلسان آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: "أنّ سرّ الإنسان، في إنسانيّته، لا ينجلي حقًا إلاّ بسرّ الكلمة المتجسّد. فالمسيح، آدم الجديد، يكشف تمامًا، في وحي سرّ الآب ومحبّته، الإنسان إلى ذاته، ويبيّن له سموّ دعوته" (الكنيسة في عالم اليوم، 22). فباتت التربية على الأنسنة تربيةً على الاقتداء بالمسيح في إنسانيّته، الذي "عمل بيدَي إنسان، وفكّر بعقل إنسان، وتصرّف بإرادة إنسان، وأحبَّ بقلب إنسان" (الكنيسة في عالم اليوم، 22).

III- التربية على التضامن

4. عندما أسّس المسيح كنيسته، شبّهها بالكرمة والأغصان، وقال: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمر كثير" (يو 5:15). لقد أراد بذلك أن يبيّن أنّ الإنسان من طبعه متضامن مع غيره، من أجل تحقيق ذاته بملئها وإنماء حياة الجماعة. وإكمالاً لهذه الصّورة، شبّه القديس بولس الرّسول الكنيسة "بجسد" هو "جسد المسيح": "كما أنّ الجسد واحد وله أعضاء كثيرة.. كذلك المسيح. فنحن كلّنا تعمّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، وارتوينا من روح واحد" (1كور12: 12-13).

إنّ عضويّتنا في "جسد المسيح" الذي هو الكنيسة، تعني أنّنا في حالة ترابط مع بعضنا البعض، بعيدًا عن أيّ تقوقع أو انعزاليّة أو انغلاق على المصلحة الذاتيّة دون سواها. هكذا يصبح الترابط نظامًا يرتّب العلاقات بين الناس على مختلف المستويات الدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؛ ويولّد مسلكًا أخلاقيًا وإجتماعيًا بمثابة "فضيلة"، هي "التضامن"، لا كمجرّد عاطفة تأثّر لما يصيب الغير من شرّ، بل كإرادة ثابتة ومثابرة للالتزام في سبيل الخير العام، بحيث نشعر أنّنا كلّنا مسؤولون عن كلّنا (راجع رسالة البابا يوحنا بولس الثاني: الإهتمام بالشّأن الإجتماعي، 38). التضامن إذن فضيلة مسيحيّة تلامس المحبّة، هذه الصفة التي تميّز تلاميذ المسيح (راجع يو35:13). فضيلة تميل إلى تخطّي الذات، والخروج منها نحو الآخر بروح التعاون المجّاني والغفران والمصالحة (الاهتمام بالشّأن الإجتماعي، 40). هذا ما بيّنه بولس الرسول بقوله: "كلّ واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام" (1كور 7:12).

IV- الأنسنة والتضامن أساس التربية على المواطنة

5. عندما ينمو أبناء الوطن الواحد بالأنسنة، ويترابطون فيما بينهم بفضيلة التضامن، فيشعرون أنّهم كلّهم مسؤولون عن كلّهم، وبالتالي يحتاجون إلى تربية على المواطنة التي تتميّز بالديمقراطيّة التعدّديّة. وهذا ما تهدف إليه المدرسة عامّة والمدرسة الكاثوليكيّة خاصّة التي تعلّم المبادئ الوطنيّة السّليمة، بعيدًا عن أيّة إيديولوجيّة أو تأثير سياسي وحزبي أو أغراض خاصّة.

6. المدرسة الكاثوليكيّة الملتزمة هذه التربية هي حاجة ماسّة اليوم لوطننا لبنان. عندما نُقل لبنان يوم إعلانه في أوّل أيلول 1920، بمسعى من البطريرك الكبير خادم الله الياس الحويّك، من دولة الإنتماء إلى الدين والمذهب المعادية للديمقراطيّة، إلى دولة الإنتماء إلى المواطنة التي تولّد الديمقراطيّة التعدّديّة، سار لبنان على هذا الخط منظّمًا بالدستور والميثاق الوطني، وناميًا بالممارسة، حتى اتّفاق الطائف (1989). هذا الاتّفاق أكّد المواطنة على حساب الانتماء المذهبي، لكنّ القوى السياسيّة شوّهته بأدائها، وذهبت إلى إرساء نظام حزبي مذهبي جديد، أمّنت من خلاله بقاءها في السّلطة وتقاسم الحصص والوظائف وخيرات الدولة، مع إقصاء الغالبيّة من الشّعب اللّبناني غير الحزبيّة. وهكذا يجد المواطن نفسه أمام شرط الإنتماء إلى حزب طائفته لكي يتمكّن من نيل وظيفة أو المشاركة في إدارة شؤون الدولة. (راجع مقال لخليل الهراوي في جريدة "النهار" 12 تموز 2018 بعنوان: "من الديمقراطيّة التعدّديّة إلى الديكتاتوريّة الحزبيّة المذهبيّة").

هنا تكمن الأزمة السياسيّة الراهنة، والظاهرة حاليًا في أزمة عدم إمكانيّة تأليف الحكومة إلى الآن، والتي تتسبّب بالركود الشّامل، بل بالشّلل، وبعدم إمكانيّة النهوض الإقتصادي وإجراء الإصلاحات اللّازمة في مختلف الهيكليّات والقطاعات، وبتفشّي الفساد، وسيطرة شريعة الغاب والنفوذ.

V- تحرير المدرسة الكاثوليكيّة

7. تربية الأجيال هي المخرج لكلّ هذه الحالات، وتتمّ بواسطة المدرسة الكاثوليكيّة بشكل خاص. ما يقتضي تحرير هذه المدرسة لكي تظلّ أبوابها مفتوحة بوجه الأهالي الذين يرغبون اختيارها لأولادهم، وتأمين التربية العلميّة الرفيعة والتربية على الأنسنة والترابط والتضامن والمواطنة، لأكبر عدد ممكن من شعبنا اللّبناني. هذه التربية المتعدّدة الوجوه تتوفّر ليس فقط للتلامذة، بل أيضًا لأهلهم وللمعلّمين والموظّفين.

ولكن أمام المدرسة تحدّيات كبرى معاكسة:

الأوّل، تحدّي فقر معظم العائلات اللّبنانيّة، الذي تسبّبه الأزمة الإقتصاديّة والمعيشيّة المتفاقمة، واتّساع دائرة البطالة، وازدياد عدد العاطلين عن العمل، وغلاء المعيشة. يحمل مسؤوليّة هذا الواقع الأليم المسؤولون السياسيّون الذين يسيئون استعمال السّلطة بجعلها في خدمة مصالحهم وحصصهم ونفوذهم، وبإهمال الشّعب والخير العام اللّذين هما مبرّر وجودهم.

الثاني، تحدّي القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرتب والرواتب الذي أوجب على المدارس الخاصّة زيادات باهظة على الرواتب والأجور، تستوجب زيادة الأقساط المدرسيّة. الأمر الذي لا تريده المدرسة لأنّه عبء ثقيل لا يستطيع أهالي التلامذة حمله. فتكون النتيجة الحتميّة قيام أزمة تربويّة وإجتماعيّة خطيرة، إذ تقحم الدولة عددًا من المدارس على الإقفال، وتتسبّب بزجّ معلّمين وموظّفين في عالم البطالة. إنّ من واجب الدولة مساعدة أهالي التلامذة الذين اختاروا المدرسة الخاصّة، من خلال تنفيذ ما اتّفقت عليه المؤسّسات التربويّة الخاصّة في اجتماع بكركي كحلّ مشترك عادل، وهو أنّ المدرسة تلتزم بتطبيق الملحق 17، والدولة دفع الدرجات الاستثنائيّة الستّ.

الثالث، حماية المدرسة الكاثوليكيّة من تسرّب ايديولوجيّات وتيّارات معادية للمواطنة والديمقراطيّة التعدّديّة، ومن تأثير الأحزاب السياسيّة بإدراج أفكار أو إدخال انتماءات حزبية مذهبيّة على حساب المواطنة.

الرابع، اعتماد التقشّف في المدارس الكاثوليكيّة بإيقاف الكماليّات: من قرطاسيّة ونشاطات إضافيّة وزيّ مدرسي، وبتوحيد الكتب المدرسيّة، وتجنّب تغييرها سنويًا، بحيث يُتاح للجميع شراء كتب مستعملة، وللإخوة استعمال كتب إخوتهم، سنة بعد سنة.

الخامس، تحدّي التعاون بين المسؤولين عن التربية: ليست المدرسة وحدها مسؤولة عن التربية بكلّ أبعادها الموصوفة آنفًا، بل ثمّة دور للأهل، فالعائلة هي المدرسة الأولى للقيم والفضائل الأخلاقيّة والاجتماعيّة، بحيث ينبغي خلق جوّ ملائم لتطبيق وحماية ما يتربّى عليه أولادهم في المدرسة الكاثوليكيّة. وهم في كلّ حال، المربّون الأُول. ودور المعلّمين الذين بهم يرتبط نجاح المدرسة الكاثوليكيّة في تعليمها وتربيتها. فينبغي أن يدركوا أنّهم أصحاب دعوة تقتضي منهم أن يتّصفوا بمواهب العقل والقلب، وبتهيئة ملائمة وقدرة دائمة على التجدّد والتكيّف. ودور المجتمع المدني حيث يعيش التلامذة بحيث يكون مجتمعًا سليمًا يشجّعهم على الانخراط فيه. ودور الدولة في اعتبار المدرسة الخاصّة مثل الرسميّة ذات منفعة عامّة، وتساعد أهل التلامذة على اختيارها، فتؤمّن معاشات المعلّمين، وتخفّض هكذا الأقساط لكي تظلّ في متناول الجميع (راجع قرار المجمع الفاتيكاني الثاني: في التربية الكاثوليكيّة، 3-8).

خاتمة

9. إنّني باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، أتمنّى النجاح لهذا المؤتمر، مؤكّدًا أنّ الكنيسة تحمي المدرسة الكاثوليكيّة كحقّ وواجب. فمن حق الكنيسة كمجتمع بشري توفير العلم والتربية للجميع من أجل الأنسنة والتضامن. ومن واجب الكنيسة المحافظة على المدرسة كوسيلة للقيام برسالة الإعلان لجميع الناس عن الطريق المؤدّي إلى الخلاص، ونقل حياة يسوع المسيح إلى المؤمنين لكي يبلغوا ملء الحياة (المرجع نفسه، 3).