موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٥ ابريل / نيسان ٢٠١٨
إميل أمين يكتب: ’يوحنا 23.. الحاجة الى الحوار والسلام على الارض‘

إميل أمين - خاص بابونا :

هل هي مصادفة قدرية ام موضوعية ان تمر هذه الايام خمسة وخمسون سنة على الرسالة العالمة للبابا يوحنا الثالث والعشرين: "السلام في الارض" وفي وقت تعاني فيه منطقة الشرق الاوسط من حروب ومن اخبار حروب، وسط رؤية ضبابية تضيع فيها ملامح السلام من العقول والصدور، سيما بعد الضربة الثلاثية الامريكية البريطانية الفرنسية لسوريا، والمنافية والمجافية للقانون الدولي ولميثاق الامم المتحدة؟

يعن لنا التذكير بالبابا الطيب المحبوب كبير السن الكاردينال "رونكالي"، بطريرك البندقية، الذي اضحى لاحقا الاب الاقدس باسم "يوحنا الثالث والعشرين"، هذا الرجل الذي دعا الى اهم حدث معاصر في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين، اي المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بعد مرور تسعين عاما على انعقاد اخر مجمع مسكوني للكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

في حبريته القصيرة (1958-1963) اصدر البابا يوحنا الثالث والعشرين ثمانية رسائل عامة اثنان منها اعتبرا غاية في الاهمية للبشرية جمعاء وللكنيسة الكاثوليكية على نحو خاص. الرسالة الاولى والتي نحن بصدد قراءتها اليوم هي "السلام في الارض"، اما الثانية فعنونت "أم ومعلمة"، وفيها حاول تقريب الكنيسة من العالم الحديث وتكيفها مع متطلبات الاوقات الراهنة.

يمكن اعتبار البابا يوحنا الثالث والعشرين الرجل الذي شرع ابواب الحوار للكنيسة الرومانية الكاثوليكية واسعة مع كافة اتباع الاديان والمذاهب الاخرى، وقد قاد هذا التوجه آباء الكنيسة الكاثوليكية الذين تابعوا اعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني من بعد وفاته على المضي قدما في بلورة روح الحوار والجوار بحثا عن السلام المجتمعي بين البشر، الامر الذي تجلى في في الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم "في حاضرات ايامنا" والتي كانت بمثابة الانطلاقه فيي الافاق الرحبه لجهة بقية اديان العالم وفي المقدمة منها اليهودية والاسلام وبقية المذاهب الوضعية مثل البوذية والهندوسية وغيرهما، وبما يوفر مظلة للسلام حول العالم.

كانت رسالة السلام على الارض العمل الاخير للبابا رونكالي وقد اعتبرها المراقبون بمثابة الوصية الروحية الاخيرة له التي تركها للكنيسة ولجميع الرجال والنساء من ذوي الارادة الطيبة والصالحة.

يلفت النظر ان البابا الطيب الذي حاز على اعجاب كافة زعماء العالم بمن فيهم زعيم الحزب الشيوعي في موسكو في ذلك الوقت "نيكيتا خوروشوف"، رغم انه البابا الذي حرم على الكاثوليك الانتماء الى الحزب الشيوعي في بلاده، انه لم يوجه رسالته السلام على الارض لابناء الكنيسة الكاثوليكية فقط بل وجهها لجميع البشر مسيحيين وغير مسيحيين، كاثوليك وغير كاثوليك، اوربيين وامريكيين، اسيويين وشرق اوسطيين، ومرد ذلك عنده ان الكنيسة الكاثوليكية كانت ولاتزال مدعوة للنظر الى عالم لا يعرف حدودا وليس مقسما نتيجة الجدران والستار الحديدي، عالم لا ينتمي لا الى الشرق ولا الى الغرب.

على وقع الهجمات الجوية والضربات والقصفات الصاروخية الثلاثية لسوريا، ومع اضمحلال روح السلام من النفوس والعقول نذكر القارئ بان الرسالة العامة "السلام على الارض" انما تتمحور حول موضوع اساسي الا وهو الحث على عدم اللجوء الى السلاح والحروب، وتطالب الجميع بالسعي الى بناء مسارات السلام، هذا المطلب الذي يتوق اليه افراد العائلة البشرية برمتها خصوصا وان الوثيقة صدرت في مرحلة كان فيها العالم يعاني من تبعات الحرب الباردة والتوترات التي تسببت بها هذه الحرب خصوصا في اوربا التي كانت منقسمة الى معسكرين يفصل بينهما ما كان يعرف بالستار الحديدي، وكان العالم برمته ماض في تكتلاته نحو جماعة الراسمالية الغربية المعروفة باسم حلف الاطلسي او الناتو، وفي المقابل جماعة الاتحاد السوفيتي ومن لف لفها ودار في مدارها من مجموعة حلف وارسو، ما كان يفيد بانقسام العالم انقساما يهدد سلامه.

عطفا على ذلك كانت هناك حروب عديدة مندلعة في فيتنام وافريقيا وامريكا اللاتينية، ناهيك عن احتمالات احرب النووية التي كانت مفتوحة وواردة بين موسكو وواشنطن سيما في ظل ازمة الصواريخ في كوبا، وما سببه هذا السيناريو من سباق مقلق نحو التسلح النووي.

وفي وسط تلك التطورات المقلقة للبشرية والكنيسة كانت رسالة يوحنا الثالث والعشرين "السلام على الارض"، وعبر نحو خمسة وخمسين سنة يبقى السلام في عالمنا المعاصر هشا ضعيفا قابلا للكسر في اي لحظة، سيما وان الشعارات الرنانة من حوله لم تتحول الى مناهج تطبيق عملية او شرائع ونواميس دولية تحميها قوة عادلة، ولا تهددها سطوة غاشمة لبوارج وحاملات طائرات في الحال او الاستقبال.

كانت رسالة سعيد الذكر البابا يوحنا الثالث والعشرين تتركز حول اربع نقاط جوهرية السير على دروبها يستجلب السلام على الارض:

اولا: مركزية الكائن البشري الذي يتمتع بحقوق غير قابلة للتصرف اي ان احدا لا يجب ان يسلبه حقه في الحياة او الامن والامان والسلام الباطني والخارجي ،وهو ايضا صاحب واجبات ينبغي عليه القيام بها من اجل الوصول الى حالة السلام الشامل والكامل هذه.

ثانيا: الخير العام الذي ينبغي البحث عنه وتحقيقه في كل الظروف وجميع الاماكن، اي البحث عن صالح البشرية بشكل واسع وبدون حدود ايديولوجية او صراعات دوجمائية تنتقص من هذا الخير لاسباب و ذرائع براجماتية تسعى لتعظيم الذات وارباحها على حساب الاقتطاع من مساحة فرص الاخرين في حياة طيبة على كافة الاصعدة.

ثالثا: الاسس الخلقية للنشاط السياسي، بمعنى ان تكون السياسة نشاطا اخلاقيا قبل ان تكون مجالا للاعمال السفلية التي لا تولد الا الخصام والحروب ، وتباعد بين الانسانية وبين عالم السلام، من خلال الصراع على المصالح الضيقة ونسيان الهدف الاكبر لوجود الانسان على الارض اي النماء والازدهار وعمار الارض.

رابعا: قوة العقل والمنارة المضيئة للايمان، اي ان عالم السلام هو ثمرة افكار عقلية تؤمن بالقوة الناعمة باكثر من ميلها البشري الطبيعي للقوة الخشنة، ولا عالم من السلام بدون منارات ايمانية تضي للجالسين في الظلمة وظلال الموت.

تدعو رسالة "السلام على الارض" لا كاثوليك العالم فقط بل كافة البشر اصحاب الطوايا الصالحة النوايا الايجابية الخلاقة الى تعظيم دورهم في الحياة السياسية العامة والانشطة السياسية الدولية والاقليمية والمحلية من اجل تعظيم الخير العام وتحقيقه في الحال والاستقبال.

خمسة وخمسون عاما انقضت على صدور الرسالة العالمة للبابا الذي اعلنت الكنيسة قداسته ولا يزال العالم في حاجة ماسة للتوقف مليا وجليا امام استحقاقات تلك الوثيقة، سيما وان ارهاصات الحرب الباردة تخيم من جديد على سماوات العالم، وعالمنا المعاصر يعاني من جديد الكثير من التوترات والحروب والنزاعات المسلحة، وان كان هناك الملايين حول الارض يؤمنون بعد بان هناك فرصة لان يسود السلام عوضا عن الخصام، وان يحل العدل عوضا عن الظلم، وان تبعث الحرية باشعتها حيثما الاستبداد والقهر.

الخلاصة: طوبى لصانعي السلام فانهم ابناء الله يدعون.