موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
إلى روح فقيد الأردن الشاعر الكبير سليمان المشيني رحمه الله

حنا ميخائيل سلامة نعمان :

ماذا عسايَ أقول وقد أُرْتِجَ عليَّ الكلامُ وحزَّ في نفسي الألم؟ أيها الموتُ، إعِتق مَن تجاسرت على مَن لم يعُاند أو يقاوم قبضة الأزل! أيها الموتُ، أرْخِ يَدَك عن قمر شعرائِنا وغُرَّة أدبائِنا. أوَ يَسُرُّك يا موتُ أنْ سَلبتَ مَن أنطق الحناجر وضرب على أوتار النفوس، وبه ومَعَه دَفِئت قلوبٌ واستنارت عقول!

أيها الموت أوَ يَسُرُّك أنْ تخطفت مَن شدَّ أوتار القلوب على قيثارة إلهامه فحلَّق بها إلى أسمى ذُرى! سَطوتُك يا موتُ خابت على عبقريةٍ ستبقى تُورِقُ وتُزهرُ وتنشرُ أريجها فوق فضاءات الأردن إلى أبدٍ أبيدٍ. بلى، خابت سطوتُك على مَن كان من عُصارة فكره ِوومضات خواطِره يأمرُ المعاني فتنقادُ لِمقصده، فتطرب الأسماع لأناشيده وتُسْحَر الألباب لقصائده وتبتهج النفوس لأهازيجه وترتاح النفوس لتآليفه في فنون الأدب جميعها.

أيها الموت، لِما تخطَّفت مَن كان سيفه القلم، وترسه الكتاب، وحَنجرته الذهبية صوت الأردن الصافي الداوي بالحق في مراحل زمنية مفصلية كان يمر الوطن فيها بتحديات قاسية قُدِّرَت عليه وتجاوزها بحكمة قيادة هاشمية شجاعة. نعم لِما تخطَّفت أيها الموت مَن غَلَت في شرايينه محبة هذا الحِمى ورسالته الشريفة فزيـَّن جِيدَ أردنـّـه الذي عشقَ بقلائدَ من دُرر تروي وقائع من تاريخ الوطن المشحون بالمآثر والبطولات، وأناشيدَ تحمل ثروة الآباء والأجداد بما فيها من قيمٍ وحكمٍ ستبقى شُعَلاً تتألق في الآفاق فتحُث النشىء على الإقتداء بهم وبشهامتهم وجلائل أعمالهم.

يا سيد الفكر والقلم ،أتمثَّلُك الساعة بأسلوبك المُحبب وموهبتك تأسر سامِعيك عبر الأثير من خلال برامجك الأدبية والفكرية تلك التي كنا نسهر ولا نُغمض العيون منتظرين لحظة بثِّها ومِنها ما أسميته بفطنتِك " صَبا من الأندلس" فننشَقُ أريج الأندلس فيمتزج مع أريج القصائد الزاخرة في سلسلة دواوينك البديعة المعنونة "صبا من الأردن".

وأتمثَّلُك الساعة تُنصِت وإن خرجت مِن ظلال الزمن لِمن كنتَ لهم المُحدِّثَ المُلْهَم ، والمؤنِسَ الساحرَ، والسَّميرَ الذي لا تَمَلُّ صُحبته وقد أخذوا يذكرون فِعالَك، ويعددون مآثِرَك، ويذيعون فضْلك، ويبوحون بِمَكنون الصُّدورِ عن ذكرياتٍ عِذابٍ مَعك. وأتَمثَّلُك الساعة تعتلي المِنبر مُتلفعاً بالوقار، تُجيلُ طرْفكَ صوبَ رفاق دَربِك وقد التئم جَمْعُهُم.. يَلتفِتون نحوك.. وَعليكَ حدَّدوا أبصارَهُم، وأنت تستنطقُ قِيثارك، وتجودُ عليهم من بَيدر ذِهنك ومَدَدِ عقلِك.

أبا إبراهيم، أيها المؤمن الصبور على ما كتبت لك الدنيا في سِفرها من آلام حين إستُشْهِدت إبنتك الطاهرة دينا وحين انتقلت شريكة حياتك العزيزة على قلبك الفاضلة المرحومة دمية عيسى السفري، وحين إمتحنك الله بأوجاع الجسد فكنت وبشهادة الجميع تشرب من كأس الألم بجَلَدٍ وصبرٍ وإيمانٍ بالمشيئة الإلهية.

أبا إبراهيم، تراني الساعة أسْمَعُ خفقات قلبك.. فهاتِ يدكَ وهيا بنا نوقظ النيام على حَدو شدوك الذي لا يزال في خاطري مُذ عرفتُك مِن عقودٍ من الزمن وسيبقى، عُد نهتف مع الطيور المُغردة، تَرومُ تروي عيونها من مرآك ولعينيك تُغنِّي. هيا نقطف ما تبقَّى من أزاهير الحُب، هيا ننثر الرجاء من جديد في عالَمٍ أثقلتهُ حُمولة الدهر وتكسرت فيه الأحلام!

أيا فقيد الوطن وعاشقه، حسْبُك الآن وقد تحررت من قيود الجسد وحُطام الدنيا مشاهدة وجه ربِّك، فَمَن كنت َتناجيه في حياتِك وتبتهل إليه سيتولاك برحمته ويُظلِّلَكَ بإحسانِه. دفَّأ الله ضريحك كلما أطل كانون بِمَطَرِه وحِكاياته، كانون الذي رأيت أن ترتحل فيه فاسْستَبَقتْنا العَبَرات وتحدَّرت على الوَجَنَات التي كانت تستدفىء بلثم ثغرك.

إلى هنا أمْسِكُ القلم سائلاً الله أن يجزيك الجزاء الأوفى على ما قدمت من صادق الجهود، ومُعزياً أفراد عائلتك الأحباء الذين على عهد الوفاء لنهجك يمضون بثقةٍ ومعزياً أصهرتك وجميع الأنسباء وذويك الكرام، وسائر بني وطنك الذين حللت في قلوبهم فظفِروا بمحبتك. وسيبقى ذِكرك العَطِر مُتجدداً في القلوب. وحسبي أن أقول مع الشاعر:
"يا اطيب الناس روحاً ضمَّه بدَنٌ أستودع الله ذاك الروحَ والبدَنا"

Hanna_salameh@yahoo.com