موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
إعلان الشاب الإيطالي كارلو أكوتيس طوباويًا، ولتصبح حياته أنموذجًا لشبيبة العصر
سيُحتفل بعيده في 12 تشرين الأول من كل عام، وهو يوم ميلاده في السماء.

أبونا :

 

بعد 14 سنة على رحيله باللوكيميا عن عمر 15 عامًا، واشتهر بتوثيق معجزات القربان المقدس في العالم، أعلن في بلدة أسيزي الإيطالية، مساء اليوم السبت الموافق 10 تشرين الأول 2020، طوباويّة الشاب الإيطالي كارلو أكوتيس Carlo Acutis.

 

جاء ذلك خلال القداس الاحتفالي الذي ترأسه الكاردينال أغوستينو فاليني، النائب العام السابق لأسقف أبرشية روما، في كاتدرائيّة القديسة مريم للملائكة، بمشاركة والده أندريا أكوتيس ووالدته أنتونيا سالزانو، ولفيف من الأساقفة والكهنة والمؤمنين، وسط اتخاذ إجراءات السلامة العامّة. كما انضمّ روحيًا إلى القداس آلاف الأشخاص حول العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التلفزة، فيما نقل موقع أبونا الإلكتروني الاحتفال مباشرة عبر منصاته الإلكترونيّة المتعدّدة، مع ترجمة عربيّة فوريّة قدّمها الأب د. رفعت بدر.
 

في بداية القداس، تقدّم مطران أسيزي ليطلب باسم أبرشيته إعلان طوباويّة أكوتيس.

 

وقُرأت سيرة ذاتية قصيرة لأكوتيس، وفيها بأنه ولد عام 1991 في لندن، حيث كان والده يعمل هناك. قبل سر المعمودية في كنيسة العذراء أم الأوجاع في لندن. وعندما عاد مع والديه إلى ميلانو قبل سر التثبيت المقدس، وهناك اعتنى بالموقع الإلكتروني لرعيته، وعددًا آخر من المواقع الإلكترونية التابعة لمؤسسات كاثوليكية عدّة. تعرّف على القديس فرنسيس وأعجب بعلاقته مع السيد المسيح والفقراء، فصار يهتمّ بحاجات الناس على مثال القديس فرنسيس، حيث كان يوفر النقود أسبوعيًا من أجل المحتاجين. ركّز على صداقته مع الله من خلال التعبّد اليومي لسر الإفخارستيا، كما كانت علاقته مع السيدة العذراء قويّة، حيث كان يصلي المسبحة الوردية يوميًا. أصبح مثاله معروفًا لدى كثير من الناس حول العالم. توفي في 12 تشرين الأول عام 2006. تمّ إعلانه مكرمًا في 5 تموز عام 2018، بعد مرور سنة تقريبًا من نقل رفاته إلى كنيسة العذراء مريم الكبرى في أسيزي.

وفيما يلي النص الكامل لعظة الكاردينال فاليني (نقلها إلى العربيّة موقع أبونا):

 

"من يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا" (يوحنا 15: 5)

 

مع هذه الكلمات التي استمعنا إليها من إنجيل القديس يوحنا، يتوجّه يسوع في العشاء الأخير إلى تلاميذه، ويحثّهم على البقاء متّحدين معه، مثل الكرمة والأغصان. إنّ تشبيه الكرمة والأغصان هو بليغٌ، لكي يعبّر عن مدى ضرورة أن يعيش المسيحي باتحادٍ مع الله. وتكمن قوته في هذا الأمر؛ أن يكون بينه وبين يسوع علاقة شخصيّة، حميمة، عميقة، وأن يجعل من الإفخارستيا اللحظة الأكثر تعبيرًا عن علاقته مع الله.

 

أيها الأخوة والأخوات، نحن اليوم معجبون ومأخوذون بحياة وشهادة كارلو أكوتيس، الذي تعترف به الكنيسة كمثالٍ حيّ ونموذج للحياة المسيحيّة، وتقدّمه بشكل أخصّ إلى الشباب. لعلّنا نتساءل بشكل عفوي: ما الذي كان مميزًا لحياة هذا الفتى الذي لن يمكث سوى 15 عامًا؟ إن عدنا إلى سيرته الذاتيّة سنجد بعض النقاط الواضحة التي كوّنت شخصيته الإنسانيّة.

 

كان ولدًا عاديًا، وبسيطًا، وعفويًا، ولطيفًا. يكفي النظر إلى صوته. كان يحب الطبيعة والحيوانات، ولعب كرة القدم، وكان لديه عديدٌ من الأصدقاء في مثل سنه، وكان منجذبًا للوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي، وشغوفًا بعلوم الكمبيوتر، وعلّم نفسه بنفسه، وأنشأ برامج إلكترونيّة لنقل الإنجيل وتوصيل القيم والجمال كما قال البابا فرنسيس. وكان لديه موهبة الجذب، وكان يُنظر إليه على أنه مثال حيّ.

منذ أن كان طفلاً، كما يشهد أفراد عائلته، شعر بالحاجة إلى الإيمان، وتحوّل نظره إلى يسوع، وأسّس حبُ الإفخارستيا علاقته المتينة بالله، وأبقاها على قيد الحياة. كان يردّد دائمًا: "القربان الأقدس هو الاوتوستراد السريع إلى السماء". فشارك كل يومٍ في القداس الإلهي، وكان يمكث لفترةٍ طويلة في التعبدّ أمام سرِّ الافخارستيا. اعتاد كارلو أن يقول: "بمستطاعكَ أن تذهب مباشرةً إلى السماء، إن اقتربت من القربان المقدس في كل يوم".

 

كان يسوع بالنسبة له صديقًا ومعلمًا ومخلصًا. وكان قوة حياته، وجوهر كلّ ما يفعله. كان مُقتعنًا أنه لكي تحب الناس، وتفعل الخير، عليك أن تستمدّ طاقتك من الرّب. وبهذه الروح كان متعبدًا كبيرًا للسيدة العذراء. كانت رغبته الشديدة والملحّة في جذب أكبر عدد ممكن من الناس إلى يسوع، وجعل نفسه مبشرًا بالإنجيل، أولاً وقبل كل شيء، بمثال الحياة. لقد كانت شهادة إيمانه بالذات هي التي دفعته بنجاحٍ إلى القيام بعمل التبشير الدؤوب في البيئات التي كان يعيش فيها، ملامسًا قلوب الأشخاص الذي التقى بهم، وأثار فيهم الرغبة في تغيير حياتهم، والارتداد والاقتراب من الله.

 

بعفويةٍ بالغة، أظهر طريقته في الحياة، وتصرّف في محبة الرب وخيره. كانت قدرته على الشهادة للقيم التي كان يؤمن بها غير عادية، حتى أنّه كان يواجه سوء الفهم وعقبات كثيرة، وأحيانًا كان بعضهم يسخر منه. شعر كارول بالحاجة الشديدة لمساعدة الناس على اكتشاف أنّ الله قريب منا، وأنّه من الجميل التواجد معه للاستمتاع بصداقته ونعمته. ولتوصيل هذه الحاجة الروحيّة استخدم كل الوسائل، بما في ذلك وسائل الإتصال الاجتماعي الحديثة، وعرف كيفيه استخدامها جيدًا، لاسيمّا الانترنت، واعتبره عطية من الله، وأداة مهمّة للقاء والحوار بين الناس ونشر القيم المسيحية.

 

جعلته طريقة التفكير هذه يقول: إنّ الانترنت ليس مجرد وسيلة للهروب، بل هو مساحة للحوار، والمعرفة، والمشاركة، والاحترام المتبادل، شرط استخدامه بمسؤولية دون أن نصبح عبيدًا له، وأن نرفض التنمّر الإلكتروني في العالم الافتراضي الواسع. على المرىء أن يعرف كيفية التمييز بين الخير والشرّ. من هذا المنظور الإيجابي، شجّع كارلو على استخدام وسائل الإعلام كوسيلة في خدمة الإنجيل للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وتعريفهم بجمال الصداقة مع الرب. ولهذه الغاية، انكبّ على تنظيم معرضٍ للمعجزات الافخارستية الرئيسية التي حدثت في العالم، والتي استخدمها أيضًا في تقديم التعليم المسيحي للأطفال. كان متعبدًا غيورًا جدًا للسيدة العذراء، وكان يتلو المسبحة الورديّة كل يوم، وقد كرّس نفسه مرات عدّة لمريم لتجديد محبته لها وطلب حمايتها.

الصلاة والرسالة إذًا هما السمتان المميزتان للإيمان البطولي للطوباوي كارلو أكوتيس، وقد دفعته في مجرى حياته القصيرة إلى أن يسلّم نفسه للرب في كل الظروف، وبخاصة في اللحظات الصعبة. بهذه الروح الإيمانيّة عاش المرض، وواجهه بهدوء، وأدى إلى وفاته. لقد سلّم ذاته لأحضان العناية الإلهيّة، وكرّر تحت أنظار الأم مريم: أريد أن أقدّم كلّ آلامي للرّب، من أجل البابا ومن أجل الكنيسة. لا أريدُ أن أمضي وقتًا في المطهر. أريدُ الذهاب مباشرة إلى السماء. هكذا، دعونا نتذكّر، هذا حديث صبي لم يبلغ من العمر آنذاك 15 عامًا، ويكشف عن نضوجٍ مسيحيٍ مذهل، وهذا يحفزنا ويشجعنا على أخذ حياة الإيمان على محمل الجدّ.

 

أثار كارلو إعجابًا كبيرًا بالحماسة التي كان يدافع بها عن قداسة العائلة وقدسيّة الحياة ضد الإجهاض والقتل الرحيم. ويمثّل الطوباوي الجديد مرّة أخرى نموذجًا للقوّة، غريبًا عن أي شكل من أشكال المساومة، ومدركًا أنّه للبقاء في حب يسوع من الضروري أن نعيش الإنجيل بشكل ملموس.

 

لقد جعل حقًا كلمات يسوع كلمات خاصة له؛ هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم. وقد دفعه هذا اليقين في الحياة، إلى أن يكون له صدقة كبيرة تجاه القريب، وبخاصة تجاه الفقراء، وكبار السنّ، والوحيدين، والمُتخلّى عنهم، والمشرّدين، والمعاقين، والأشخاص الذي همّشهم المجتمع أو أخفاهم. كان كارلو يرحّب دائمًا بالمحتاجين، وعندما كان يلتقي بهم في الطريق إلى المدرسة، كان يتوقف للحديث معهم والاستماع إلى مشاكلهم، وكان يساعدهم على قدر استطاعته.

 

لم يبخّس كارلو من نفسه أبدًا، ولكنه كان قادرًا على فهم احتياجات ومتطلبات الأشخاص الآخرين ورأى فيهم وجه المسيح. بهذا المعنى، على سبيل المثال، لم يفشل في مساعدة زملائه في الدراسة، وخاصة أولئك الذين كانوا يعانون من صعوبة التعلّم.

إذَا هي حياةٌ مضيئةٌ، معطاةٌ بالكامل للآخرين، مثل الخبز الإفخارستي.

 

أيها الإخوة والاخوات الأعزاء، إنّ الكنيسة لفرحة اليوم، لأنه في هذه الشبوبيّة تتحقّق كلمات الرب المبارك: لقد اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتثمروا ثمرًا كثيرًا. و"ذهب" كارلو وجلب ثمار القداسة حيث أظهرها كهدفٍ يمكن بلوغه من قبل الجميع، وليس كشيء مجرد ومخصص لفئة قليلة.

 

كانت حياته أنموذجًا خاصًا للشباب الذين يجدون الإشباع ليس فقط في النجاحات العابرة، ولكنّ فقط في القيم الدائمة التي اقترحها يسوع في الإنجيل، وهي أن يكون الله في المكانة الأولى، في الظروف حياة الكبيرة أو الصغيرة، وفي خدمة الإخوة، ولاسيّما الأقل حظًا.

 

إن تطويب كارلو أكوتيس، ابن الأرض اللومبارديّة، والمُحِّب لأرض فرنسيس الأسيزي هو خبرٌ سار، وإعلانٌ قوي بأنّ فتىً من عصرنا، مثل كثرين، قد غزاه المسيح، وأصبح منارة نورٍ، لمن أراد أن يعرفه، ويتبع خطواته. شهد أن الإيمان لا يبعدنا عن الحياة، بل يجعلنا نغوص بها بعمقٍ أكثر، ويوضح لنا الطريق الملموس لعيش فرح الإنجيل. يبقى علينا أن نتابع هذه الخطى، وأن تجذبنا التجربة الرائعة للطوباوي كارلو حتى تتألف حياتنا أيضًا بالنوء والرجاء.

 

أيها الطوباوي كارلو أكوتيس، صلِّ لأجلنا.