موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٣١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
أول عظة للبطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: في عيد من عاشوا حياتهم على إيقاع التطويبات
عظة في عيد جميع القديسين

بطريرك القدس للاتين :

 

في النص الإنجيلي الذي نقرأه في عيد جميع القديسين (1 تشرين الثاني)، يَتكلم يسوع عن الفقراء والودعاء والمحزونين والرحماء والساعين إلى السلام (متى 5: 1-12). يتكلم عنهم ويقول: أنهم مباركون وأهلٌ للسعادة. لا يقول إنهم أفضل من غيرهم، أو إنهم قاموا بأمر يستحق المديح، بل يقول ببساطة إنهم مباركون وأهلٌ للسعادة، وإن خبرتهم جيدة وايجابية. من المؤكد أن سبب السعادة غير واضح للعقل البشري وأن محاولة فهم هذا الأمر يعني الدخول في قلب إيماننا وفي عمق نظرة يسوع إزاء الحياة.

 

عند محاولة اختزال هذه التطويبات الثمانية كما تَرِد في إنجيل متى، يمكننا القول إن يسوع يمتدح خبرة مَنْ يُعانون ويتألمون كي يصبح العالم مكانا أفضل للعيش، ويعتبر خبرتهم جديرة بالعيش لأنها تجعل أصحابها قريبين من الله. إنها خبرة الذين لا يعيشون لأنفسهم ولا يكترثون كثيرًا أو فقط لأنفسهم، بل يهمّهم مصير الآخرين ويملكون في قلوبهم رغبة عظيمة في أن يعيش الجميع حياة هنيئة.

 

لا تبتسم الحياة لفقراء الروح والودعاء وصانعي السلام والرحماء والعطاش إلى البِرّ. ولا تسير أمورهم دائمًا بشكل مريح. على العكس.  بالنسبة للكثيرين لا بل وللجميع، ليست الحياة سهلة وعادة ما تمرّ بطرق متعرّجة تُسبب الإرهاق والألم.  وفي قلب ذلك كلّه، طوبى لكُل مَنْ يَعيش حياتَه من دون أن يستسلم لتجربة التخلص من هذا الإرهاق وطوبى لمن لا يلقي تعبه وهمه على كاهل شخص آخر، لا بل يعيش في هذه الحياة ويواصل الأمل ويبحث عن أوقات أفضل للجميع. 

 

وقتئذ طوبى لهؤلاء، ذلك أن خبرة الإرهاق التي يعيشونها من دون أن يلعنوا، تصبح مكانًا للقاء مع الله، المكان الذي اليه ينزل الله ويقف إلى جانبهم ويحوّل حياتهم. لا يقوم الله بذلك كما نشاء نحن أي بحلّ العقد الصعبة وتخفيف الأعباء والتخلّص من المشاكل؛ إن إنهاء الحروب والقضاء على الفقر وإلغاء الاضطهاد والظلم هي أمور لا تعود لله وحده، بل لنا، للإنسانية. ما يقوم به الله في هذا كله هو تحريكه، بشكل خفيّ، لقلوب الذين يبذلون أنفسهم بمحبة. وهكذا من خلالهم، يوسّع الله مساحة ملكوته في هذا العالم.

 

هذه هي بذور الملكوت.

 

يخبرنا النص الإنجيلي للتطويبات أن التاريخ لا يصنعه العظماء ولا الأقوياء بل الصغار والفقراء الّذين يقبلون آلام المخاض، المخاض الذي منه يلد ملكوت الله. إن يحصل أمر جديد في العالم، فهو يأتي من القاعدة. ليس ثمة ما هو جديد مبتكر إن لم يلد من اللقاء الوضيع بين فقر الإنسان وحضور الله، من المساحة الفارغة التي يقدّمها الإنسان لله لتصبح حيّز عمله الرحيم والقوي.

 

نحتفل اليوم بعيد جميع قديسي الكنيسة، أي أننا نحتفي بشعب التطويبات، بجميع الذين آمنوا بالفرح بشتى الطرق، بالفرح الذي يظهر بصورة غير متوقعة وغالبًا من دون سبب وببساطة، حينما يختبر الشخص النعمة. نتكلم عن الفرح الذي يظهر غالبًا حتى في أعماق الألم، الفرح الذي هو هبة تامة. لا يقتصر هذا الفرح على الغد البعيد، حين تنتهي المشاكل وتُحلّ العقد. نجد الفرح على هذه الأرض، عندما نعتقد يقينًا بأن الحياة، عندما نعيشها بألوان الحبّ، وعلى إيقاع التطويبات، لا يمكن إلا أن تكون حياة حقيقية، جميلة وسعيدة وبالتالي حياة أبدية.