موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
أخلاقيات الحرب في التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية
تدين الكنيسة باستمرار "لا إنسانية الحرب". فالحرب لا تستطيع بتاتًا أن تكون وسيلة ناجعة لحل المشاكل التي تنشب بين الأمم، لأنها تؤذي كل الأطراف، وتؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أكثر تعقيدًا. الحرب دائمة خسارة بشرية.

دراسة وتحقيق ناجح سمعـان :

 

تحمل المناسبات الوطنية الكثير من معاني الفخر التي تعبر بقوة عن معنى الانتماء وعمق الارتباط بالوطن، الأرض والحلم. تأتي حرب تحرير سيناء في 6 أكتوبر 1973، على رأس المناسبات الوطنية العزيزة على الوجدان المصري، لما تمثله الحرب في الذاكرة الوطنية من علامة انتصار ناصع على العدو الاسرائيلي، كان بمثابة حجر الزاوية في مسيرة مصر نحو السلام القائم على العدل.

 

إن قراءة خبرة الحرب تتطلب الكثير من الدرس والعميق من التأمل حتى تأتي التجارب التاريخية بثمارها في بناء السلام وتطور المجتمعات. يحاول التقرير التالي استعراض بعض من تعليم الكنيسة الاجتماعي، قديمًا وحديثًا، في شأن قضية "الحرب والسلام" للتدليل على ما حملته خبرة حرب أكتوبر المصرية من قيم الحرب العادلة، حرب الدفاع عن النفس في سبيل الكرامة الوطنية. كذلك يحاول الباحث أن يضع أمام القارئ الكريم جانبًا مما تزخر به أدبيات الكنيسة الكاثوليكية من تعاليم اجتماعية تستند في منابعها على قيم روحية أصيلة، وتتسع في أفاقها إلى دعوة كل ذوي الإرادة الصالحة لنشر حضارة المحبة.

 

في محاولة للتعرف على مسيرة تطور الفكر المسيحي بشأن الحرب، نقرأ في كتاب (مدخل إلى اللاهوت الأدبي.. تعليم الكنيسة الاجتماعي) للمطران كيرلس سليم بسترس. يتناول الكتاب في فصله العاشر قضية "الكنيسة والعنف". ويستعرض الكاتب مسيرة تطور الفكر المسيحي تجاه العنف، ويقول: "تطور موقف المفكرين المسيحيين من العنف مع تطور اندماج الشعب المسيحي في الشؤون الزمنية. ففي القرون الثلاثة الأولى للميلاد، عاش المسيحيون في ترقب المجيء الثاني للمسيح، وبالتالي في نوع من اللامبالاة تجاه التقلبات السياسية. لذلك نجد بعض المسيحيين يقفون موقفًا معاديًا ويحرمون تحريمًا صريحًا على الشعب المسيحي الانخراط في سلك الجندية. وقد كان هذا الموقف ممكنًا، لأن حماية الدولة كانت تقع على عاتق الجنود الوثنيين".

 

ويضيف سيادته: "إلا أن عدد المسيحيين تكاثر في القرن الرابع، واخذوا يتبوءون مراكز المسؤولية في الدولة، فرأوا من الطبيعي أن يستخدم الجنود، سواء أكانوا وثنيين أم مسيحيين، قوة الدولة لضمان احترام الشرائع وحماية البلاد". وفي هذا الظرف التاريخي الجديد، راح القديس اغسطينوس (354–430) يتساءل عن الشروط التي تجيز من الوجهة الأخلاقية اللجوء إلى الحرب.  فرأى أن الحرب لا تكون عادلة إلا إذا شُنت على دولة ظالمة. استنادًا إلى هذا المبدأ، كانت تعد عادلة الحرب التي تقوم بها دولة لاسترجاع أراضٍ اغتصبتها دولة أخرى عدوة".

 

وعن نظرية الحرب العادلة خلال القرون الوسطى يستطرد المطران كيرلس سليم في بحثه ويقول: "لم تتوقف الحروب في القرون الوسطى، حتى بين الدول المسيحية. بيد أن تساؤل القديس اغسطينوس حول أخلاقية الحرب ظل يراود أفكار اللاهوتيين والفلاسفة. فراحوا يحددون بدورهم الشروط التي تجعل الحرب عادلة، وذلك بغية إنارة ضمائر الملوك والأمراء وقادة الدول المسؤولين عن الخير العام في مختلف البلدان".

 

وعن الحرب والحق الطبيعي يقول المطران بسترس في كتابه: "في القرن السادس عشر أخذ اللاهوتيون يخضعون الحرب، لا لحكم الأمير وضميره، بل لقوانين عامة تعترف بها وتتفق عليها مختلف الدول، وتستند إلى الحق الطبيعي الذي يعتمده جميع الناس. وبهذا التركيز على الحق الطبيعي على حق الشعوب، أسهم الفكر المسيحى مرة أخرى في تطوير مفهوم الحرب العادلة وفي إنشاء ما يدعى بالحق الدولي" إلى هنا ينتهي اقتباسنا من كتاب "التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية" لسيادة المطران كيرلس سليم.

 

لكننا في ختام القراءة لمسيرة تطور الفكر المسيحي في شأن قضية الحرب، نتوقف أمام أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965)، ونقرأ ما جاء في الدستور الراعوي (الكنيسة فى العالم المعاصر)، حيث يقول آباء المجمع: "لا شكّ في أن الحرب لم تختف من حياة البشر. وما دام خطر نشوبها قائمًا، وما دام العالم يفتقر إلى سلطة دولية مختصة تملك الردع، لا يمكن أن ننكر على الحكومات حقها الشرعي في الدفاع عن بلادها متى استنفدت بلا جدوى كل ما في مقدورها من وسائل التسوية السلمية. ويقع على عاتق رؤساء الدول وعلى الذين يشتركون في تحمل مسؤولية السلطات العامة، واجب تأمين سلامة الشعوب التي اؤتمنوا عليها، دون ما استهتار في معالجة مسائل تبلغ هذا الحد من الخطورة، إلا إن القيام بالأعمال العسكرية بغية الدفاع العادل عن الشعب شيء، ومحاولة السيطرة على الدول الأخرى شيء آخر. أما الذين يتفرغون لخدمة الوطن في صفوف الجيش، فليعتبروا أنفسهم هم أيضًا فى خدمة أمن الشعوب وحريتها، فإذا قاموا بهذه المهمة بما يليق من الدقة، فإنهم يساهمون حقًا فى المحافظة على السلام".

 

في زماننا الحاضر، يعتقد الباحث أنه من الأهمية بمكان أن نقرأ في كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية الاجتماعي للشبيبة (DOCAT) الصادر عن أعمال الكرسي الرسولي (2017) حيث يقدّم الكتاب رؤية الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة لقضايا الشأن الاجتماعي، ليس للمسيحيين فحسب بل ولكل ذوي الإرادة الصالحة الساعين إلى العدالة والسلام في تحقيق الخير العام. في فصل بعنوان (العيش بسلام ودون عنف) من هذا الكتاب، نقرأ عددًا من المبادئ التي تحدد الظروف التاريخية التي يتوجب معها الحرب، ومعنى الحرب الدفاعية، وما على القيادات السياسية والعسكرية التحلي به من قيم إنسانية عند اندلاع الحروب، بغية تحقيق العدالة وإقرار السلام.

 

في البداية يقدّم التعليم الاجتماعي نظرة الكنيسة إلى الحرب، ويقول: "الحرب هي النتيجة الأسوأ لإخفاق السلام، وما يجر وراءه هذا الإخفاق من تبعات كثيرة. لذلك تدين الكنيسة باستمرار "لا إنسانية الحرب". فالحرب لا تستطيع بتاتًا أن تكون وسيلة ناجعة لحل المشاكل التي تنشب بين الأمم، لأنها تؤذي كل الأطراف، وتؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أكثر تعقيدًا. الحرب دائمة خسارة بشرية".

 

وحول الواقع الذي يتوجب معه قيام الحرب، يقول تعليم الكنيسة الاجتماعي: "وفي حال اندلاع حرب يحق للمسؤولين في الدولة الُمعتدى عليها، لا بل يجب عليهم تنظيم طرق الدفاع عن الدولة حتى بالعنف المسلح. من هنا يحق للدول أن تمتلك قوى مسلحة وسلاحًا لحماية شعبها في وجه الاعتداءات الخارجية. ويحق كذلك للمسيحيين أن ينخرطوا في الجندية، ما دامت القوى المسلحة تخدم أمن البلاد وحريتها، ومستعدة لخدمة حفظ السلام".

 

وحول شروط حرب الدفاع عن النفس يقول التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية: "لا يمكن تبرير الدفاع المسلح إلا تحت شروط صارمة، ووحدها المؤسسات المنوط بها الحفاظ على الخير العام، يمكنها أن تقرر التقيد بهذه الشروط.  أول هذه المعايير ثبوت صحة الأضرار الناجمة عن المعتدى وجسامتها واستمراريتها. الثاني، عدم توافر سبل أخرى في وضع حد للاعتداء واستنفاذ السبل السلمية لحل الصراع. ثالثًا، يجب ألا تكون نتائج التدخل العسكري بهدف الدفاع، أسوأ من الأضرار التي تسبب بها المعتدى. وأخيرًا، لا بدّ من أن يحظى عمل الدفاع بحظوظ واقعية للنجاح".

 

وما على الجندي التنبه له أثناء الحرب يقول: "تقع على الجنود مسؤولية رفض الأوامر التي تتعارض والقانون الدولي. ولا يسمح للجندي أبدًا مثلاً بالمشاركة فى إبادة جماعية لمدنيين أو لأسرى الحرب، حتى لو أمر بها رؤساؤه. فهو لا يستطيع في هذه الحال الادعاء بأنه لم يعمل إلا تنفيذ الأوامر، فهو مسؤول عما يقوم به".

 

وفي مسألة ضحايا الحرب تذكر العقيدة الاجتماعية للكنيسة: "يجب حماية الضحايا البريئة التي لا طائل لها في الدفاع عن النفس فى وجه أي اعتداء، أيًا كان الثمن، وهذه الحماية تنطبق على جميع السكان المدنيين. والأطراف المتحاربة مسؤولة بدورها عن اللاجئين والأقليات، أما محاولة القضاء على مجموعات كاملة من السكان (إبادة) أو الإقدام على "التطهير العرقي"، فهي جريمة ضد الله وضد البشرية".

 

وعن حق الدفاع ضد الإرهاب يقول التعليم: "لا بدّ من شجب حاسم لكل عمل إرهابي، لأنه يطاول غالبًا الأبرياء ويتسبب بضحايا تم اختيارهم بشكل عشوائي. والإرهابيون بعملهم هذا يؤكدون على احتقارهم للحياة البشرية احتقارًا كاملاً وسافرًا، وبالتالي لا يمكن تبرير أعمالهم بأي شكل من الأشكال. لا يمكن لأي دين السماح بالإرهاب، وما المجاهرة بالإرهاب باسم الله وقتل الأبرياء باسمه تعالى، سوى تجديف مرعب. من هنا تطالب الكنيسة الكاثوليكية الجماعات الدينية بالابتعاد بشكل صريح عن الإرهاب الذي له دوافع دينية، وهي تمد يد التعاون لكل الديانات للعمل معًا على نزع كل أسباب العنف، وتحقيق الصداقة بين الشعوب".

 

ختامًا، حول دور الكنيسة الكاثوليكية في العمل من اجل السلام، نقرأ الكلمات: "الكنيسة تصلي من أجل السلام قبل القيام بأي شي عملي. فالصلاة، كما يؤمن المسيحيون، تملك قوة قادرة على تحويل العالم. علاوة على ذلك، الصلاة هي مصدر قوة أساسي في الجهد الذي يبذله المسيحيون من أجل السلام. والكنيسة لا تنثني في بشارتها عن المطالبة بالسلام، وتشجع المؤمنين على طلب السلام. وهي في كل اللقاءات التي تنظمها تحاول إيجاد مناخ سلام ومحبة، وتهدف من خلال ذلك إلى إظهار إيمانها بحضارة المحبة والسلام. إن هذه الحضارة ليست محض نظرية، بل هي ممكنة وواقعية، وحين يحاول المسيحيون العيش بحسب الإنجيل، فهم يشكلون أكبر حركة سلام في العالم".