موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
العالم العربي
نشر الخميس، ٣١ يناير / كانون الثاني ٢٠١٩
أبناء إبراهيم حين ينقلون التسامح إلى مراتب عليا: الحرية.. الأم والتاج

الأب رفعت بدر :

<p dir="RTL">كان الملك الراحل الحسين بن طلال يستخدم هذا المفهوم كثيراً، وأعني &laquo;أبناء إبراهيم&raquo;، الذي يُستخدم للعابدين لله الواحد، وبالأخص في القدس الشريف، حيث وجب أن تتوافر لهم كل أسس العيش السليم، بتأمين الحقوق والحريات، وأهمّها: الحرية الدينية التي في نظر البابا يوحنا بولس الثاني هي &laquo;الأم&raquo; الحاضنة لسائر الحريات، فيما أطلق عليها البابا بندكتوس السادس عشر لقب &laquo;تاج&raquo; الحريات كلّها</p><p dir="RTL">لأبناء إبراهيم الحق في العيش بسلام، والحفاظ عليه بعد بنائه على أسس العدالة، والمسامحة، وطبعاً الحقيقة، وقبل ذلك وفوقه جميعاً المحبة. أترانا نتكلم في سماء تختلف عن الأرض التي نحيا عليها، وما زال السلام غائباً، وأسسه المذكورة غير متوافرة، في غير بقعة من هذه الأرض؟ دعونا نأمل خيرًا!</p><p dir="RTL">أما الحرية الدينية ـ الأم والتاج ـ فليست متحققة بذات الزخم في كل منطقة. وأحياناً تُلبس اسم &laquo;حرية العبادة&raquo;، أو &laquo;حرية إقامة الشعائر الدينية&raquo;. لكنّها كما يقال بالفرنسية <span dir="LTR">ça laisse à desirer</span>: أي &laquo;ما زالت في بيت الأمنيات&raquo;. ولعلّ نظرة سريعة إلى الأمور من منظار الحرية الدينية في العقدين الأخيرين، تسعفنا في تشخيص المشهد الحالي للمسرح العالمي؛ فقد كانت هنالك موجات تلو موجات من التناحر، ولبوس اسم الدين، ونسبة أعمال عنف وإرهاب له، وحتى أنّ الله تعالى قد زُجَّ باسمه عزّ وجلّ في التخريب والتهجير، والقتل والترويع. فتهدّدت بلا شك الهوية الدينية التعددية، وصورة الدين الحقيقي الداعي إلى التحاب والتواد. لكنّها والحمد لله لم تغب، فهناك جنود، وأبطال يدافعون عنها.</p><p dir="RTL">نشأت في الآونة الأخيرة مبادرات ومراكز تعنى بالحوار. وكانت المملكة الأردنية الهاشمية رائدة في هذا المجال، فابتدأت جلسات الحوار منذ ثمانينات القرن الماضي، وتطورت إلى مبادرات، منها: رسالة عمان 2004، وكلمة سواء 2007، وأسبوع الوئام بين الأديان 2010 الذي تم تبنيه عالميًا، والمؤتمر الدولي للدفاع عن الهوية العربية المسيحية 2013، إضافة إلى استضافة المهجرين المسيحيين من الموصل، وسائر مناطق نينوى 2014، فضلاً عن زيارة العديد من الشخصيات الدينية المؤثرة، ومنهم أربعة بابوات جاؤوا إلى الأرض المقدسة، منطلقين من أرض المعمودية الأردن: (1964، 2000، 2009، 2014).</p><p dir="RTL">وفي هذا العام، وبعد 55 عامًا على زيارة البابا بولس السادس الذي أصبح قديساً قبل أشهر، و19 عاماً على يوحنا بولس الثاني، و10 على بندكتوس، و5 على فرنسيس، يحل هذا الأخير ضيفاً في شهرين على بلدين عربيين في أقصى المغرب (دولة المغرب)، وأقصى المشرق (دولة الإمارات العربية المتحدة)، دلالة على التقارب والمودة مع الجميع... فالكلمة لا يمكن أن تكون للتباعد، بل هي للتقارب وتعزيزه يوميًا.</p><p dir="RTL"><strong>ثقافة اللقاء</strong></p><p dir="RTL">تقدّم أبناء إبراهيم تقنياً، واستخدموا -وبعجلة من أمرهم- أنواع التكنولوجيا وكيّفوها في أيديهم، وصار العالم ليس قرية صغيرة فحسب، كما كان يقال، بل حياً صغيراً، يعرف فيه الواحد &laquo;عن&raquo; الآخر، لكنه &laquo;لا يعرف الآخر&raquo; بطرائق صحيحة ولا بريئة، ولم يواكب التقدم التكنولوجي، مع كل أسف، تقدم أخلاقي أو إنساني. وضاعفت التقنيات من تباعد الناس، رغم كونهم أقرباء بالجسد والجغرافيا، ولا أقصد هنا العالم الذاتي المتقوقع الذي يعيش فيه مستخدم الهواتف الذكية، بل ازدياد &laquo;مرض&raquo; الانتقاد، في وقته، وفي غير وقته، وفي مكانه غير الصحيح، وغير السليم وغير الصحي في كثير من الأحيان. ونشأت لدينا خطابات كراهية وإلغاء وتكفير، والتي أبدع محدثو الحركات المتطرفة والعنيفة في استخدامها جهراً وعلانية، غير متورّعين عن الزج باسم الله تعالى، وباسم الدين، في كلامهم على مواقع التواصل الإلكتروني، لتبرير أعمالهم الوحشية على أرض الواقع.</p><p dir="RTL">ثمّة تيار إلغائي سرى في العالم، ووُجد له مؤسسون، ومروجون وتقنيون يستخدمون الأجهزة &laquo;الذكية&raquo; من أجل تأجيج &laquo;الغباء&raquo;. ووجد التيار له تابعين أغبياء ـ وأحياناً أبرياء ـ سقطوا في الفخ الإلكتروني الذي أحالهم إلى محاربين في وسط المعارك الإلغائية.</p><p dir="RTL">لم يستسلم العالم، ولم يَنهزم كلية، فما زال فيه أصحاب النيات الحسنة، والإرادات الصالحة، وصار النداء في الغرب والشرق: يا بني آدم، يا أبناء إبراهيم، نهجكم الصحيح ليس في سخافة الإلغاء، بل في ثقافة اللقاء. وعاد العالم إلى الإمساك بدفة القيادة، باسم كل من تألم وجُرح، أو قُتل، أو هُجر وشُرد في مطارح العالم الواسعة. لا للإمساك بالدين من باب العنف والترهيب، فالدين سلام ووئام، وأبناء إبراهيم مدعوون أكثر من ذي قبل إلى التعاون، ليس في مؤتمرات ضخمة تعقد بين الحين والآخر في فنادق المدن الكبرى فقط، بل في قلب الإنسان من خلال حثه على اللقاء بالآخر المختلف عنه بأنه شريك ومكمل، لا مصارع أو عدو.</p><p dir="RTL">قاد بابا الكنيسة الكاثوليكية عدّة مبادرات، وتكاتف وتحالف معه أصحاب النيات الحسنة، وأدت كل من دولة الإمارات العربية والمملكة الأردنية الهاشمية أدواراً أساسية في &laquo;تعظيم الجوامع، وتقليص الفوارق&raquo; بين أبناء إبراهيم من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية على وجه التحديد. وللنزاهة لم تخل بعض المؤتمرات من مشاركة أتباع الديانة اليهودية، إلا أنّ الواقع السياسي، وتعقيد القضية الفلسطينية، وعدم وجود حل نهائي لها، يجعل من الصعب إشراك اليهود دائمًا في لقاءات الحوار في الشرق. ولا ننكر طبعًا دور دول مشرقية أخرى أسهمت في تعزيز مواقف اللقاء، في وجه مواقف الإلغاء: ومنها المملكة العربية السعودية التي أنشأت مركزًا دوليًا للحوار في فيينا <span dir="LTR">KAICIID</span>، بالتعاون مع النمسا وأسبانيا والفاتيكان (عضو مراقب)، وكذلك دور جمهورية مصر العربية التي قادت الكنيسة القبطية فيها مواقف انفتاح نحو الكنائس الأخرى، ونحو أتباع الأديان الأخرى، فيما قام الأزهر الشريف بمبادرات جمّة من أبرزها إعادة الحوار مع حاضرة الفاتيكان إلى مرحلة متقدمة، ليست متوقفة عند جدليات عقيمة، ولكنها مبنية على الصداقة والمودة، واللقاء في مجالات الخير، والمحبة، والتعاون لبناء حاضر جميل وآمن، ومستقبل أجمل وأكثر أمانًا.</p><p dir="RTL">التعاون إذًا هو عنوان المرحلة المقبلة، وهي متقدمة عن مرحلة الحوار بمفهومه العلمي والتفكيري والتقليدي، فلم يعد الجلوس بين أتباع الأديان، والنقاش وأخذ الصور التذكارية كافيًا، لأن ثمة إنسانًا يتألم في الشرق، وفي العالم. لذلك صار للتعاون &laquo;من أجل الإنسان&raquo; صورة جديدة، أطفتها أحداث &laquo;الربيع&raquo; على السطح. فافتتحت العيادات والمستشفيات الميدانية، وتآلف الصليب الأحمر مع الهلال الأحمر، ومنظمات إنسانية مثل الكاريتاس، لتخفيف معاناة الإنسان في أماكن الصراع، أو في مأوى اللاجئين والمشردين. ورسم أبناء إبراهيم من جديد صورة جديدة للحوار والتآلف والوئام، وصارت خدمة الإنسان والإنسانية المجروحة أبلغ الأيقونات في التكافل والمساندة، وهي لعمري أبلغ من كل الشعارات، والخطابات الرنانة.</p><p dir="RTL"><strong>فضاءات التلاقي</strong></p><p dir="RTL">منذ أن جاء البابا فرنسيس (في مارس آذار 2013) من الأرجنتين ليتم انتخابه بابا للكنيسة الكاثوليكية في العالم (التي يتبعها أكثر من مليار و400 مليون شخص) رسم خطوطًا جديدة للحوار، بناها على ما قام به أسلافه البابوات، وصار التلاقي ليس هدفًا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة وغاية ودرب وطريق نحو: تحقيق خدمة الفقراء، وخدمة العدالة والسلام، والحفاظ على البيئة.</p><p dir="RTL">أمّا خدمة الفقراء، فقد أكدها البابا فرنسيس من أول لقاء مع الأسرة الإعلامية، حين قال: &laquo;أريدها كنيسة فقيرة من أجل الفقراء&raquo;، ولعل ما تحدثنا عنه سابقًا من التضامن بين أتباع الأديان من أجل خدمة المهجرين يدخل في هذا السياق.</p><p dir="RTL">أمّا خدمة العدالة والسلام، فهي طريق لإشاعة أجواء جديدة من الأمل لمستقبل أفضل للأجيال المقبلة، وهذا بالطبع يتطلب تضامنًا إنسانيًا ودينيًا، وهو تضامن تربوي وثقافي بامتياز. فحق التعليم لا يمكننا الاستغناء عنه. لكننا اليوم نتحدث عن حق التعليم &laquo;السليم&raquo;، وهو التربية الملائمة لقيم التلاقي والتقبل، لكي يصبح الطفل والشاب/&rlm;&rlm;&rlm;&rlm; والطفلة والشابة، قادرين على التكيّف، والتأقلم مع مجتمعات متعددة الإثنيات والعقليات واللغات والأديان والطوائف (داخل كل دين). التربية على السلام إذًا تدخل في هذا الإطار الإنساني الواسع، ولن نكون مطمئنين على المستقبل، ما لم تتحقق هذه الأسس التربوية، لكي نضمن أن الأجيال الصاعدة، من أبناء إبراهيم لن تعود إلى التناحر مستقبلاً ـ لا سمح الله ـ على أساس عرقي، أو ديني.</p><p dir="RTL"><strong>الحضور الدولي</strong></p><p dir="RTL">الحضور الدولي لحاضرة الفاتيكان في الأمم المتحدة، وفي عالم السياسة والدبلوماسية، هو حضور الخدمة، وليس حضور الاستئثار، حضور المحبة والرحمة اللتين تتعانقان من أجل خدمة الإنسان والإنسانية. ولقد قدم كاتب السطور العام الماضي، أطروحة الدكتوراه في الفلسفة السياسية بالجامعة اللبنانية في بيروت، بعنوان: فلسفة القيم المشتركة في علاقات الأردن والفاتيكان على مدار خمسين عاما (1964 &ndash; 2014). أما القيم فهي التقبل والاحترام والتفاهم والعمل معا من أجل خير الإنسانية.</p><p dir="RTL">وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الممثلين الدبلوماسيين لدى الكرسي الرسولي، وبخاصة القاصد الرسولي (حيث لم تبرم علاقة دبلوماسية مع الدولة بعد) أو السفير البابوي، خلال أداء مهمتهم لا يدعون &laquo;إلى الاهتمام بالقضايا الاقتصادية أو التجارية، أو المالية، أو بالسياحة، أو بحماية مواطنيهم&raquo;، وليس بين الكرسي الرسولي ـ أو الفاتيكان ـ والدول علاقات اقتصادية وتجارية بحتة، فالتعاون الذي يدفع هذه العلاقات هو معنوي، نظرًا لأنّ &laquo;دولة&raquo; حاضرة الفاتيكان وجدت، لتكون مساحة تتيح للبابا أن يكون مستقلًا عن أي نظام سياسي، فالفاتيكان دولة صغيرة ورمزية لها طابعها الخاص، والقصد منها المحافظة على استقلالية الكنيسة الكاثوليكية وسط صراع الدول، فالبابا هو صوت معنوي، وخُلُقي وروحي أكثر منه قوّة سياسيّة، أو اقتصاديّة.</p><p dir="RTL">ومن هذا المنطلق يقول كلمته في الشأن السياسي، وفي الشؤون الاجتماعية، وكلمته ليست كلمة المصالح، بل كلمة القيم، فلا يمكن تصوّر علاقات مستقبلية بين الفاتيكان وأي دولة، كأيّ علاقات طبيعية وعادية كما هي الحال مع أي دولة أخرى. بل هي علاقات، ذات طابع ثقافي - روحي، تعنى بحقوق الإنسان الأساسية، وبخاصّة في مجال الحريّة الدينيّة، والتفاهم المشترك على صيغة واحدة من احترام المواطن كإنسان يسعى إلى الكمال. لكنّ كرامته الإنسانية، وحقوقه الأساسية هي الأساس الذي تتمتّن عليه علاقة الكرسي الرسولي بدول العالم.</p><p dir="RTL">إن الرسالة هنا رسالة أخلاقية وإنسانية بامتياز، تتمحور حول حقوق الإنسان، وضمان حرياته والدفاع عنها، واحترام كرامته وحقه في العيش الآمن.</p><p dir="RTL"><strong>محطات على طريق التعاون</strong></p><p dir="RTL">لمّا وُجِدَت بين العديد من الدول العربية والكنيسة الكاثوليكية علاقات ودية وتعاونية، ولما لهذه العلاقات من أسس متينة، وتتعزّز في الزيارات المتبادلة بأرفع درجاتها، فَمِنَ المهم التوقف عند بعض أوجه التعاون. وهي أوضح صورة للتآلف بين أبناء إبراهيم. ومن أوجه التعاون نذكر على سبيل المثال لا الحصر:</p><p dir="RTL">أولا: التعاون لإحلال العدالة والسلام في الشرق، وذلك بالدعوة إلى الحلول السلمية للمعضلات، والأزمات السياسية التي تعصف بالمنطقة، دون اللجوء إلى الحلول الحربية التي لا يمكن التكهن بنتائجها الوخيمة على الإنسان.</p><p dir="RTL">ثانيًا: التعاون في مجال مكافحة الإرهاب: إنّ أوجه التعاون بين الطرفين: الفاتيكان، وأي دولة، من شأنها توعية الأجيال الشابة بخطورة استخدام الدين استخدامًا خاطئًا، والتركيز على أن كرامة الإنسان وحياته أمر مقدس.</p><p dir="RTL">ثالثًا: التعاون في الدفاع عن مسيحيي الشرق، والحفاظ عليهم، مكونًا أساساً من المجتمعات العربية؛ وذلك للحفاظ على التعددية الدينية الراقية، والشراكة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين.</p><p dir="RTL">رابعًا: التعاون في مجال حقوق الإنسان، والحريّة الدينيّة، وتعزيز الديمقراطيّة.</p><p dir="RTL">خامسًا، وأخيرًا: أختم حديثي بالتشديد على التعاون الإعلامي الإيجابي، وهو ما ذكرناه سابقًا، لأنّ الإعلام هو البوابة التي تستقبل الأفكار البانية، والهادمة وتبثها، وهي التي تؤكد في المجتمع المحبّة والوئام، أو الفرقة والخصام.</p><p dir="RTL">وقد سطر البابا فرنسيس رسالة الإعلام في العالم الماضي 2018، بعنوان: &laquo;لا للأخبار المغلوطة، ونعم لثقافة اللقاء وخدمة الحقيقة، ونعم لاستخدام الإعلام من أجل السلام&raquo;.</p>