موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١ فبراير / شباط ٢٠١٩
من أجل التسامح

عبد الإله بلقزيز :

لن تكون زيارة البابا فرنسيس أبوظبي حدثا عاديا يشبه أيّ زيارة يقوم بها مسؤولٌ كبير في العالم لدولةٍ عربيّة؛ فمكانةُ الحَبْر الأعظم للكنيسة الكاثوليكيّة في العالم، وسلطانُه الروحيّ على مئات الملايين من المؤمنين المسيحيّين (الكاثوليك خاصّةً) يَرفعان من قَدْر الزيارة، ويشـُدّان أنظار الناس في قارّات الأرض إليها. وإلى ذلك فإنّ البلدَ المستقبِل للزائر الكبير مركَزيٌّ في محيطه العربيّ وفاعلٌ فيه، وذو رسالة في التنوير والتسامح فضلاً عن أنّه الأوّل، في محيطه الخليجيّ، الذي يستقبل بابا الفاتكان على أرضه. لهذه الزيارة أهمّيةٌ فائقة من وجوه ثلاثة: دينيّ وثقافـيّ وسياسيّ.

هي، في وجهها الدينيّ، زيارةٌ لأعلى مرجعٍ روحيّ في العالم يحمل رسالة السيّد المسيح في المحبّة والسلام. وبالصفة هذه وما تنطوي عليه من دلالات، فإنّ مخاطَبَتَه المسلمين في العالم، من أبوظبي، يُلْزِمُ مضمونُها رعيَّتَه الكاثوليك جميعَهم، وبالتالي، تُساهِم في تصحيح شوائب قد تكون شابت علاقات أتباع الديانتيْن التوحيديّتيْن الرئيستيْن (المسيحيّة والإسلام) لأسباب أخرى قد لا تكون لها صلة بالدين.

ويعزّز من فُرص هذا الدور التصحيحيّ أنّ البابا فرنسيس رجُل حوارٍ أبدى حرصًا على تثمير المشتَرَكات، كما يرجِّح الفرص تلك أنّه يزور بلدًا عربيًّا لا رعيّة دينيّة له فيه قد يُظَنّ أنّ لزيارته صلةً بها. تكتمل أهميّة هذا الوجه الدينيّ للزيارة متى أخذنا في الحسبان أنها تقع في بلدٍ هو من مراكز الإسلام المعتدل والتنويريّ في العالميْن العربيّ والإسلاميّ، نهض بأنشط الأدوار في مقاومة التعصّب والتطرّف ومكافحة الإرهاب، والدعوة الدؤوبة إلى الاجتهاد والتسامح، وبات مركزًا للحوار من أجل هذه المبادئ والأهداف.

وهي، في وجهها الثقافـيّ، زيارةٌ لتعظيم الحوار بين ثقافات أتباع الديانات المختلفة. ولمّا كان من المألوف، اليوم، أنّ علاقات التبادل الثقافـيّ بين أتباع هذه الديانات تشهد على نوعٍ من الانكماش، ويميل كلّ فريقٍ فيها إلى التشرنق على الذات، من جانب، أو إلى الاستعلاء ومحاولة فرض منظومة قِيَمِه على الآخر، من جانب ثان؛ ولمّا كان أكثر الصّدام الثقافـيّ - أو انقطاع التبادل الثقافـيّ - يبرِّر نفسه، عند هذا الفريق وذاك، بتعلاّت من قبيل الاختلاف أو التمايُز الدينيّ، ويسوِّغ لكلّ أنواع إنتاج الصُّور النمطيّة المتبادَلَة على قاعدةِ فكرةِ التمايُز الدينيّ الماهَويّ، فإنّ لزيارة الحبْر الأعظم مفعولاً معاكسًا في جسم هذه البنية المَرَضيّة. إنها تعلن أنّ الأديان ليست خنادق أو جدرانًا بين الأمم والشعوب والثقافات، بل هي جسورٌ للتواصل والتفاعُل الخلاّق، وأنّ الحوار أضمنُ وسيلة وأسلكُ سبيلٍ إلى بناء التفاهُم المتبادَل بين الأمم والشعوب، وجَبْه معضِلات العلاقة بينها، وتبديد سوء الفهم والتفاهم و، بالتالي، التأسيس للتعايُش والسِّلم في العالم. الزيارةُ، بهذه المعاني، تتغيّا نشر ثقافة الحوار والتسامح، وتنمية الوعي بالحاجة إلى احترام التعدُّد بما هو من طبائع الإنسانيّة.

أما، في وجْهٍ سياسيّ منها، فإنّ زيارة البابا – وإنْ هي لا تأتي بصفته السياسيّة على رأس دولة الفاتيكان – ذاتُ مفاعيل سياسيّة لا حصر لها. نعم، ما من موقفٍ تأتيه الفاتيكان، والكرسيُّ الرسوليّ فيها، يُلزِم أيًّا من الدول في العالم – خاصّةً الكبرى منها -غير أنّ لمواقف البابا التأثيرَ الكبير في الرأي العام العالميّ، وتحديدًا حيث توجد التجمّعات الاجتماعيّة الكاثوليكيّة الكبرى؛ هذه التي تستطيع – في الديمقراطيات الغربيّة – على نحوٍ خاصّ – أن تَحْمِل مؤسّسات القرار في بلدانها على أخذ رأيها (الذي يشارك البابا في صنعه) في الحسبان. ولمّا كانتِ السياسات (=سياسات الدول الكبرى خاصّةً) أفسدتِ العلاقات في العالم؛ لأنّ مبناها على المصالح الضيّقة، فإنّ الزيارة تسهم في إصلاح بعضِ ما تُفْسِدُهُ السياسات تلك؛ لأنّ مبنى الزيارة على المبادئ العليا لا على المصالح المتمايزة.

من النافل القولُ، إذن، إنّ زيارة البابا للإمارات العربيّة المتحدة تأتي، اليوم، لتجيب عن ظرفٍ حسّاس ومعضلةٍ مستفحلة الخطورة؛ تنامي عوامل الشِّقاق والصِّدام بين العالميْن العربيّ والإسلاميّ، من جهة، والعالم الغربيّ، من جهةٍ ثانية. وهو شِقاق يمزِّق ما ترتَّق في الماضي بين العالميْن، بعد نيْل بلدان الإسلام استقلالها السياسيّ، وشروعها في الاندماج في منظومة العالم الحديث.

صحيحٌ أنّ من عوامل الشـِّـقاق – المستفحِل اليوم – ما هو سياسيّ؛ يعود إلى سياسات الدول الكبرى ومنازِعها الهيمنويّة ضدّ حقوقِ شعوبٍ مهتَضَمة وحقوق دولٍ مستَضعفة. لكنّ في جملة العوامل تلك ما هو دينيّ أيضًا أو، قُل، ما هو سياسيٌّ - على التحقيق- ينتحل الدينَ عنوانً ومرجعًا وأداةً.

هكذا نُلفي دولاً ومجتمعات وحركاتٍ سياسيّةً تتواجه، اليوم، وفي غير مكانٍ من العالم، باسم الدين فيختلط على الناس الأمر، فلا تعود تملك الـمَائِزَ بين أغراض السياسة والمصالح و(بين) ما تَرْكَبُه السياسةُ لتحصيلها من مبرِّراتٍ للتسويغ والشرعنة. والنتيجة أنّ الأديان تدفع ثمن هذا التسخير السياسيّ لها في معركة المصالح، وتتفسّخ معها صُوَر معتنقيها من المؤمنين جملةً ! هكذا يتحوّل المسلم والعربيّ – في لعبة التسخير تلك وما يتولّد منها من صُورٍ نمطيّة في بعض الوعي الغربيّ– إلى مرادفٍ "للإرهاب"، فيما يتحوّل المسيحيّ – في بعض الوعي الإسلاميّ - إلى رمزٍ للسيطرة والهيمنة والحرب، والحال إنّ الإسلام براء من الأفعال الإرهابيّة النكراء براءةَ المسيحيّة من السياسات العدوانيّة والهيمنويّة الغربيّة.

يُنْتَظَر، إذن، أن تكون زيارة البابا فرنسيس إلى أبوظبي مناسبةً متجدّدة لتأكيد الحاجة إلى تحرير الأديان من تجّارٍ اختطفوها وسخّروها لخدمة تجاراتهم، على حساب أمن البشريّة وسلام شعوبها؛ وأن توفّر بيئةً لتعظيم فرص الحوار والتفاهم، ولنشر ثقافة التسامح والاعتدال في العالميْن اللذيْن تستبدّ بهما مشاعرُ التَّخاوُف (=الخوف المتبادَل)، وداخل كلِّ مجتمعٍ من مجتمعاتها المزدحمة بأفكار التعصّب والإنكار وقيمها. ولدينا كبير ثقةٍ بأنّ البلد الذي أحدث وزارةَ دولةٍ خاصّة بالتسامح – في سابقةٍ محمودة على الصعيديْن العربيّ والإسلاميّ – سيوفّر لزيارة البابا تلك البيئة المناسبة للتشديد على هذه المبادئ، ولفكّ خيوط الاشتباك المصطَنَعة بين الثقافات، ولإعادة المعنى الأصيل إلى الدين بما هو رسالة نبيلة تدعو الناس إلى المحبّة والسلام، لا إلى البغضاء والحرب، وإلى عمارة الأرض لا إلى خرابها.