موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٣ يونيو / حزيران ٢٠١٩
مشكلات الانتقال المعرفي العظيم

د. باسم الطويسي :

علينا ان نتوقف طويلا امام السؤال: كيف يغير التحول المعرفي العظيم الذي يشهده العالم طريقة تكوين الافراد وتنظيم المجتمعات وفي طريقة اعادة تشكيل الثقافات وتوزيع القوة ؛ من المعروف أن الظروف الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية هي التي تحدد قيم وتطلّعات المجتمعات ولعل أبرز من يحدّد طبيعة هذه الظروف هي الأدوات التي يستخدمها الناس بدءا من أدوات الإنتاج التقليدية وصولا لأدوات إنتاج المعرفة وما يرتبط بهما من علاقات، أي وسائل وأساليب التكوين الثقافي والفكري والطريقة التي تنظر فيها الشعوب لنفسها، وللآخرين وللتاريخ والحياة، والطريقة التي تتخذ بها القرارات.

يرتبط تاريخ كل وسيلة اتصال بحالة من الانتقال المعرفي لها سماتها وتأثيرها المباشر وغير المباشر على بنية المجتمعات والتنظيم وعلى الأعمال والمهن، وفي الأغلب تسود حالة الإرباك وعدم اليقين في المرحلة الانتقالية. إن التحول الرقمي العظيم في العالم المعاصر وبالتحديد الإعلام والمعلوماتية بات يدشن فهما جديدا لمكانة المعرفة وارتباطها بالقوة أي ظاهرة تجزئة القوة والانتقال من قوة تأثير النخب إلى قوة الناس ومن الحتمية التكنولوجية إلى الحتمية المعرفية.

تبدو الظاهرة حتى هذا الوقت غامضة ويشوبها الإرباك والتناقض بين مظهر وآخر، ولكي نفحص هذا التناقض سنعرض بعض التأثيرات الثقافية والمعرفية وتحديدا كما تبرزها شبكات الاتصال الاجتماعي:
الانتقال من عصر التكوين الثقافي التقليدي القائم على القراءة المعمّقة والتفكير النقدي إلى عصر الإغراق المعلوماتي القائم على التسطيح والتعرف المسحي السريع لكل شيء بعيداً عن العمق ومع فقر في القدرات النقدية، وبالتالي فالمعلومات وحدها بهذه الطريقة لا تتحول إلى معرفة.

في عصر الإعلام الرقمي والشبكات انتهى عصر التكوين الثقافي التقليدي، والذي كان يقوم أساساً على القراءة المستوعبة في مجالات متعددة، بحيث يمكن للمثقف أن يتحلى بمعرفة موسوعية تسمح له بالتفكير النقدي الخلاّق. حَدَثَ هذا التحول الكبير لصالح الاستهلاك المعلوماتي والاتصالي الموسع والذي قد لا يحمل هويات واضحة وعادة ما يخضع لقوانين السوق؛ إذ إن المنتجات الثقافية الجديدة تعامل مثل السلع في الأسواق. لكن هل سوف تستمر هذه الظاهرة طويلا ؛ من المؤكد لا فالاجيال الجديدة آخذة في التغلب عليها ولكن لا ندري الى اليوم كيف سيكون شكل التكوين المعرفي القادم.

الانتقال من الأطر المرجعية الفكرية القائمة على المعرفة التراكمية إلى الفراغ المعرفي المكتفي بالإغراق المعلوماتي، فالمجتمعات في عالم اليوم تعاني من فراغ في الأطر المرجعية المعرفية، إلا إذا ما عملت المعلوماتية على التحول إلى أيديولوجيا في الوقت الذي يشهد العالم فيه عصر نهاية الأيديولوجيات بمفهومها التقليدي التي عرفها القرن العشرون.

قد تقود وسائل الاتصال وعلى رأسها الشبكات إلى التغيير وبحسب بعض وجهات النظر إنها قادرة على التفكيك لكنها لا تملك القدرة على إعادة التركيب، لماذا ؟ إحدى الإجابات المهمة هو انشغالها في الإغراق المعلوماتي على حساب الأطر والبدائل المعرفية.

التحوّل من التدفق المعلوماتي والمعرفي والثقافي العامودي إلى التدفق المعلوماتي الأفقي، الأمر الذي أنهى الكثير من أشكال الوصاية والأبوية المفروضة على الشباب في مرحلة التكوين الثقافي والفكري، وزادهم استقلالية وقدرة أكثر على التفاعل وأحياناً على التأثير.

لقد أثرت أدوات الاتصال والتكنولوجيا الرقمية في تحويل عملية انتقال المعلومات والثقافات من عملية نظامية مفروضة من الأعلى إلى الأسفل، إلى عملية تلقائية مرغوبة تسير بشكل أفقي وبدون مراكز سيطرة واضحة، بل عملية يذهب إليها الشباب والناس عامة ويساهمون فيها.

التحول من احتكار القوة من قبل النخب ومراكز النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى تجزئة القوة: لأول مرة في التاريخ يتاح للمجتمعات أن تُسهِم في إنتاج المعلومات والمعرفة والمساهمة في توزيعها ما يعني تمليك المجتمع جزءاً من القوة، نتيجة الطرق الجديدة في إنتاج المعلومات والمعرفة وطرق توزيعها وانتقالها. يقول الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان: “نحن نطوّر الأدوات، ثم تعمل الأدوات على تحديد ثقافتنا وتحديد من نحن”.

(الغد الأردنية)