موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأحد، ١٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠
مئوية الإحتفال بالعيش المشترك

الحسن بن طلال :

يتفق المؤرخون على أن كل ظاهرة اجتماعية فريدة لا تتكرر بنفس السياقات والسمات، إذ إن هذه الظواهر تكون دائماً مخصوصة بزمانها ومكانها. فإذا أخذنا مُنْجَزَاً من مُنجزات النهضة العربية في مسيرتها التحررية، بدايات القرن العشرين، ورغم أنها ارتبطت بمزايا اجتماعية وسياسية كثيرة، إلا أننا سنجد أن الدستور الفيصلي، الذي تمر علينا ذكراه المئوية الأولى، مَثَّلَ علامة اجتماعية فارقة بين هذه المزايا. فقد أحدث ما يُشبه الثورة الحقوقية الاجتماعية، إلى جانب النُقْلة السياسية النوعية، التي حددت طبيعة علاقات الجغرافيا والديمغرافيا في سوريا الحديثة والعراق، لكونه شكل لبنة تاريخية نادرة، وغير مسبوقة، للتعايش بين القوميات والأديان والمذاهب، ووضع لبنات تأسيسية لكيان جغرافي اجتماعي متماسك، في تلك الفاصلة الزمنية من وجوده الوطني في المشرق العربي.

لقد مثلت الإصلاحات الدستورية العثمانية، التي بدأت متواضعة في العام 1839 وتطورت في الشكل والمضمون بعد العام 1908 فشكلت مقدمات حافزة، في الواقع، للحركة الدستورية العربية. فبعد تداعي أركان الدولة العثمانية، أعلن فيصل بن الحسين، في تشرين الأول/أكتوبر 1918 تشكيل حكومة دستورية في سوريا، باسم والده الشريف حسين، تشمل جميع بلاد الشام أو المشرق العربي (جوهر المشرق العربي اليوم هو لبنان، فلسطين، الأردن سوريا والعراق)، وأراد لها منذ البداية حكماً دستورياً، يُشارك في صياغته شعوب بلاد الشام بأطيافه المتنوعة؛ المذهبي والديني والعرقي والطائفي بلا تمييز، ويُنتخب نوابه وشيوخه بإرادة وطنية حُرَّة، لتكون بذلك أول انتخابات نيابية شعبية في تاريخ سورية الحديثة، التي تَبنت فكرتها النُّخب العربية في العشرينيات من القرن الماضي. وقد نقلت تلك النخب؛ استلهاماً لروح هذا الدستور، مفاهيم نهضوية بنظرة استشرافية للقرن الماضي إلى الثقافة السياسية العربية، كالدولة ـــــ الأمة، والمواطنة، والتمثيل النيابي، والاقتراع، وتوازن السلطات، وغير ذلك من آليات الممارسة الديمقراطية المدنية.

بعد وصوله إلى دمشق، قام جلالة الملك فيصل، رحمه الله، بسن تشريعات تحقق مقتضيات العدل والمساواة بين الناس، في مجتمع سوري متنوّع متعدّد، وعلى رأس هذه التشريعات وثيقة دستورية مدنية عصرية، فابتدر التوجه لإنفاذه بإصدار مرسوم لتأليف وزارة برئاسة رضا باشا الركابي، الذي استمر برئاسة الوزارة السورية من 30/9/1918 ولغاية 26/1/1920 لينتظم في عهد هذه الحكومة تشكيل مؤتمر سوري، ووضع قانون أساس للبلاد باسم “دستور المملكة السورية”، وذلك في إطار معالجته للقضايا الاجتماعية للكيان السوري وفق منهجية حضارية أعطت لهذا الدستور طابعاً مدنياً لاعتماده المواطنة كأساس للحقوق والواجبات، واتسم بالبعد الديمقراطي، الذي أخذت الحريات فيه حيزاً كبيراً، عَزَّ مثيلها في ذلك الزمان.

خطاب موضوعي

وتجدر الملاحظة أنه قد سبقت صياغة هذا الدستور خطاب موضوعي اجتماعي وسياسي واسع يعالج الحيرة التي نحن فيها اليوم، توّجت بالمؤتمر العام، الذي عقد ثلاث جلسات رئيسة، بين شهري حزيران/ يونيو 1919 وتموز/ يوليو 1920 استطاعت من خلالها لجنة الدستور وضع مشروع مؤلف من 148 مادة لـ”المملكة العربية السورية”. ركزت المادة الأولى فيه على اختيار اللجنة للشكل النيابي الدستوري في حكومة ملكيةٍ نيابية. بينما أقرت المادة التاسعة والعشرون بأن الحكومة مسؤولة أمام المجلس النيابي.

وكانت الملكية في مشروع الدستور مُقيدة، والسلطة التشريعية موزعة على مجلسين؛ “النواب، والشيوخ”، اللذان اقتبسا من نموذج الملكيات الدستورية الأوروبية. غير أن اللافت في الدستور هو مفهوم وصفه “المواطن”، في المادة العاشرة، التي أطلقت على جميع أفراد المملكة السورية العربية بغض النظر عن أي تحديد ديني، أو اثني له، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط.

لهذا، كان الدستور العربي الفيصلي دستوراً مدنياً في المشرق العربي، ولكونه دستورًا متميزًا بتقدير بريطانيا وفرنسا فقد عُمل على إفشاله خشية كل من البلدين أن يؤدي هذا النموذج إلى زعزعة أركان حكمهما في العراق وفلسطين وشمال أفريقيا.

وبالمثل، أجهضت بريطانيا المطالب الدستورية في مصر، التي قُدِّمَت في ثورة 1919 والتي نسقت عملية مُحكَمَة من أعلى إلى أسفل لصياغة دستور ليبرالي، بينما كان زعيم الثورة سعد زغلول في المنفى، مثلما واجهت بالقمع ثورة العشرين العراقية ذات المطالب الوطنية التي تتعلق بالاستقلال وحق تقرير المصير.

وقد تميز الدستور باحترام الآخر وتجلت فيه الهوية العربية المستوعبة إنسانيا للتنوع والتعدد الثري على أساس الاحترام المتبادل، فلم يشترط اللسان العربي لغة للجميع.

وتضمنت مواده التغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على البلاد، حيث المشرق حاضنة الحضارات “والشمس تشرق من الشرق”، وقد شكلت قضاياه منطلقاً للحوار والنقاش الشعبي والنخبوي، الذي استمر بعد الاستقلال الوطني، وتفاعلت معه أجيال لاحقة، وتستذكره بالفخر إلى اليوم. إذ إنه وفر مادة ثرية للتفكر والتدبر، وقدم وثيقةً مبكرة عن بنية القضايا الوطنية، التي ينبغي أن تستأثر بالاهتمام.

ومما يُستفاد من تجربة الدستور الفيصلي أنه أسس لفكرة نماذج من العيش المشترك بين التيارات الوطنية والدينية المحافظة على حد سواء، التي نشأت عبر تعاون الحركات الدستورية الشعبية الأولى في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، والتي اجتهدت في التخلص من الحكم الأجنبي، وإقامة الديمقراطية الدستورية. غير أن قوى الاحتلال عملت على اجهاض هذه النماذج.

ويشير النسق التاريخي، الذي تم الكشف عنه خلال تجربة الدستور الفيصلي، إلى أن التسوية الهادفة بين التيارات الوطنية والدينية المحافظة، تتطلب ظروفاً خاصة وقيادة استثنائية تستوعب الوقائع الثقافية والمتغيرات الاجتماعية، وتدرك الحكمة في إدارة التنوع والتعدد.

وتؤكد هذه التجربة أن الديمقراطية ليست مناقضة للإسلام ولكنها تشكل النموذج المنشود باستلهام روحه الحيّة وتعاليمه السمحاء. وهذا النموذج متقدم على الكثير من النماذج الحديثة.

وعندما نقارب المسألة بين عامي 1920 و2020 تتكشف الميزة المتقدمة للدستور الفيصلي الذي جاء من تجارب حكم الدولة العثمانية بعد ستة قرون في تقييم واضح وناضج لما يجب أن يخلفها بالاعتراف الدستوري والقانوني لحقوق الشعب العربي الذي لم يُعتبر جزءًا من الدولة، لهذا فله الحق بأن يبحث عن هويّة وجدها بالدستورية مثلما وجد سعد زغلول هوية وادي النيل في دستوره، حيث أن ملك مصر كان ملك مصر والسودان آنذاك.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لقد تمكن السوريون والمصريون من التوصل إلى حل وسط بين المحافظين والليبراليين قبل قرن من الزمان، فهل يستطيع النخبويون العرب من اليمين واليسار تكرار تلك التجارب اليوم؟

إن مثل هذا السؤال تستوجب الإجابة عليه استصحاب السمات الأساسية للإسلام، وأصول الثقافة العربية، والتجربة الإنسانية المُنْتِجَة لليبرالية والفكر الديمقراطي الحديث، الذي يُعلِي قيمة التنافس الإيجابي على الاستقطاب السياسي.

فقد أدى هذا الاستقطاب، الذي هيمن على الواقع العربي طويلاً، إلى ظهور تيارات عزز من مكانتها الاستعمار، وكانت مناهضة لصياغة دساتير شبيهة بالدستور الفيصلي، الأمر الذي عرقل الانتقال إلى سياسات أكثر ديمقراطية وشمولية وتعددية في عالمنا العربي اليوم، حيث أن بريطانيا وفرنسا كانتا ترغبان أن ترثها الأنظمة العسكرية، كما قيل، بدلا من أن تستمر هذه الرعاية الملكية لأسباب لم تصدق القول، أو من حيث المطلق معارضة للملكية، وهي بذلك تناقض نفسها عندما تقول بأن الديمقراطية حل للشعوب.

لقد وعد الملك فيصل السوريين بأن الطبيعة العربية للنظام هي عبارة عن مصطلح من الإقليم إلى العالم، يهدف إلى دعم مطالب الاستقلال السوري، وليس أداة لاستبعاد المتحدثين بغيرها من الكرد والأرمن وغيرهم. ففي خطاب ألقاه في حلب في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 عرّف فيصل، وسبقه إلى ذلك الشريف الحسين بن علي والملك عبد الله الأول، العروبة كبرنامج سياسي للمساواة والإدماج. “

أنا عربي، وليس لدي أي امتياز على أي عربي آخر”، كما تعهد. وقال “إنني أحث إخواني العرب، أيا كان دينهم، على استيعاب زمام الوحدة والتفاهم المتبادل، لنشر المعرفة وتشكيل حكومة تجعلنا فخورين” بها. “أكرر ما قلته في كل مكان، أن العرب كانوا عرباً قبل موسى ويسوع ومحمد، وأن الأديان تقودنا إلى متابعة الحقيقة والأخوة على الأرض. لذلك، كل من يزرع الانقسام بين المسلمين والمسيحيين واليهود ليس عربياً.

زعيم روحي

وزاد الملك فيصل على ذلك بأن طمأن غير المسلمين أن مكانته كإبن الشريف حسين، ونسبته لذرية النبي الهاشمي، لن تجعل منه خليفة لبلاد الشام؛ على عكس ما ألفه الناس أيام الإمبراطورية العثمانية، حيث كان السلطان أيضاً الخليفة، والزعيم الروحي لجميع المسلمين. وكان هذا التوجه الجامع قد حدا ببطريرك الروم الأرثوذكس، وكبير حاخامات دمشق، أن يؤيدا برنامج جلالته، بناء على تأكيدات ملكية بأن مجتمعاتهم ستكون محمية. وبهذا قدم نموذجاً عروبياً منفتحاً للإسلام فهم منه الحلفاء في باريس أن هناك “أمة” سورية تستحق الحكم الذاتي كشعب متجانس يحتل منطقة جغرافية متجاورة.

وقد عمل فيصل على تمكين وتفويض السلطة التشريعية، وأن تكون الحكومة مسؤولة أمام المؤتمر، وليس أمام الملك. وأن يشرف المؤتمر، وليس الملك، على نظام المحاكم، بما في ذلك المحاكم الدينية.

ويمكن اقتراح مشاريع القوانين من قبل منظومة المنتخبين والحكومة، وليس فقط من قبل رئيس الوزراء، كما في العهد العثماني. فقد اضطر رئيس الوزراء مرة، بعد الكثير من النقاش والمداولات، إلى تقديم برنامجه للموافقة عليه من قبل المؤتمر، إيماناً بأن السلطة الحقيقية في الديمقراطية تستمد من الشعب، وأن المؤتمر يمثل الشعب.

ومع ذلك، فقد توصلوا إلى حل وسط بشأن العديد من القضايا الخلافية، بما في ذلك دور الدين في الدولة، وحقوق الأقليات، وميزان القوة بين الملك والبرلمان، وبين الحكومة المركزية والمحافظات. كما قلص الدستور قوة النخب بإلغاء الترشيح لعضوية مجلس الشيوخ مدى الحياة، إذ أوجب انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، ولمدة تسعة أعوام فقط. وفقد مجلس الشيوخ أيضاً الحق في فحص التشريعات، التي يقرها مجلس النواب، بسبب الانتهاكات المحتملة لحقوق الملك، أو الدستور.

إن الأمل يحدونا بالعودة الى النهضة المؤسسية التي أرسى دعائمها جيل الحسين بن علي وعبد الله وفيصل الذين بدأت بهم الدربة على الحياة السياسية في “مجلس المبعوثان”، وهو المجلس النابع من الواقع الجيوسياسي في المشرق العربي وآسيا الصغرى تاليا إلى العالم، وليس من مساومات فرساي، إنه صوت الإقليم إلى العالم وليس العكس. وأضيف أن الدستور الفيصلي لعام 1920 كُتب بمبادرة لا سابق لها في العالم العربي، وبرضا ومباركة من الشريف الحسين بن علي، وصيغت مواده بروح أكثر ديمقراطية وعدلاً وإيماناً بالمساواة، إلا أنه لا شك مدين ببعض الفضل لسلفه العثماني، الذي أقر بعض المبادئ العامة لحقوق المواطنة في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة. وبينما استبعد الدارسون المماثلة المطلقة بينهما، إلا أنهم بينوا بجلاء لا يقبل الجدل أحقية الدستور الفيصلي في أن يتوج كأول وثيقة حقوق عربية وإسلامية، وذلك لما وفره من ضمانات ما تزال تمثل مطلباً ملحاً في أكثر من بلد عربي وإسلامي.

تركيز الدستور

ففي الوقت الذي ينصرف فيه تركيز الدستور، في المقام الأول، بالسيادة القانونية على الدولة والمجتمع، إلا أن الدستور الفيصلي كان ينظر إليه أيضاً على أنه وسيلة فعالة للترويج لوطن أكثر شمولاً وأقل انقساماً؛ فقد هدف، على وجه التحديد، إلى إعادة صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا كمجتمع واحد موحد، واعتبار غير المسلمين مواطنين كاملي الأهلية، ويتمتعون بحقوق متساوية وواجبات مشتركة. فكانت التسويات والنماذج، التي توصل إليها هذا الدستور فريدة، ومثلت مبادرة تاريخية تأكد بها مبدأ السيادة، وحقوق المواطنة، والاحترام المتبادل، والكرامة الإنسانية.

وختاما أقول أن ما نحتاج إليه في عالمنا العربي اليوم هو ويستفاليا عربية تقيم علاقات متوازنة بين الدول والشعوب وتحترم خصوصية الهويات الفرعية وترعى المصالح المشـــــتركة والمنافع المتبادلة بين شعوبها وبلدانها.

وتبرز أهمية اتفاقية ويستفاليا (الأوروبية) أنها عززت مفهوم التسامح عبر السماح للأقليات الدينية في الإقليم بممارسة شعائرها الدينية بحرية.

كما أسست لأسبقيات سياسية مهمة فيما يتعلق بسيادة الدولة، والعلاقات الدبلوماسية بين الدول، وتوازن القوى في أوروبا.

(الزمان)