موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٨
في يوم العصا البيضاء

رمزي الغزوي :

من شغاف قلبي أراني أحتاج إلى عصا رمان خضراء لبلابة (مطرق)، أسوط به من غرس في مجتمعنا ذلك المثل الشعبي اللئيم القبيح: (وين ما شفت أعمى دُبه، أنتَ ليست أدبرُ به من ربِّه).

فقد كان يفرح طفولتنا أن نهرع لعميان قريتنا نساعدهم، ومنهم أعمى بلا عصا يسير على دفة قلبه. كان يحفظنا عن ظهر حب، فما أن يقبض على راحة يدك حتى يقول: أنت فلان بن فلان. وربما كان يقرأنا من روائحنا، أو من (زناخة) مزاح بعضنا. فحواس المكفوفين تتضخم تعويضاً عن نعمة لا تضاهى.

في سنتي الجامعية الأولى طلب مني حارس البوابة، أن أصطحب زائراً كفيفاً يريد كلية العلوم. فوضعت كفي بكفه وسرنا نمخر عباب الحديث. وصدف أنني رأيته، قُبيل تخرجي بأيام، يهم صعود درج جسر في بغداد، فدسست كفي بيده، وقبل أن أنبس ببنت شفة قال: أهلاً رمزي الأردني، ثم ضحك: الجبال لا تتلقى، وأبناء آدم يلتقون.

ولما قال موسى عليه السلام، بأن له مآرب أخرى في العصا، غير الإتكاء والهشّ على الغنم (أي ضرب أوراق الشجر؛ كي تتساقط لتأكلها الأغنام)، ربما أراد أن يتوسع بالحديث مع رب العزة، ليقول لنا أن العصا للطريق، وهي لمن عصى، وللأفعى، وللشيخوخة، وهي صولجان القوة، حتى أن الجاحظ أفرد لها باباً واسعاً في كتابه البيان والتبيين سماه باسمها.

أمس احتفلنا باليوم العالمي للعصا البيضاء. فهذه الأنبوبة الخفيفة غدت رمزاً للمكفوفين، واعترافا بالانجاز والاستقلالية لهم، ووسيلة لبيان الطريق، وعلامة دالة لحاملها، مع التأكيد أنها ليست لإثارة الشفقة، بل لتذكير الأصحاء بالذوق العام في تعاملهم معهم.

وهنا نتذكر عظماء من المكفوفين: هوميروس اليوناني شاعر الإلياذة، وأبا العلاء المعري رهين المحبسين، ووبشار بن برد، وطه حسين، وهلين كلير الأديبة الأمريكية المعروفة، وجون ملتون صاحب الفردوس المفقود، ونتذكر عبدالله البردوني شاعر اليمن. والصحابي عبدالله بن أم مكتوم، الذي نزلت به آيات (عبس وتولى). والموسيقار الجميل عمار الشريعي، وسيد مكاوي، والمغني الطلياني أندريا بوتشيلي. وإريك فبهنماير متسلق افرست في 2001.

في بكين وأوسلو واسطنبول ودبي وأورموتشي وتبليسي وغيرها من المدن لمحت مسرباً على الأرصفة مرصوفاً ببصمة مختلفة من البلاط؛ كي تميزه خطوات المكفوفين. فتمنيت أن نبادر في عمان، ونجهز مثل هذا الدعم اللوجستي وغيره. وهنا سأحيي الجامعة الأردنية، إذ خصصت مثل هذا المسرب من البوابة إلى المكتبة والرئاسة والمطعم.

وفي يومها نحييهم أيضاً، وهم يرون الحياة بقلوبها، وينجزون ما لا يستطيع كثير من المبصرين انجازه. ونتمنى أن نعمل على تمكينهم من الإنخراط أعمق في مجتمعهم لخدمته ورعته. فتحية للعصا البيضاء وحامليها.

(الدستور الأردنية)