موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
في عيد القديسة تريزا من كلكتا، أم الفقراء.. نورٌ من العطاء لا يغرب

القدس - أشخين ديمرجيان :

 

تحتفل الكنيسة الكاثوليكية يوم الخميس الموافق 5 أيلول  بعيد الراهبة الراحلة الأمّ تريزا. وقد أعلن البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني "طوباويّة" الأمّ تيريزا (مادري تريزا) سنة 2003. بعد أن اعترف الفاتيكان سنة 2002 بمعجزة الشفاء الأولى وهي شفاء امرأة هندية من ورم خبيث في عام 1998، وكانت المرأة قد طلبت  شفاعة الأمّ تريزا لديه تعالى لتنال الشفاء. وحضر التطويب آنذاك نحو 300 ألف نسمة، في الفاتيكان. ثمّ أقرّت الكنيسة بالطابع المعجز لشفاء مهندس برازيلي عام 2008 من أورام متعدّدة في الدماغ ، وهو في سن الخامسة والثلاثين.

 

في 5 أيلول سنة 2016، دوّى في ساحة القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان صوت الحبر الأعظم فرنسيس الأوّل وهو يُعلن قداسة الأمّ تريزا الألبانية. وأشاد أمين سرّ دولة الفاتيكان يومئذ بدفاع الأم تريزا الشجاع عن "الحياة" التي تُبصر النور، وذلك بصدق الكلمة والعمل اللذين يشكّلان العلامة المنيرة لحضور الأنبياء والقديسين الذين لا يركعون إلا أمام الله، وهم أحرار في داخلهم لأنّهم أقوياء، ولا ينحنون أمام الأصنام المعاصرة بل يجدون أنفسهم في الضمير الذي ينيره الكتاب المقدّس.

 

 

نبذة من حياة الأمّ تريزا

 

وُلدت الأمّ تريزا في 26 آب سنة 1910 في قرية "سكوبيه" في ألبانيا (مقدونيا). تنتمي إلى عائلة كاثوليكية مؤمنة، وقد تعلّمت من والدَيها خدمة الفقراء والبائسين وطبّقتها طول حياتها على الأرض. التحقت في بداية شبابها بمدرسة للرهبان اليسوعيين في يوغسلافيا. قرّرت أن تصبح راهبة سنة 1928 فأُرسلت إلى إيرلندا للدراسة. ثمّ سافرت سنة 1931 إلى كالكوتا في الهند لإكمال دراستها وأيضًا لممارسة مهنة التعليم في مدرسة ثانوية القديسة مريم. ثمّ عُيّنت رئيسة للمدرسة سنة 1944.

 

كم كان تأثير رسالة والدتها عليها كبيرًا، إذ كتبت لها أمّها سنة 1946 رسالة تذكّرها بواجبها تجاه الفقراء في الهند. ودعاها الرب في رؤيا إلى العناية بـ"أفقر الفقراء". قلبت تلك الرؤيا حياة الأمّ تريزا رأسًا على عقب، ونالت إذنًا للتوجّه إلى أحياء كالكوتا الفقيرة لإنشاء مدرسة سنة 1948. وحصلت على موافقة قداسة البابا بيوس الثاني عشر بتأسيس رهبنة "مرسلات المحبّة" في كالكوتا سنة 1950.

 

ولسخرية القدر، حوّلت الأمّ تريزا جزءًا من معبد كالي (معبودة الموت والدمار عند الهندوس)، بتأييد من السلطات المختصّة، إلى دار رعاية للمرضى المصابين بأمراض غير قابلة للشفاء، كي ينالوا العطف والعناية وبعد ذلك يموتون بكرامة. ثم قامت بإنشاء مؤسسات أخرى: "القلب النقي" (منزل للمرضى المزمنين)، و"مدينة السلام" (لإيواء المصابين بأمراض معدية ينبذهم المجتمع)، وملجأ للأيتام. حينما زاد عدد الراهبات المنتسبات إلى الرهبنة، قامت الأمّ تريزا بإنشاء مئات البيوت المماثلة في طول الهند وعرضها كي يشعر كلّ مهمّش بالاحترام.

 

منحها البابا بولس السادس الإذن بالتوسع والعمل في جميع أنحاء العالم سنة 1965، وهكذا انتشرت فروع الرهبنة في معظم دول العالم الفقيرة: أثيوبيا وجنوب أفريقيا، وألبانيا مسقط رأسها بعد سقوط الشيوعية. من أعمالها البطولية أنها في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 تمكّنت من أيقاف إطلاق النار لمدّة معينة في سبيل إنقاذ 37 طفلا مريضًا كانوا محاصرين في أحد المستشفيات.

 

وإكبارًا لمجهودها منحتها الحكومة الهندية جائزة "باندما شري" لـ"خدماتها الإنسانية المميزة" سنة 1962.

 

وفي سنة 1971 كرّمها قداسة البابا بولس السادس، فكانت أوّل من يفوز بجائزة "البابا يوحنّا الثالث والعشرين للسلام". وعام 1972 منحتها الحكومة الهندية ميدالية "جواهر لال نهرو" لأعمالها الخيرية المميزة على المستوى الدّوليّ. كما تلقّت ميداليّة "الحرّيّة" عام 1985 من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وهو أرفع وسام مدني أميركي يمكن أن يحصل عليه إنسان. وفي عام 1996 نالت الأمّ تريزا الجنسية الأميركية الفخرية.

 

 

القلب النابض بالعطاء

 

أكّدت الأم تريزا في كلمتها لدى تسلّمها جائزة نوبل في أوسلو عام 1979 أنّه من الأهميّة بمكان أن نفهم أن المحبّة الحقيقية تؤلم، كما أنّ محبّة يسوع لنا قد آلمته، ممّا يدلّ على أنّ حياتها لم تكن مفروشة بالورود والياسمين بل بالأشواك والصعاب. كانت تضحياتها عظيمة في الدفاع عن البؤس المنتشر في العالم بقلبها النابض بمحبّة الفقير والمريض. وكانت جهودها جبّارة في تضميد جراحات الأجساد والنفوس لكلّ إنسان محروم مُلقى في الأزقّة والأحياء الفقيرة: يطارده الجوع والألم والإهمال.. وتخيّم عليه قسوة القلوب اللامبالية.. وتُرعبه قساوة المجتمع الذي لا يأبه لمعاناته، وشبح الوحدة الذي يكويه بنار الفراغ القاتل.. وأجزم أنّ روحها كانت تفرح كلّما تعافى عليل بين يديها.

 

طلبت الأمّ تريزا أن يُكتب في جميع بيوت الجمعيّة كلمة "أنا عطشان": العطش الذي يرمز إلى عطش النفوس للتعزية والخلاص من شوائبها لتصبح جميلة ومقبولة في عيني الله، وعطش لله وحضوره الحيّ والمنير. عاشت الأمّ تريزا بناء على تعاليم السيّد المسيح واتخذتها شعارًا لرهبنتها وطبّقتها بحذافيرها عن طريق عملها الشاقّ المضني في رعاية البائس والعاجز والمريض والمنبوذ والمعدم، الذين حرمهم المجتمع من المحبة والعطف  والاحترام. لذلك نالت مكافأة السماء الكبرى المعَدَّة للصالحين والأبرار.

 

 

من أقوال الأمّ تريزا

 

أدركتُ أنّه حينما أصلّي للمرضى.. أُشفى أنا

أدركتُ أنّه حينما أصلّي للحزانى.. أفرح أنا

أدركتُ أنّه حينما أصلّي للمحتاجين.. أشبع أنا

أدركتُ أنّه حينما أصلّي للصغير.. أنمو أنا

أدركتُ أنّه حينما أبعد عن ذاتي.. أجدك أنت يا ربّ، فأحيا بك.

 

 

خاتمة

 

أمّنا تريزا! صلّي لأجلنا وأستمطري علينا الشفاعات، مثلما تُمطر علينا تريزا الصغيرة زهورات، وتشفّعي فينا كي تُلهمنا العذراء مريم بإرشادات فنتمّمها بصدقٍ وثبات، ولا نحيد عن إيماننا وسط الهرطقات، في دنيا الإلحاد والمجون والعولمات التي تهدف إلى نسف كلّ المثاليّات، والعودة بالبشر إلى عهد التفاهات.