موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
عندما أجبر المسيحيون على دعس صور المسيح بأحذيتهم

إيفيت تان - بي بي سي نيوز :

وصل البابا فرنسيس إلى اليابان حيث زار مدينة ناغازاكي وأعرب عن تقديره لضحايا القنبلة الذرية التي ألقيت على المدينة خلال الحرب العالمية الثانية، ولكنه أعرب عن تقديره أيضًا لمجموعة أخرى من ضحايا المدينة الذين تعرضوا منذ مئات السنين للتعذيب وأجبروا على التواري عن الأنظار بسبب إيمانهم.

ذات يوم وقف رجل متوترا في طابور في انتظار النداء على اسمه ليتقدم، في ما يراقبه مسؤولون محليون وآخرون حكوميون من العاصمة أرسلوا خصيصًا من أجل هذه المناسبة. وأمام الرجل كانت هناك صورة برونزية صغيرة للمسيح على صليب وكان عليه أن يسير بصندله عليها.

لو فعل سيكون قد أعلن أمام الناس تخليه عن إيمانه وسيعيش، ولو لم يفعل فقد يواجه الإعدام أو الصلب أو التعذيب أو يجبر على النزول في ينابيع مياه ساخنة أو يعلق من قدميه. وأي إشارة تدل على التردد قد تكلفه حياته.

وكانت ممارسة السير على صور المسيح ودهسها، التي عرفت باسم فومي، منتشرة على نطاق واسع في مدينة ناغازاكي في القرن السابع عشر.

■ دين "شرير"

وكانت ناغازاكي، المدينة والميناء التي تحظى بأهمية كبيرة في اليابان وكان أبناء المدينة أول من تأثروا بالأفكار المسيحية في عام 1560 تقريبًا عندما وصلت بعثات تبشيرية من اليسوعيين من البرتغال إلى اليابان. وكانت الإمبراطورية البرتغالية حينئذ واحدة من أكبر الإمبراطوريات البحرية في العالم ولديها قواعد في كل مكان من أفريقيا إلى آسيا.

وعملت البعثات على تحول السادة الإقطاعيين في المنطقة إلى المسيحية، وقد رأى بعضهم أن اعتناق دين أجنبي قد يساعدهم في تحقيق ربح تجاري بدعم من البرتغاليين. كما أن العديد من المزارعين العاملين لدى هؤلاء السادة الإقطاعيين تحولوا إلى المسيحية، وبحلول أوائل القرن السابع عشر أصبحت ناغازاكي "روما اليابان".

ويقول البروفيسور كيري باراموري، أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة ايرلندا: "إن ناغازاكي تأسست كمدينة مسيحية، فليس هناك في اليابان ما هو أكثر مسيحية من ناغازاكي".

وفي ذروة المسيحية في المدينة كان بها نصف مليون شخص يعرفون أنفسهم كمسيحيين. ولكن بمرور الوقت توصلت السلطان السياسية في اليابان إلى قناعة مفادها أن الانتشار السريع للمسيحية يشكل خطورة على الحكومة المركزية وبالتالي عمدت إلى قمع هذا الدين.

وقال باراموري: "لقد عملوا على إجتثاث المسيحية، بل والتخلص أيضًا من الأجانب باعتبارهم يمثلون تهديدا سياسيا لأمن الدولة، ومن هنا فإن الأمرين مرتبطان".

ففي وقت متأخر من القرن السادس عشر تم إعدام 26 مبشرًا أجنبيًا صلبًا في ناغازاكي، الأمر الذي مثل بداية حملة اضطهاد استمرت لفترة طويلة ضد المسيحيين.

وفي عام 1614 صدر حظر على المسيحية في اليابان وسرعان ما تم طرد البعثات التبشيرية من البلاد، ومن رفض الرحيل اعتقل أو قتل أو أجبر على التخلي عن دينه، ودخلت اليابان ككل في عصر من العزلة حيث قطعت اتصالاتها مع كافة الدول الأجنبية.

■ مزيد من التعذيب

في عشرينيات القرن السابع عشر قررت السلطات أنه لا يكفي التخلص من القيادات الدينية بل لا بد من اجتثاث جذور هذا الدين من قلوب الناس.

وكان الحل في الممارسة التي عرفت باسم الفومي التي تتمثل في السير بالصندل على صور المسيح أو العذراء، وقد فرضت هذه الممارسة على الجميع دون استثناء في ناغازاكي، وسرعان ما صارت ممارسة سنوية تجرى في بداية كل عام.

ويقول بروفيسور مارتن راموس، أستاذ الدراسات اليابانية في المدرسة الفرنسية لدراسات الشرق الأقصى: "لقد كان الأمر إلزاميًا للجميع، العامة والساموراي والكهنة البوذيين وحتى المرضى، ولأن الصور كانت تمثل للمسيحيين هناك وقتها أهمية بالغة، فبالنسبة للكثيرين منهم كان الرب داخل الصور، فهي الصلة مع الإله، وبالتالي كان السير فوق الصور بالنسبة لهم أمرًا مرعبًا".

لكن في النهاية استسلم الكثيرون وساروا على الصور. ويقول البروفيسور سيمون هول، الخبير في الكاثوليكية اليابانية في جامعة جونشين الكاثوليكية في ناغازاكي: "إذا فحصت إحدى الصور التي مورست عليها الفومي فستجد وجه المسيح ممسوحًا مما يشير إلى العدد الذي لا يحصى من الأقدام التي دهستها".

ومن كان يرفض ممارسة الفومي كان يتعرض للقتل أو التعذيب.

ولم يكن الهدف الأساسي من التعذيب هو القتل وإنما كسر الإرادة ودفعهم لإنكار إيمانهم.

ويقول هول: "في بعض الأحيان كان يوجد طبيب في موقع التعذيب، حتى إذا بدا أحد المسيحيين على حافة الموت يعالجه إلى أن يسترد صحته ثم يستأنفون التعذيب".

■ "مسيحيون سرا"

وقد تظاهر البعض الآخر بالتخلي عن إيمانهم ولكنهم ظلوا مسيحيين سرًا. ويقول هول: "كانوا لدى عودتهم للمنزل يتوسلون للرب أن يغفر لهم، وكان بعضهم يحرق الصندل الذي سار به على الصور، ثم يخلطون رماد الصندل بالماء ويشربونه تعبيرًا عن أسفهم العميق".

ويقول راموس: "ظل هؤلاء يمارسون الطقوس المسيحية سرًا مثل المعمودية ويمنحون أطفالهم أسماء برتغالية مثل باولو وماريو وإيزابيلا ويحتفلون بعيد الميلاد والفصح".

كما أدخلوا أيضًا عناصر يابانية في ممارساتهم لتجنب اكتشافهم.

ويقول البروفيسور مارك مولينز، أستاذ الدراسات اليابانية في جامعة أوكلاند: "في المناولة التي تتضمن الخبز والنبيذ، استعاضوا عن الخبز بالأرز".

كما باتت الإلهة اليابانية ديتي كانون ترمز بالنسبة لهم للعذراء مريم.

ويقول راموس: "انقطعت علاقتهم لمئتي عام بالبعثات التبشيرية الأجنبية، لذلك صارت المسيحية هناك دينًا محليًا للغاية نقلوه للجيل المقبل".

■ الانفتاح مجددًا

بنهاية القرن التاسع عشر انفتحت اليابان مجددًا على العالم الخارجي. وفي عام 1858 تم إلغاء ممارسة الفومي في ناغازاكي. وفي عام 1873 تم رفع الحظر عن المسيحية في البلاد بعد أكثر من قرنين من فرضه.

ويقول مولينز: "عندما فتحت اليابان حدودها مجددًا، ظهر 20 ألف مسيحي من الخفاء رغم أن ممارسة الفومي لم تكن قد ألغيت بعد، مما يرجح أن عدد المسيحيين الحقيقي في ذلك الوقت تراوح بين 20 ألفًا ونصف مليون".

وخلال زيارته لناغازاكي، زار البابا نصب تذكاري لنحو 26 شهيدًا لقوا حتفهم في بداية الاضطهاد.

وما زالت الجماعة المسيحية في ناغازاكي تعد واحدة من أكبر التجمعات المسيحية في اليابان.