موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٨
المثقفون والتراث

د. صلاح جرّار :

أصبحت أصوات الداعين من المثقفين إلى إدارة ظهورنا للتراث عاليةً بصورة لافتة للنظر، وتدعو إلى التنكّر التامّ للإرث الثقافي والفكري والديني واللّغوي والحضاري، من غير أن تفكّر في ما ينجم عن ذلك من مخاطر تهدّد المجتمع وأمنه واستقراره وهويته ووجوده. وهل يريد أصحاب تلك الأصوات والدعوات أن نتلف أعمال المفكّرين والعلماء والأدباء بعد أن يفارقوا الحياة؟ وهل يريد أصحاب تلك الأصوات أن نزيل عن وجه الأرض المباني التاريخية والآثار التي خلّفها السلف، كالذي فعله المحتلّون ومن بعدهم المتطرّفون ثمّ المستبدّون من إزالة آثار كثيرة بالغة الأهميّة من أوطاننا؟ وهل يريد أصحاب تلك الأصوات أن نمسح من ذاكرتنا بطولات الشهداء والأبطال والرموز التاريخية الذين بذلوا أرواحهم في الدفاع عن أوطاننا وعن وجودنا؟ وهل يريد هؤلاء أن نتخلّى عن قيمنا التي تحفظ علينا استقرارنا وأمننا وتعزّز تماسكنا وتلاحمنا وتعاوننا؟ وهل لاحظ أصحاب هذه الأصوات أنّ جميع الظواهر السلبية وظواهر العنف والتطرّف لم يكن لها لتظهر في مجتمعاتنا العربيّة على هذا النحو لولا تراجع القيم النبيلة كالتراحم والتعاون والإيثار وغير ذلك؟ وهل يريدون منّا أن ننسى مئات الآلاف من القطع الأثرية التي سرقها المستعمرون من بلادنا ووضعوها في متاحفهم؟ وهل يريدون منّا أن نكفّ عن استخدام لغتنا وأشعارنا وأمثالنا ومأثوراتنا وقصصنا التي هي سبيل تواصلنا وتفاهمنا وتعبيرنا عن أنفسنا؟

إنّ تراثنا هو طعامنا وشرابنا وزراعتنا وأغانينا وشعرنا وأدبنا وفنوننا وأزياؤنا وتحياتنا وأعيادنا وقيمنا وكلّ ما أنتجه السلف وأورثونا إيّاه، فهل يراد لنا أن نخلع ذلك كلّه، فنصبح بلا لونٍ ولا طعم ولا هويّة، ويكون مآلنا الضياع.

لست أنكر أنّ في التراث شوائب وعليه مآخذ، لكننا لسنا الأمّة الوحيدة التي اختلط في تراثها الغثّ والسمين، بل ربّما كان تراثنا أكثر نقاءً من تراث أمم كثيرة، وبدلاً من أن نتنكر لتراثنا الغنيّ بقيمه ومضامينه، فإنّ علينا أن نسعى إلى غربلته وتنقيته وتهذيبه ممّا خالطه من الخرافات والشعوذات وألاّ نسمح لمثل هذه الشوائب أن تتصدّر هذا التراث أو أن تتحكم في معتقداتنا ومصائرنا.

لكنّ ممّا يثير الدهشة والاستغراب والاستنكار أنّ الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تهذيب هذا التراث وتنقيته والمحافظة عليه بوصفه المكوّن الرئيسي لهويّة الأمّة من المثقفين والمفكرين هم أنفسهم الذين يجحدون هذا التراث برمّته ويدعون إلى الانقلاب عليه والتنكّر له.

إنّ هذا الموقف السلبي المتطرّف من التراث لا يقلّ خطورة عن مواقف المتشدّدين الذين يوصدون الأبواب في وجه أيّ تطوير أو تجديد، فكلا الفريقين خطرٌ على الأمّة وثقافتها وتراثها وهويّتها.

إنّ التعامل العلمي والموضوعي مع التراث كما تفعل سائر الأمم إنّما يكون بإعلاء شأن الصالح منه وتحييد دور الفاسد أو الضارّ لما فيه مصلحة المجتمع والأمّة والإنسانية، ولا بدّ في سبيل ذلك من تطبيق المناهج العلمية الراسخة التي أثبتت فاعليتها وجدواها ودقّة نتائجها، ولا بدّ في تقييم هذا التراث من تحييد المواقف المسبقة والمنحازة والمؤثرات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية وسواها.

أمّا إصدار الأحكام العشوائية وغير المنطقية انطلاقاً من المواقف المتحيزة والمسبقة فإنها دليلٌ واضح على انهزام المثقف وخيانته لدوره ورسالته وعجزه عن القيام بدوره المأمول، والهزيمة الحقيقية والقاصمة للأمّة هي هزيمة مثقفيها.

(الرأي الأردنية)