موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٦ يونيو / حزيران ٢٠١٩
الإيمان بالله في الإنسان

عدنان المقراني :

عادةً ما يوصف الإيمان بالله، بأنه تصديقٌ يوجب العمل، ويحوّل الإنسان باطنًا وظاهرًا. فالإيمان يقتضي بُعدًا أخلاقيًّا عمليًّا، وليس هو مجرَّد نظرية. هذا البُعد يُحِيلنا إلى الجماعة القريبة أو الأمّة، كفضاء جامع مفتوح على الإنسانية. وأحيانًا تتحوّل الأمّة إلى مفهومٍ مُغلَق يدّعي الأفضلية، أو احتكارٍ لِلعلاقة بالله، ومِن ثَمَّ الخلاص. هذا الفهم الإقصائي يؤثّر سلبًا في البُعد الأخلاقي لِلعلاقة بالله، لأنه يحوّلها إلى علاقة استحواذيّة عنصرية تَحكّمية؛ ما يبرّر لاحقًا النَّزَعات السلطوية الإمبريالية.

السؤال هو: كيف نُخلِّص الإيمان بالله -كعلاقة وُجوديَّة أخلاقية- من كلّ ما يتعارض والأخلاق؟

لا بد هنا من البعد الإنساني. فالإيمان بالإنسان، يشكّل جزءًا أساسيًّا من المعادلة الإيمانية. ومن دونه تنهار المنظومة، أو يُصيبها خلل شديد. ولكي يكُون الإيمان بالإنسان فاعلًا، ينبغي تمييزه عن أمرين، هما: الأنا، والجماعة-القبيلة. أمَّا الأنا، فليست الذات الحقيقية للإنسان؛ إنما هي صورة مشوَّهة تدّعي الكمال والجمال والعظمة، وهي عملاق يسعى لزحزحة الحقيقة أو حجْبها. لذلك، فإن الأنا تَحجُبنا عن الإنسان، كآخَر جدير بالنظر والاحترام والمحبة. فالأنانيُّ لا يرى إلَّا نفسه.

التمييز الضروري الثاني، هو التمييز بين الإيمان بالإنسان والإيمان بالجماعة، لا سيّما ضِمن تقليد تاريخي متوَطِّد في النفوس. فالجماعة لها سلطة قاهرة على الأفراد، إلى درجة أنه يُطلب من الفرد أن يضحّي بنفسه من أجل الجماعة. وأحيانًا تكُون الجماعة مجرَّد امتداد للأنا. فإن كان القرآن قد نبّهنا إلى خطر عبادة الأنا في قوله تعالى: {أرأيتَ من اتَّخذ إلَٰههُ هواهُ} [الفُرقان: 43]، فإنه نبَّهنا أيضًا إلى خطر الجماعة، عندما تصبح سُلطةً معرفيّة وتقليدًا مقدَّسًا، يمنعان الأفراد من تحكيم عقولهم وممارسة النقد الذاتي أو الجماعي، بحسب قوله تعالى: {قُلْ إنَّما أعِظُكُم بوَاحدةٍ أَن تقوموا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وفُرادَىٰ ثُمَّ تتفكَّرُوا} [سَبَأ: 46].

التفكير الفردي أو الثُّنائي كفيلٌ بتنمية الحسِّ النقدي، وبالابتعاد عن عقلية القطيع وضغط الجماعة. وقد أدَانَ القرآنُ ما شاع بين بعض الجماعات الدينية المعاصرة والسابقة له، من نَزَعات إقصائية مُجْحفة، ونبَّه إلى خطر الوقوع في الخطأ نفسه: {وقالتِ اليهُودُ ليستِ النَّصارَىٰ علىٰ شَيءٍ وقالتِ النَّصارىٰ ليستِ اليهُودُ علَىٰ شيءٍ وهُمْ يتلُونَ الكِتَابَ كذَلِكَ قالَ الَّذينَ لا يَعلمُونَ مثْلَ قولِهِم فاللَّهُ يَحكُمُ بينَهُم يَومَ القِيَامَةِ فيمَا كانُوا فيهِ يَختَلِفُونَ} [البقرة: 113]. إنَّ عبادة الجماعة مثل عبادة الأنا، توقع العابد في نوع من الوثنية والشرك الخفِيَّين، اللَّذَين من شأنهما تحريف الإيمان عن غاياته الأساسية.

الحلّ الذي من شأنه تخليص الإيمان بالله من آفَتَي الأنا والقبيلة، هو الإيمان بالإنسان كإنسان، بغضّ النظر عن أيِّ اعتبار سوى اعتبار الإنسانية المَحْضة. فالإنسان قيمة عظمى، نَفخ فيه اللهُ من روحه: {ونفَختُ فيهِ من رُوحِي} [الحِجْر: 29]، وخلَقه بيديه {خلَقتُ بيديَّ} [ص: 75]. وفي الإنسان حضور إلهيٌّ ما، خفيًّا كان أو ظاهرًا. ولا يمكن فصل الإنسانيِّ عن الإلهيِّ بأيِّ حال من الأحوال، ولو غاص الإنسان في الأوحال، أو كان مجرمًا أو سفّاحا. وقد يفرّط الإنسان في هذا الشرف العظيم، ويَرضى بحياة القطيع، أو يَنزل إلى ما دون مرتبة الحيوان، من دون أن يزيل تلك النفخة الأصلية الكامنة فيه. فهو لا يفعل سوى أن يغطيها ويَحجبها، تحت ركام من الظلم والظلمات. أمَّا ولِيُّ الله، فهو مَن انزاحت عن قلبه كلُّ الحُجب، التي تمنع الروحَ من التجلي. فكان نورًا يهدي إلى الله.

هذه العقيدة الدينية، لا تُمثّل أساس حقوق الإنسان فقط، بل أيضًا أساس الإنسانية الجامعة، جماعة الجماعات. بل وأبعدُ من ذلك، أنها ضمانة تفعيل الإيمان بالله، ليصبح إيمانًا كَونيًّا عالميًّا. فالذي يؤْمن بربّ العالمين، يؤْمن أيضًا بالإنسان الكَونيِّ، فوق كلِّ الاعتبارات الدينية والثقافية والجغرافية. إنها الأخوَّة الإنسانية العالمية في أسمى تجلِّياتها، والتي تَجمعنا جميعًا. فالإنسانية واحدة، على صورة خالقها الواحد.

إنِ اسْتُحضر هذا المبدأ الإنساني، يتخلّص الإيمان من الأنانيّة والقبَليّة الدينية، فيَدفع إلى محبة الآخر والآخرين، ورؤية روح الله فيهم، وتجلِّياتها في دياناتهم وثقافاتهم، من دون استعلاء أو حسد. أيضًا يعمل هذا الإيمان الإنساني، على إعطاء الجماعة أو الأمّة حجمها الحقيقي، كجزء من إنسانية أكبر وأجمع. فالجماعة في خدمة الإنسانية، وليس العكس. الإيمان بالله تعالى -حتى يكتسب كماله الأخلاقي-، لا بد أن يقترن بالإيمان بالإنسان. فيكُون إيمانًا بالله في الإنسان، وإيمانا بالإنسان في الله.

(نقلا عن ’تعددية‘)