موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

يُنقِذُكَ من فخّ الصّياد

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كنيسة سيدة الوردية - الكرك

كنيسة سيدة الوردية - الكرك

 

الأحد التّاسع والعشرون من زمن السنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. نحنُ اليوم في الثّلثِ الأخير من إنجيلِ متّى، حيثُ المسيح قد دخلَ القُدسَ لِتَوِّهِ. وهي الفصول الّتي تَسبِقُ مُجرياتِ محاكمةِ يسوع، فآلامِه وصلبِه، ثمّ قيامتِه المجيدة. وفي هذهِ الفصول نرى أنّ الأحداثَ بَدَأت تَأخذُ مَنحَنىً تصاعُديًّا، والجميع يَتألّبونَ عَلى المسيح، يريدونَ القضاءَ عليه، كالوحوشِ الضّارية تَسعى وراءَ طريدَتها! وعِندما أقولُ الجميع، فإنّي بذلِك أَعني الخُصماء والفُرقاء. فاليهود على اختلافِ فِئاتِهم الدّينية، وَأَحزابِهم السّياسيّة المتعارِضة في أفكارِها وتوجُّهاتِها، إلّا أنّهم استطاعوا أَنْ يتوحَّدوا كقوّةِ شرٍّ لإهلاكِ يسوع.

 

ففي فَصلٍ سابِق، نَرى الصَّدوقِيّين الّذينَ لا يؤمِنون بقيامة الأموات، خِلافًا للفرّيسيين الّذين يقولون بقيامةِ الأموات، يتأمرونَ على يسوع، الّذي أعلنَ حقيقةَ قيامةِ الأموات، فاللهُ هو إلهُ إبراهيمَ وإلهُ إسحقَ وإلهُ يعقوب، وما كانَ إلهَ أمواتٍ بل إلهُ أحياء (متّى 32:22). أَي أَنّ الفرّيسيّين كانوا مستعدّين للتّنازل عن مبدئٍ إيماني، في سبيل تحقيقِ مَصلحةٍ مشتركة، من خلالِ التّحالفِ مع خُصمائِهم الصّدوقيين، المخالِفينَ لهم جوهريًّا في الإيمان، ضدَّ يسوع الّذي يوائِمهم في الدّعوة إلى قيامةِ الأموات.

 

 واليوم نَرى مِحورَ شرٍّ وتحالفَ خُبثٍ من نوع آخر. فالهيرودُسيّون يتحالَفون مع الفرّيسيين، للإيقاعِ بيسوع، أو اصطيادِه كما جاءَ في النّص. وكلاهُما خصمان في الرّؤية للواقع السّياسي. فالفريسيّون من جهتهم يرفضونَ حُكمَ الرّومانِ، ويؤدّونَ الجزيةَ لَهم أذلّاءَ صاغرين، أمّا الهيرودسيونَ فهم فرقةٌ توالي الملك هيرودسَ الكبير أي تؤيّد حُكم روما، وتدفعُ الجزيةَ عن طِيبِ خاطر، تحقيقًا لمصالِح ومآرِب سّياسية واقتصادية. هذانِ الخصمان وغيرهم، اجتمعوا على المسيح، بالرّغم من اختلافِ المبادئِ والرّؤى، لاصطياده بخبثهم وريائهم.

 

وإذا أمعنّا النّظر نرى أَنَّ كلّ فَخٍّ يختلِفُ عن الآخر، كيف؟ فَفَخُّ الصَّدوقيّين بُنيَ على إنكارِ حَقيقةِ إيمانٍ، أي محاولةِ نَفي القيامةِ من بين الأموات، من خلالِ قصّة الزّوجة والإخوة السّبعة (متّى 23:22-33). أمّا فخُّ الهيرودُسيّين، بالاتّفاقِ مع تلاميذِ الفرّيسيّين، فبُني على شَأنٍ سياسي يتعلّق بدفع الجزية لِسلطة الاحتلالِ الرّوماني أو إحجامِها. وهو شَأن بالِغُ الحساسية عِندَ اليهود. فإنّ أجابَ يسوعُ (بنعم) ينقلِبُ عليهِ الشّعب إذ يُعتبر خائِنًا مواليًا في نظرِهم، وإن أجاب (بلا) يقع بورطةٍ مع السّلطة الرّومانيّة، إذ يُعتبر محرّضًا على الثّورة والانقلاب.

 

ومِن هُنا، أودُّ أن أَربِطَ بينَ كَلِمَتَين أساسيّتين وَردَتا في النّص: كلمةُ (يصطادوا) وكلمةُ (خُبثِهم). هذهِ كلمات مفتاحيّة (Key Words) لفهم إطار النّص. فالإنسانُ الخَبيث هو الإنسانُ الثَّعلَبُ المكّار، الّذي يَسعى دَومًا لإسقاطِ غَيرِه في شِراكِه، للإيقاعِ بِه في شِباكِه، لاصطياد غيرِه بأساليبِه الخَبيثة واللّئيمةِ والخدَّاعة. تَراهُ دومًا يَنصِبُ الفِخاخَ لِغَيره، يَتَرصّدُ هفواتِهم، يَرقُبُ فِعالَهم، لِيلسَع كالعقربِ ويلدغَ كالأفعى، بِأَفكَارِهِ وَنَظاراتِه ونواياه وكلامِه المسموم. يتلذّذُ بألم غيره، ويفرحُ ويشمتُ عند تعَثُّرِ وسقوطِ غيره.

 

خِبرةُ الكتابِ المقدّس تُخبِرُنا أنَّ البارَّ والخَيّر هو إنسانٌ مُحارَب ومَكروهٌ من كِثيرين، وعادة ما يكون عُرضةً للرّفضِ والانتقادِ والطَّعنِ والتّشويه. تعالوا مثلًا نقرأُ عن ألمِ إرميا النّبي: "فقالَ بيتُ إسرائيل: ((هلُمُّوا نتَآمَرُ على إرْمِيا. هَلُمُّوا نَضرِبُه بِاللِّسانِ، ولا نُصْغي إِلى جَميعِ كَلِماتِه))" (إرميا 18:18-19)

 

أمّا في سِفر الحكمة فنرى كيفَ أَنَّ عصابة الأشرار تريد القضاءَ على البار: "ولنَكمُنْ لِلبَارِّ فإِنَّه يُضايِقُنا: يُقاوِمُ أَعمالَنا، وَيلومُنا على مخالَفاتِنا لِلشَّريعة. لأَنَّ سيرَتَه لا تُشبهُ سيرَةَ الآخَرين وسُبُلَه مُختَلِفة، ويَتَجَنَبُ طُرقَنا تَجَنُّبَ النَّجَاسات. فَلْنَمتَحِنْه بالشَّتْمِ والتَّعْذيب، لِكَي نَعرِفَ حِلمَه ونَختَبِرَ صَبرَه" (الحكمة 12:2-20)

 

وفي سفر يشوع بن سيراخ، يُعطي هذا الحكيمُ الأبرارَ هذهِ النّصائِحَ الاستعدادية قائِلاً: "يا بُنَيَّ، إِن أَقبَلتَ لِخِدمَةِ الرَّبِّ، فأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلمِحنَة. أَرشِدْ قَلبَكَ واصبِرْ، ولا تَكُنْ قَلِقًا في وَقتِ الشِّدَّة. مَهْما نابَكَ فاْقبَلْه، وكنْ صابِرًا على تَقلُباتِ حالِكَ الوَضيع. تَوَكَّلْ علَيه يَنصُرْكَ، وقَوِّم سُبُلَكَ، وأجعَل فيه رَجاءَكَ. فإِنَّ الرَّبَّ رؤَوفٌ رَحيمٌ يَغفِرُ الخَطايا، ويُخَلِّصُ في يَومِ الضَيق" (يشوع بن سيراخ 1:2-18)

 

خبرتُنا أيضًا في الحياة، تُعلِّمُنا أن الإنسانَ المستقيم الصّادق هو إنسان مُحارَب، عُرضة للاصطياد، عُرضَة للظّلم، عُرضة للتّبلّي، عُرضة لجورِ النّاس، عُرضَة للازدِراء. إرميا عانى من هذا الظّلم من قِبلِ خاصّتِه، فنراه يقول أيضًا: " أَيُجازى الخَيرُ بِالشَّرّ؟ فإِنَّهم حَفَروا حُفرَةً لِنَفْسي. أُذْكُرْ أَنِّي وَقَفتُ أَمامَكَ، لِأَتَكَلَّمَ مِن أَجلِهم بِالخَير، وأَصرِفَ عَنهم غَضَبَكَ" (إرميا 20:18).

 

الإنسانُ البار يُعاني من تكالب الظّروف، من الأبوابِ الموصدة، والنّوافذ المغلَقة. من رياح الواقع المخالِفة، من قوى الشّد العكسي. يُعاني من كثيرين يحفرون له حُفرًا، وخصوصًا مِمّن قد أَحسن إليهم يومًا بدراية وبغير دراية، وأدّى لهم المعروف مرارًا وتكرارًا، ويضعون أمامَه مئات الحواجزِ والعَراقيل، لكي يتعب ويُحبط ويسقط، ويرتدّ عن طُرقِه ومساعيه. البارّ مُحاط دومًا بقوّات ظلاميّة يطلبونَ الشّر له، ويُحضّرون مفاجآت غير سارّة، للقضاءِ عليه وتحطميه معنويًّا على الأقل. الإنسانُ البار أشدُّ عرضة لأن يتألّم ويُحارَب، ولأن يُضطَهد ويُعذّب، فما من تلميذ أسمى من معلّمه. ولكن: "خيرٌ لنا مِن أن نتألّم ونحن نعملُ الخير، مِن أن نتألّم ونحن نعملُ الشّر" (1 بطرس 17:3).

 

وإن كانت خبرةُ الكتاب المقدّس تعلّمنا أنّ الألمَ والمعاناة، جزء لا يتجزّأ من حياة البار، فكذلك هو يُعلّمنا أنّ اللهَ حمى البار، حصنُه، قوّتُه، وخلاصُه.  هو مُعتَصَمٌ لَنا وعِزّة، نُصرةٌ نَجِدُها دائِمًا في المضايق (مزمور 2:46-4)

 

لِذلك يا أحبّة، لم أجد أجملَ من المزمور الحادي والتّسعين لأرفعَه كصلاة ثقة ورجاء، بالرّغم من كلِّ الظروفِ الصّعبة، وَوَسط كلِّ الشّباك والكمائن والفِخاخ. صلاة أرفعُها باسمِ كلِّ بارّ مُعذّب، كلِّ بارّ مُلاحَق من وحوشٍ مُفترِسة، كلِّ بارٍّ وقع في مصائد الأشرار، يتألم من ظلم الآخرين وخبثِهم ومكرِهم وفسادِهم، وخصوصًا من جور الّذين أحسنَ إليهم ولا يزال. أدعو كلَّ بارٍّ يقرأُ أو يسمع هذهِ الكلمات. أن يرفعَ الابتهال معي، قائلًا:

 

"السَّاكِنُ في كَنَفِ العَلِيِّ يَبيتُ في ظلِّ القَدير، يَقولُ لِلرَّبِّ: ((أَنتَ مُعتَصَمي وحِصْني، إِلهي الَّذي علَيه أَتوكَّل)). هو الَّذي يُنقِذُكَ مِن فَخِّ الصَّيَّاد، ومِنَ الوَباءَ الفتّاك. يُظَلَلكَ بِريشِه وتَعتَصِمُ تَحتَ أَجنِحَتِه، وحَقُّه يكونُ لَكَ تُرسًا ودِرْعًا. فلا تَخْشى اللَّيلَ وأَهوالَه، ولا سَهْمًا في النَّهارِ يَطير، ولا وَباءً في الظَّلامِ يَسْري، ولا آفَةً في الظَّهيرةِ تَفتُك. يَسقُطُ عن جانِبِكَ أَلْفٌ وعن يَمينكَ عَشَرَةُ آلاف، ولا شَيءٌ يُصيبُكَ. حَسبُكَ أَن تَنظُرَ بِعَينَيكَ، فتُعايِنَ جَزاءَ الأَشْرار، لأَنَّكَ قُلتَ: ((الرَّبُّ مُعتَصَمي)) وجَعَلتَ العَليً لَكَ مَلْجَأً. الشر لا يَنالُكَ، ولا تَدْنو الضَّربَةُ مِن خَيمَتِكَ: لأَنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ، لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ. تطأ الأَسَدَ والأفعى، تدوسُ الشبلَ والتنين. أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي، أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه، أَنَّا معه في الضِّيقِ، فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي" (مزمور 91).