موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ يوليو / تموز ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "القلم"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
درسٌ بليغ يعلّمني إيّاه اليوم قلمي

درسٌ بليغ يعلّمني إيّاه اليوم قلمي

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحًا وخاليًا من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقًا واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات من "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

غريبٌ أمر قلمي! فهو أصمّ أخرس، أُمّيٌّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة أو الحساب، ويجهل الإنكليزية والفرنسية وجميع اللغات الأوروبية كل الجهل، ولا يميّز بين الشعر والنثر، ولا يعرف معنىً للرموز الكيميائية، أما المعادلات الجبرية والأشكال الهندسية فإنه لا يفهم منها شيئًا مطلقًا. وهو، فضلاً عن ذلك، لا يتفاهـم، فكيف الوثوق به؟ وكيف أُسِرُّ له بجميع أسراري وهواجسي وأفكاري، وأبوح له بمكنونات قلبي ليدوّنها؟ وعندما أفكّر مليّاً في هذا الأمر، أجد أن قلمي لا يُسدي لي خدماته الجليلة إلاّ لكونه أُمّيّ وعديم الفهم. فلو كان قلمي يملك لغةً خاصة وأبجديةً خــاصة وأفكارًا خاصة به، لأصبحت الكتابة به حربًا سجالاً، والتفاهم مستحيلاً، ولكان الجدال بيني وبينه أبديًا ومضيعةً للوقت.

 

عندما أريد أن أكتب بالعربية، يتّجه قلمي من اليمين إلى اليسار. أريد الآن الكتابة بالإنكليزية فإذا بقلمي يتّجه من اليسار إلى اليمين مبتدئاً بالصفحة الأخيرة. عندما أضعه على الطاولة لا يعترض، وعندما يرسم غالبًا ما تكون رسومه طريفةً وجميلة. شرطٌ واحدٌ مطلوبٌ من قلمي: ألاّ يكون رأسه المدبب رفيعًا أكثر مما ينبغي، ولا غليظًا أكثر مما ينبغي، مما يسهّل له الكتابة بدون مقاومة تُذكَر، لأني لا أتسامح معه أبدًا إذا تلكّأ أو تردّد. وهذا ما يبتغيه كبار زماننا ورؤوساء دنيانا أن يصوغوا بشرا على قدر قاماتهم ومصالحهم ليكونوا لهم من الخاضعين ومن المطيعين لاجل دنيا الزمن وحقيقة الدنيا المزيفة.

 

يا سيدي، إنه لَدَرسٌ بليغ يعلّمني إيّاه اليومَ قلمي. فأنا لستُ بحاجة إلى فلسفة أو إلى العلل الأولية لكي أفهمكَ. بمجرّد أن أنظر إلى القلم بين أطـراف أصابعي، أدرك حالاً ما هو الدور الذي يجب عليّ أن أقوم به "وأنا بين يديكَ" (مز 31) كما على الصليب. يا سيدي، ليس لديّ أفكار تختلف عن أفكارك، ولا أبجدية تختلف عن أبجديتكَ. إن النشيد الإلهي الذي أتلوه منذ ولادتي، إنما أنتَ الذي وضعتَه ولحَّنتَه. كي أنشده. وإزاء حكمتكَ المبدعة، أنا أيضًا لستُ إلاّ أُميًّا ساذجًا يا سيدي. لا أعرف المصطلحات التي تخوّلني التحدث عن الألوهية وعن اللامتناهي ولا عن أسرار الوجود. وخوفي من أنّ الايمان اليوم هو ارادة دنيانا وعولمة زماننا وليس حقيقة عقائدنا.

 

وما نتداوله أحيانًا أنا وأقراني من حِكَم بشرية، وكتابات روحية ومقالات شرتونية، إنما هي إفرازات جهالتنا وموتنا وحنيننا إلى الخلود، بينما الحكمة الأزلية نابعة من كيانكَ أنتَ وحدكَ يا الله! بشرط أن أكون في تماسٍّ معكَ، فباستطاعتي أن أخلق للبشر أعظم الآمال، بدل اصدار اوامر من اجل الطاعة، أو أن أزرع بينهم حقائق لم يكتشفها أحد ولم تخطر على بال إنسان، على غرار قلمي الذي يكتب بالفرنسية أو الانكليزية، وهو لا يعرف منها حرفًا واحدًا. أنتَ، يا إلهي، الذي أوصيتَنا مرارًا أن نبقى متمسّكين بكَ "إذا ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم" (يو 7:15)، وليس بغيرك، وإن كانوا اساتذة الادراك وفطاحل المسيرة والعلم. فإذا أردنا أن تكون أنتَ أيضًا معنا. فلأنك أنت الحقيقة بالذات واياك ينشد قلمي.

 

ولكن القلم متنــاقض يا سيدي، فهو يجمع ما بين الطاعة والتمرّد. وقد تكلّمتُ عن الطاعة المتمثلة بطرفه العريض حيث أقبض عليه جيداً وأُديره كما يحلو لي، فهو مطيع لي ولا يعصي لي أمراً. أما جهته الرفيعة المدبَّبة فهي تناقش وتنتقد وتهجوني أحيانا وتتمرّد عليّ بكل صلافة وصفاقة. هكذا أنا أيضًا عندما أتوجه إلى البشر، غالبًا ما ألاقي النفور بسبب مصلحة أو غرور في تدمير الاخر، فهم عندما يحاولون التنصّل من الأحكام السماوية، والابتعاد عن الأحكام الإلهية، يفسدون ويكرهون ويُرَكبنَّ مصالحَهم بحيل شتى وطرق عديدة، من أجل براءَتهم، وهذا مسلكهم من اجل احكامهم الدنيوية. في هذا ما يثبّط عزيمتي، فأعيد الكرَّة ثانيةً وثالثةً، إلى أن أجد الحل عندما أتذكر وصيتك يا سيدي، "وصية المحبة"، "أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببنكم" (يو 34:13). والتي ناديتَ بها. ولأن البشر مهما بلغتْ جهالتهم وأطماعهم وعنجهيّتهم، سأبقى أحبّهم لانك أنت أوصيتَني يا سيدي، وعبر وصيتك أعرفهم جيدًا، وأعلم أنني واحد منهم، خاطئ مثلهم، وجعلتني أن أكون كلمة، في قلمٍ، كي أكتب "أغفر لي يا سيدي أنا الخاطىء فارحمني" (لوقا 13:18). نعم وامين.