موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٩ مايو / أيار ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "الحمام"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
ولأن المحبة بسيطة جدًا، فإنها اقترنت مع بساطة الحَمَام، مع الروح القدس الذي هو نفسه محبة

ولأن المحبة بسيطة جدًا، فإنها اقترنت مع بساطة الحَمَام، مع الروح القدس الذي هو نفسه محبة

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات من "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

لم يكن ذلك الذي نزلَ عليكَ إبان معموديتكَ يا سيدي، صورةً لحمامة أو شبهاً لها، بل كان"حمامة حقيقية بلحمها وعظمها" (مرقس 10:1). وبعد أن قامت بمهمتها عادت إلى عناصرها الأولية كبقية الطيور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اختار الثالوث الأقدس الحَمَام بالذات للقيام بهذه المهمة الجليلة والخطيرة؟. لنتصفّح الكتاب المقدس ونعدّد بعض الأدوار التي قام بها الحَمَام على مدى مراحل الوحي الإلهي: فهذا نوح يبعث من نافذة سفينته "حمامةً" (تك 6:8-7) تعود بعد فترة بغصن أخضر في منقارها علامةً على انحسار مياه الطوفان. وهنالك الحمامتان الصغيرتان اللتـان قدّمتهما مريم العذراء عند ختان المسيح (لو25:2). ونشيـد الإنشاد الذي يتغنّى بترانيم الحَمَامات (نشيد الاناشيد 12:5) وعلى مدار العصور، أضاف المسيحيون صفاتٍ جميلة ومحبَّبة للحَمَام فقالوا: إنه يسبح في الماء ليتجنب البواشق والعقبان، وهذا دليل على امتلاكه فضيلة الفطنة. وإنه عديم المرارة والصفراء، وهذا درس بليغ وقاسي ضد المنافقين والحاقدين ووأصحاب المصالح والمحسوبيات. وقالوا أيضاً أن غناءه شديد الشبه بالتنهّد والمناحات وهذا ما يذكّرنا بحزن الخاطئ على آثامه وتوبته إلى الله.

 

كل هذه الأوصاف والتشابيه وغيرها، ولكن بدلاً منها أنا أفضّل قولكَ المقتضب والبليغ يا سيدي:"كونوا بسطاء كالحَمَام". لا أحد يستطيع أن يعلّمنا البساطة مثل كلامكَ البسيط يا سيدي. ولكننا غالباً نميل إلى التعقيدات، وفضولنا الفكري يحاول النبش في الشروح اللاهوتية المطوَّلة والمفصَّلة والمبسَّطة، وهذا ربما دليل على أن الخطيئة الأصلية كانت الاقتراب من "شجرة المعرفة"( تك 17:2)،  أكثر مما ينبغي. أنا لا أريد البحث في الكتب والمجلدات، بل أفضّل السير جنباً إلى جنب مع المخلوقات البسيطة متوجّهاً معها نحوكَ يا سيدي، لأن في كل مخلوق يوجد هدف وغاية، وفي كل هدف توجد نهاية بسيطة. لكنّ المسالك المتشعبة التي تؤدي إلى الهدف تكون عادةً متشابكة مشوَّشة ومتداخلة، وأخشى أن أضيع بين متاهاتها. وأبسط حلّ يا سيدي هو البقاء حيثما تطلب مني أن أكون. فإذا كنتَ تريد مني البقاء، فلأبقى بكل بساطة مثلما يمكث الحَمَام في عشّه محتضناً صغاره. وإذا كان الأمر يتطلّب الذهاب والعودة، فلأفعل أيضاً ببساطة مثلما يفعل الحَمام الذي يقطع المسافات الشاسعة جداً ويدور عدة دورات حلزونية في الآفاق، ثم ينسلّ مثــل سهم بخط مستقيـم عائداً إلى عشّه، غير مكترث بالعوائق والحدود.

 

إن ما يُفسد علينا أمورنا يا سيدي، هي ظنوننا وحساباتنا التفصيليـة في تحقيق مسيرة مصالحنا المزيفة وحقيقة وجودنا،في اختيار جميع أعمالنا ومقاصدنا على ضوء نتائجها، أو باختصار هو "عدم ثقتنا بالله" (متى 20:17). وغالباً نتصرف مثل السبّاحين المنهمكين بتحريك أيديهم وأرجلهم وينسون أنفسهم مما يؤدي إلى سقوطهم في قعر المياه، فيغرقون. لذا لندرك جيداً إن هفوتنا الكبرى هي أننا نفكر بالنجاح أكثر مما نفكر في الأعمال نفسها، وكثيراً ما ننسى الحكمة القائلة "الإنسان يقرّر والله يدبّر". إننا نركض وراء التصنّع والتفنّنات، ونخال أن الارتجال هو نوع من الهمجية، بينما هو قمّة البساطة والكمال، ومعتقدين أن الأشياء كلما ابتعدت عن سذاجتها الطبيعية كلما عظمت قيمتها. ولقد كنتَ في حياتكَ على الأرض يا سيدي تلبس "قميصاً أقتسمه الجنود بينهم" (متى 35:27) بسيطاً دون خياطة ولا أزرار وكان يناسبكَ جيداً ويليق بجسدكَ المقدس!

 

هذا السعي البشري المحموم وراء الزخرفة والنزيق، وراء الأزياء والكماليات، وهذا الكرّ والفرّ في أنواع الفنون، أدّى إلى ابتعاد الإنسان عن بساطة المخلوقات كما خلقها الله، لا بل إلى ابتعاده عن الله نفسه!. بسبب أنانيته وكبريائه وغروره ، وإننا نعلم أنّ فن الرسم والنحت مثلاً تحولا تباعاً وبسرعة خارقة من الفن التقليدي إلى الفن البيزنطي ثم الباروكي فالسريالي ثـم التكعيبي والتشكيلي والواقعي، وأخيراً وليس آخراً إلى مدرسة الوحوش!!.

 

نحن نعتبر الناس البسطاء في حياتهم وفي فنهم أناساً سذَّجا متخلّفين لا بل أغبياء. ولقد قلتَ يا سيدي: "طوبى للمساكيـــــن بالروح!" (متى3:5). لا فقط هذا، فلقد أمعنّا في تحقيرنا حتى "طيبة القلب" و"سلامة الطويّة" و"صفاء السريرة"، وبتنا نعتقد أن الناس الأذكياء هم الذين يفكرون كثيراً، لا بل هم الذين يستخدمون أدمغتهم في النبش في أفكار الآخرين وأعمالهم وتقليبها على جميع وجوهها وجوانبها، واستخلاص منها ما ينسجم وما لا ينسجم مع أذواقهم وأطماعهم وأنانيتهم... وبات الذكاء مرادفاً للدهاء والاحتيال... الإنسان الذكي والفاسد هو الذي ينتقد كل شيء، ويدعوه الناس عبقرياً، بينما هو في الحقيقة مخادع وماكر، والدنيا مليئة بهم بل وما أكثرهم. فالأفكار التي لا تؤدّي إلى  البساطة والانسجام ما هي إلا أفكار جهيزة، لأن المحبة هي واسعة وبسيطة معاً، ولأن المحبة تمتصّ جميع إفرازات الأرض وشوائبها وأمراضها وتزيلها من الوجود. كما انّ الكون لا يستقرّ إلاّ على كلمتين فقط هما: "المحبة" و"البساطة"، ولا وجود بينهما موقع للتساؤلات والمباريات، لا داعٍ للنبش والتفكير الطويل للتثبّت من الحقيقة وتمحيص صحّتها، ولا حاجة للأضابير ولا للشهود، ولا حاجة لموازين المنطق والجدل للمقارنة بين الموضوع والنقيض.

 

هذا هو معنى المحبة، إنها "البساطة- الوداعة- المتناهية" (متى 16:10) إنه الحمام، إنها الحقيقة المكشوفة والمعروفة، فالله أحبنا ببساطته وليس بكبريائه، وفي الاتحاد معه عن طريق المخلوقات، وبساطُته هي حقيقة روحه". ولأن المحبة بسيطة جدًا، فإنها اقترنت مع بساطة الحَمَام، مع الروح القدس الذي هو نفسه "محبة"، إنه حقيقة الله، بل إنه الله. نعم انه الاقنوم الثالث من الثالوث المقدس، به أؤمن وبه أحيا. نعم وامين.