موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٨ أغسطس / آب ٢٠٢٠

لِيُصَلّي في العُزلَة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
العُزلة المصلّية ترفعنا إلى العُلى، تجعل قلوبَنا لدى الرّب، تجعل أفكارَنا عندَ العَلي

العُزلة المصلّية ترفعنا إلى العُلى، تجعل قلوبَنا لدى الرّب، تجعل أفكارَنا عندَ العَلي

 

كرزة الأحد التّاسع عشر من زمن السنة-أ

 

أيها الأحبّة، بعدَ أن أَشبعَ يسوعُ الجموعَ في إنجيل الأحدِ الماضي، وَاطمَأنَّ أنّهم أَكَلوا حتّى شَبِعوا، وَأَخَذوا حَاجتَهم من الطّعام. نراهُ في إنجيل هذا الأحد يَصرِفُهم، ثمَّ يصعدُ الجبل ليُصلّي في العُزلَة. والعُزلة كانت من الّلحظاتِ المهمّة في حياة يسوع. نعم، لقد خالطَ الجموع، كَلَّمَهم، أجرى لهم المعجزات، شفى مرضاهم، أقامَ موتاهم، لَبَّى كثيرًا مِن مَطَالِبهم وَحَاجاتِهم الماديّة والرّوحية. وفي نفس الوقت، كَانَ يَأخذُ لِنَفسِهِ أوقاتًا خاصّة من الصّمت والسّكون، يعتزِلُ فيها كلَّ شيء، وكلَّ إنسان، لِيَدخُلَ في صلاة صامتة، في تَفكير، وفي تأمّل.

 

أوقاتُ العزلة هي أوقات صفاء الذّهن وهدوء الفِكر، هي أوقات سكينة القلب وسلامِ النّفس. فالعالمُ بما فيه ومَن فيه، مَليء بالحركة، مَليء بالضّوضاء، مليء بالأحداث، مليء بالمناسبات والانشغالات، مَليء بأشكال مُختلِفة من الإزعاج والتّشويش والصّخب، مليء بأمور توتّرُنا وتتعِبُنا وتُقلِقُنا، وأحيانًا تُدخلُنا في حالة من الاكتئابِ والإحباطِ والقنوط. في هذا العالم المتحرّك بسرعة، في عصر العولمة، في عصر استهلاكي مُتَطلِّب، في عصر مَليء بالإخبار والمعلومات. عالم يَستَنزِف منّا الكثير من الجهد والطّاقة، يضعنا تحت ضغوط جسدية ونفسيّة هائلة.

 

نحن بحاجة إلى أوقات من العُزلة الذّاتية، على مِثال يسوع. عزلة نختلي فيها النّاس، والحياة اليوميّة والأعمال المعتادة. نختلي مع أنفسِنا، نراجع ذواتنا، نتوقّف قليلًا للرّاحة والهدوء. يقول الأديب الأمريكي ارنست همينغوي: (العُزلة وطن للأرواحِ المتعَبة). كلُّنا أرواحُنا متعبة، أفكارُنا مُثقَلة، قلوبُنا مَهمومَة، بالُنا مشغول، بماضي أو بحاضر أو بمستقبَل. نحن أيضًا، كمؤمنين، بحاجةٍ أعظم إلى عُزلة نختلي فيها مع الله. فاللهُ وَطنُ المؤمن، وخصوصًا المتعب. "تَعالَوا إِليَّ جَميعًا أيُّها المرهقون المثقلون، وأنا أريحُكم" (متّى 28:11). نحتاج إلى عُزلة لنُصلّي، نتأمّل، نُفكّر، نُقَيّم مسيرة الإيمان. بحاجة إلى أوقات نُناجي، نبتهل، ونَندم. يقول السّيد: "فإذا صَلّيتَ فَادخُل حُجرَتَك وأغلِق عليكَ بابَها، وصَلِّ إلى أبيكَ الّذي في الخُفية" (متّى 6:6). العُزلة المُصَلِّيَة هي فن من فنون الحياةِ الرّوحية، قليلونَ مِن يُتقنونَها!

 

نحن نملك الوقت لكلِّ شيء، ولكنّنا لا نملِكُ الوقت لأنفسِنا، للجلوس بهدوء ومراجعة ما فينا، للغوصِ في أعماقِ النّفس، لكي نكتشِفَ ذواتنا على حقيقتِها! ربّما لأنّ البعض يخاف أن يدخلَ في ذاتِه، يخاف أن يسبِرَ أغوارَه، ويعرِف ما فيه ومَن هو. يخافُ مِن لحظات الصّمت، حتّى لا يكتشفَ مَسَاوِءَه، ولا يُفكِّرَ في عيوبِه، أو يدرِكَ كَم هو كائِنٌ ضعيف، ويبقى يعيش في حالة من الوهم والغرور. لذلك، الّذي يعيش في صَخب دائم، في حركة دائِمة، يظلّ إنسانًا سَطحيًّا، لا عُمقَ له، لأنّه لا يعرف ما في ذاته.

 

أكبرُ مِثال على رفضِ الإنسان المعاصِر للعُزلة والصّمت، هو الإدمان المَرَضي على الهواتِف النّقالة، الإدمان على وَسائِل التّواصل، الإدمان على الألعاب الالكترونيّة، الإدمان على الأراجيل والسّكر والكحول، الإدمان على المخدّرات... كلُّها وسائل من خلالها، الإنسان يبحث عن أمور يُشغِل بها ذاتَه، أو يُغيّب بِوَاسِطتِها فكرَه وقلبَه، لأنّه لا يريد أن يَصمت ويهدئ ويُفكّر، فيمن هو حقًّا وما هي حقيقتُه. فَنَفسُ الإنسان مُرعِبَة للكثيرين، وَكَهفٌ مظلم لا يجرؤ الكثيرون على الدّخول إليه.

 

يُقال أنّ الشّاعر أبو مُليْكةَ العبسي المعروف بالحطيئة، كانَ شاعرًا سليطَ الّلسان كثيرَ الهجاء، لم يَسَلَم من هِجائِه أحد، حتّى أنّه هَجا نفسَه مرّة. فَقد كان دميم الوجه قبيحَ المنظر. فَنَظرَ مرّةً صورةَ وجهِه في حوضِ ماء، فلمّا عَرف مِقدارَ قُبحِه، قال يهجو نفسَه:

 

أَبَتْ شَفَتَاي إلّا تَكلُّمًا بِشَرٍّ فَما أَدْري لِمَنْ أَنا قَائِلُهُ

 

أَرى لي وَجهًا شَوَّه اللهُ خَلْقَهُ فَقُـبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ

 

الحُطَيئة كان قادرًا على معرفةِ نَقائِصِهِ والاعترافِ بها، عندما نَظرَ في حوضِ ماءٍ هادئ. فهل أنتَ بِدَورِكَ قادرٌ على معرفةِ نقائِصِك، والاعترافِ بها، على الأقل، مع رَبّك وفي قرارةِ نفسِك؟!

 

يا أحبة، يسوعُ جعلَ لنا من نفسِه قدوةً في الصّمت، ومثالًا في ضرورة العزلة. يسوع عرفَ أن يعتزِلَ ليس فقط الجموع، بل وتلاميذَه أيضًا الأقرب إليه، عند الحاجة. عندَ دُنوّ ساعة آلامه، اعتزلَ الكُل لكي يُصلّي، وفي الصّلاةِ وجدَ القوّة والاستعداد لِما هو آتٍ من محنة عَصيبة. العزلة المصلّية، الخلوة للصّلاة، تُعطي المؤمن نوعًا من الاستعداد والتّهيؤ لما هو قادم، خصوصًا عندما يكون الحدث جسيمًا وثقيلًا.

 

في سنوات التّحضير في إكليريكية بيتَ جالا كان هناك ما يُدعى بالصّمتِ الكبير (Grande Silence) وهي ساعةٌ من الّليل يُمنع بعدها جميع أشكال الحديث والتّواصل، حتى صبيحة اليوم التّالي. اليوم أُدرِك أهمّية هذا الصّمت، لأنّه علّمني الكثير، وَسَاعدني لأتكّيفَ مع ظروفٍ ومناطِق وأشخاص، وَاتحضّر لمناسبات، وأتهيّأَ لأحداثٍ صَعبَة وعاصِفة.

 

يقول الفيلسوفُ الرّوماني سينيكا: (ما كنتُ قَطُّ بينَ النّاس، إلّا عُدتُ إنسانًا مُنتقصًا). أحيانًا كثيرة هذا صحيح. فمعظمُ جَلساتِنا وأحاديثِنا هي عبارة عن سلسلة لا منقطعة من النّميمة وذمِّ الآخرين والبحثِ عن عيوبِهم، أو فقط للسّخرية والتّهكم وأمورٍ أخرى مُضرّة بلا فائدة! العُزلة نعمة في هذا العصر، والقليل يملِكُها ويحوزُها. والصّمت مِصفاة للنّفس، يُطهّرُ ما عَلِق فيها من شوائب.

 

يسوع يا أحبّة، عندما كان يعتزِل الجموع، كان يصعد الجبل. كان يقوم بنوع من الارتقاء، بنوع من التّجلي. ففي العزلة تتجلّى النّفس مع خَالقِها. العُزلة المصلّية ترفعنا إلى العُلى، تجعل قلوبَنا لدى الرّب، تجعل أفكارَنا عندَ العَلي. تجعلُنا مثل يسوع فوق الجبل. وعندما تكون فوق الجبل، عندها تستطيع أن ترى نفسَك بشكل أفضل، أن تُقيّم أمورَك ومسيرتَك، لكي تُقوّم وتُحسّن ما أعوجَّ فيك وتُرمّم ما أصابَه العَطَب.

 

قولٌ شَائِع، لَا أدري صِحَّةَ نَسَبِه، ولكنّه أعجَبَني، ورد فيه: (يأتي على النّاسِ زمانٌ، تكونُ العافيةُ فيهِ عشرة أجزاء: تسعةٌ منها في اعتزالِ النّاس، وواحدةٌ في الصّمت).