موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٢ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

لنمنح الحياة لقاءً جديدًا

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
لأن الدينونة لا ترحم من لا يرحم، فالرحمة تنتصر على الدينونة

لأن الدينونة لا ترحم من لا يرحم، فالرحمة تنتصر على الدينونة

 

لا يختلف اثنان على أن الحكم المسبق على الآخرين دون معرفة (تجربة) شخصية أو دون التعامل المباشر معهم أو حتى دون معاشرتهم هو من أكثر الأمور ظلمًا وانتشارًا. فسلوكنا الإنساني قد يكون أحيانًا فيه موضع من الشبهات وفيه من التعقيدات بحيث نقول قولاً قد نتفاجأ بأنه عكس ما توقعناه عند إدراكنا للحقيقة عن كثب بعد حين. فالدماغ البشري مجبول على إصدار الأحكام وتحديداً المسبقة منها، ومن النادر جداً أن نجد شخصاً يلتقي بآخر دون تقييم أو تفسير لتصرفاته، فتلك جبلة راسخة في الإنسان منذ خلقته.

 

والحكم المسبق له إحتمالان، إما أن يكون:

 

حكمًا إيجابيًا.. لأن ما سنكتشفه لاحقًا يحمل مضمونًا سلبيًا لم يتوقعه حكمنا الإيجابي ليكون على هذا النحو، فنصاب بالإحباط، لأننا كنّا نتمنى أن تكون الحقيقة إيجابية مثل توقعنا.

 

حكمًا سلبيًا.. بحيث نكتشف العكس بعد أقترابنا من الحقيقة، وحينها نشعر بالندم لأننا قد ظلمنا إنساناً، وقلنا فيه عكس حقيقته الإيجابية.

 

وشتان ما بين الإحباط والندم، لأن الإحباط هو نتيجة لـ "خيبة الظن" مع تمنيات أن يكون الواقع أفضل بكثير، أما الندم كتحصيل حاصل لـ "سوء الظن"، فهو أقسى وأصعب على الإنسان، لأنه قد يكتشف أو سيدرك لاحقاً بأنه ظَلَمَ واقعاً، سواء كان هذا الواقع إنساناً أو تصرفاً أو موقفاً. وغالباً ما تصاحب الحكم السلبي المسبق نوايا غير طيبة، عكس الحكم الإيجابي المسبق، الذي تصاحبه نوايا طيبة. وقد تكون التوقعات وفق معطيات آنية، أحداث مربكة، قراءات متسرعة، إنفعالات دفينة، أو كنتيجة لعدم فهم الكلام وترجمته بوضوح، أو لتأثير تدخلات أشخاص "الطرف الثالث"..!!! وهكذا تأتي النتيجة معاكسة تماماً. فالرب يسوع يرشدنا دوماً بوصيته العظمى بـ"المحبة": محبة الله أولاً والقريب ثانياً. وبالتالي يريدنا أن لا نعطي حكماً بإدانة القريب: "أحب قريبك مثلما تحب نفسك" (متى 22: 38).

 

فيا حبذا لو نتمسك ونتسم بالحكمة كي لا نحكم على الأمور الغير واضح نيتها، كما لا نحكم على الواضح منها أيضاً، وهذا ما يؤكده لنا الرب يسوع في تعليمه: "لا تدينوا لئلا تدانوا" (متى 7: 2). فالمسيح قد حارب بشدة الإدانة والإهانة والنفاق والغيبة، حينما يحكم الإنسان على غيره قبل أن يحكم على نفسه. ينتقد غيره على أخطائه، بينما هو يرتكب ما هو أشد منها، ويحاول التظاهر بحياة مثالية أمام الناس. لذلك وضع السيد المسيح هذه القاعدة الذهبية: "فكما تدينون تدانون، وبما تكيلون يكال لكم" (متى 7: 2).. فمن أراد أن يصلح من شأن غيره، عليه أن يصلح شأن نفسه أولاً. فلا ينبغي أن يحكم الإنسان على غيره في أمور هو نفسه يستوجب الحكم بسببها أو يفعل ما هو أفظع منها. وهذا ما يوضحه المسيح لنا: "أخرج الخشبة من عينك أولاً، حتى تبصر جيدًا فتخرج القشة من عين أخيك" (متى 7: 5). وبهذا سمح الرب للإنسان أن يخرج القشة من عين أخيه بشرط ألاّ تكون هناك خشبة في عينه أكبر من القشة وتمنعه من الرؤية الصحيحة. لأن التسرع في الحكم على الآخرين والحديث عن خطاياهم والتشهير بسمعتهم وتشويهها هو نوع من الإدانة التي قد تكون ظالمة. فالله لا يريد موت الخاطئ مهما كان خطأه أو خطيئته، بل يريد أن تكون له فرصة جديدة لحياة مشرقة. فقد أراد معلموا الشريعة والفريسيون أن يطبقوا الشريعة التي تقضي برجم الزانية حتى الموت، أما يسوع فكان له رأي آخر لا يشبه إلا قلبه الحنون الذي يمنح للحياة لقاءاً جديداً: "من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بأول حجر" (يوحنا 8: 7). تحنن عليها وإنتشلها من ظلمة البشر وقبورهم، وأسقط الحجارة من مفاهيم أفكارهم وعقولهم وقلوبهم وعيونهم قبل أياديهم: "لأن الدينونة لا ترحم من لا يرحم، فالرحمة تنتصر على الدينونة" (1 يعقوب 13). أنه الحكم المسبق على الآخرين الذي يشعل الفتنة في الأذهان دون مبرر، أما يسوع فقد تخطى الأحكام المسبقة والإتهامات الجاهزة على الآخرين لأنه قلع الشر من جذوره. فلم تعد الزانية هي المرأة الوحيدة الخاطئة هنا بل الجمع كله. فتغيّر المشهد برمته -من الحكم بالموت إلى عرس خلاص- بكلمة واحدة من السيد المسيح: "إذهبي ولا تخطئي بعد الآن" (يوحنا 8: 11).

 

نعم.. لقد سمعت صوت العدالة، لنسمع نحن أيضًا صوت الرحمة. لنذهب ولا نخطأ بعد الآن، وخاصة في هذا الزمن الذي يشهد حالة سائدة فيه من التذبذب في الرأي والموقف. فكلنا ضعفاء ولكن علينا ألّا نيأس من ضعفنا، لأننا ننتمي إلى الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين الخطأة المحتاجين باستمرار إلى مغفرة الله. نحن مدعوين إلى القداسة، والقدوس هو الله وهو وحده يقدسنا، ويلتفت إلينا في وقت المحنة والأزمة وينهضنا من سقطتنا قائلاً لنا كما قال للمرأة الزانية.