موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

قناع الإسخريوطي!

موفق ملكاوي

موفق ملكاوي

موفق ملكاوي :

 

في مرحلة معينة من حياتك، تقرر أنك لست بحاجة إلى أي علاقات خارج العمل والأسرة. لا صداقات ولا غرام ولا معارف. تقول: سأركز في عملي، وعلى أسرتي.

 

المسألة لا تكون سهلة في قرار كهذا، فأنت ستحتاج أحيانا من تفتح له قلبك، وأن تقول له ما لا تستطيع قوله إلى العابرين في حياتك. لكن القرار يسير على خير ما يرام، ولسنوات طويلة.

 

خلال هذه الفترة، تقرر كذلك، أن تنزع عنك قناعك. وأن تعيش قناعاتك كما هي، وأن تتخلص من غضبك الداخلي الذي رافقك عقودا بسبب تشوهات خلتها جذرية، ولم تكن سوى أوهام استطاع ضعفك الإنساني تضخيمها.

 

تقرر أن تعبر عن آرائك ومعتقداتك بصدق وشفافية ووضوح، ومن دون أن تلتفت إلى أنها قد لا تكون محل ترحيب لدى كثيرين، فبالتالي هي قناعاتك التي تتلبسك، ولن تستطيع الفكاك منها بسهولة.

 

تقرر أنك وصلت حد النضج، وأنك تمتلك ثقافة لا بأس بها تضعك في مرتبة أعلى قليلا من مرتبة الغوغاء الذين لا تشبههم، فأنت تكوّن آراءك بالتفكير وليس بالعدوى كما يفعل القطيع.

 

لذلك، تصبح أكثر وضوحا في التعبير عن آرائك ومبادئك، وأكثر مباشرة في التأشير الى ما تحب وما تكره.

 

المشكلة الحقيقية، أنه ما من أحد يريدك أن تكون واضحا ومباشرا وحقيقيا.

 

المشكلة أنه ما من أحد سيقف إلى جانبك إن خضت مجرد نقاش صغير عن حالة الطقس، أو وضع أزمة السير في شوارع عمان، أو أي شيء آخر مهما كان سطحيا وتافها.

 

الجميع يريدونك أن تكون واحدا من ثيران القطيع، وأن تظل قناعا مزيفا يخفي كل ما هو حقيقي لمصلحة إدامة العلاقات جميعها. هم يطلبون ذلك لكي تظل أقنعتهم راسخة. ويصرون على البقاء والتمترس في مناطق الراحة التي لا تجعلهم يصطدمون مع أحد. إنهم يمارسون عملية شبيهة بـ»التقية» التي يكونون خلالها غير مضطرين للمصارحة والمكاشفة، ولا الدخول في جدل حقيقي يكشف القناعات الراسخة، والتي ستغضب جهات ما، وربما يخسرون مكتسبات لا يفكرون بخسارتها.

 

هم يريدون حياة اجتماعية لا يضطرون فيها إلى خسارة أي شخص لأسباب لها علاقة بالقناعات والمنطق، فهم يرون مثل هذه الأمور هامشية، وأقل من أن تؤثر في حياتهم، ليس لأنهم يحترمون التعددية والاختلاف، بل لأنهم يستطيعون أن يمارسوا التضليل والتشبه بقناعات الآخرين، بينما هم في قناعاتهم الجوانية يرفضونها، ويشرّحونها طويلا خلال «استغابات» كثيرة مع أصدقائهم ومعارفهم.

 

هكذا تمارس نسبة كبيرة من الناس حياتها الاجتماعية والمهنية المشوهة. مفصومون يؤسسون لمبدأ «التحوط» المسبق، فيجارون من هم في مقابلهم في جيمع الآراء التقدمية، فيما هم متخلفون ورجعيون وأنانيون ومتطرفون، ولا يؤمنون بأي شيء سوى آرائهم البالية.

 

في الإعلام بشكل عام، وفي السوشال ميديا، والنقاشات العامة، والدردشات الشخصية بين الزملاء والمعارف، تكاد المكاشفات والشفافية تكون معدومة. إعلاميون يكتبون عن المرأة، وفي دواخلهم وحوش آدمية تحتقر المرأة وتنظر إليها بدونية كبيرة، وآخرون ينظّرون في شأن الديمقراطية والحريات، وهم مستبدون وديكتاتوريون، وصنف ثالث يصلي خمسين صلاة في اليوم، لكنها لا تستطيع منعه من الفساد وقبول الرشى بجميع أشكالها. بينما صنف رابع يهتف باسم الحكومة وقمعها في كتاباته العلنية، ويدينها ويناقش حق المعتصمين والمحتجين في جلساته الضيقة!

 

أي مجتمع مشوّه وخائف ومقموع هذا الذي نعيش فيه اليوم!!

 

إن محاولة دراسة مجتمع كهذا ستبوء بالفشل بلا شك، فالموضوعية تغيب عنه تماما. هو مجتمع رمادي لا تستطيع أن تفهرسه في أي خانة مهما بحثت. إنه مجتمع منافق، لا يستطيع المواجهة، ولا أن يتبنى رأيا واحدا من الممكن أن يفتح الباب لثمن ما.

 

الأيدولوجيا اليوم لم تعد على ما كانت عليه في الماضي، بل أصبحت مجرد التزام بمجموعة توجهات، حتى لو كانت توجهات «دنيا»، أو تهويمات ومهاترات، لمجرد التأشير الى الذات، وتسويق التهويمات غير المتجذرة. بالتأكيد تسويقها على عوام لا يمتلكون هم أيضا أي لغة أو فكر، أو ربما يغرقون أنفسهم بـ»التقية» الجديدة التي تعصمهم من التبدلات والتحولات.

 

هذه قصة قصيرة عن مجتمع النفاق. قصة عن الحناجر التي تتحلى بـ»الشجاعة» اللازمة لإظهار موافقاتها العلنية على كل شيء في الظلام الدامس، بينما تسارع إلى تمزيق كل ما التزمت به قبل صياح أي ديك. ماذا فعلت بنا يا أسخريوطي؟!!

 

(الغد)