موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣

فن وخلاص

الأب أثناسيوس شهوان

الأب أثناسيوس شهوان

الأب أثناسيوس شهوان :

 

تمحورت الجداريَّات في القرون الثلاثة الأولى والموجودة في دياميس روما حول أحداث خلاصيَّة صنعها الربُّ يسوع المسيح، أكثر ممَّا تمحورت حول إظهاره بمفرده. يمكن القول إنَّ هذا الأمر هو تمايُز كبير بين الفنِّ المسيحيِّ والفنِّ الوثنيِّ، إذ إنَّ الديانة الوثنيَّة كانت تحرص على إظهار قوَّة آلهتها وما لها من جبروت وبطش، بصنع تماثيل ضخمة لها، يُسجَد لها، وتُقدَّم لها الذبائح لاسترضائها والتخفيف من غضبها.

 

نشاهد على الجداريَّات مثلًا إنقاذ الربِّ للفتية الثلاثة في أتون النار، ولدانيال النبيِّ في جبِّ الأُسُود. كذلك نشاهد إقامة يسوع للعازر، وشفاء المرأة النازفة، ولقاء الربِّ مع السامريَّة. كما هناك أحداث تتعلَّق مباشرة بيسوع ولكن ليس وحده، كمعموديَّته. ويوجد أيضًا مَشاهد عن الميلاد ووالدة الإله والمجوس، وتصوير للرسولين بطرس وبولس.

 

إذًا نحن أمام كتاب مقدَّس مصوَّر، هدفه إعلان التدبير الإلهيِّ للبشر بتجسُّد الربِّ يسوع وصيرورته إنسانًا. ذلك كلُّه موجود حول قبور أمست بهذه التصاوير الخلاصيَّة محطَّة رجاء بالقيامة المجيدة، وأماكن صلاة وتعزية.

 

ففي خلال الاضطهادات والقمع والتنكيل، التي تخلَّلها فترات هدنة قصيرة، تابع المسيحيون عبادتهم تحت الأرض، وفي الكهوف، وفي المنازل، وفي أماكن بعيدة عن مرأى قاتليهم. وكانوا لا يعلمون متى يستشهدون من أجل المسيح، ومتى يُعتقَلُون ويُرمَون في السجون وفي الأقبية تحت الأرض، ومتى يُعذَّبُون ويُضرَبُون ويُصلَبُون ويُجلَدُون ويُرمَون للأُسُود الجائعة والمفترسة.

 

جداريَّاتهم رافقتها الصلوات والتضرُّعات والابتهالات. والعكس صحيح. تناقلوا ما وصلَهُم من بشارة مكتوبة وغير مكتوبة، وعاشوها قولًا وفعلًا، فكانوا أناجيل حيَّة جعلتهم ينقلون الإيمان المسيحيَّ بالعدوى. مَن يعاشرهم يشتهي البقاء معهم، وهذا ما تشهد عليه مثلًا الرسالة إلى ذيوغنيطس من القرن الثالث الميلاديِّ حول مَن هم المسيحيُّون، فكانت لتقول إنَّهم يفرشون أسرَّة منازلهم لضيافة الغرباء وموائدهم لإطعام الفقراء، ولكن لا يفرشونها للخطيئة. وإن أخطأوا يتواضعون ويعترفون ويتوبون.

 

بالعودة إلى الجداريَّات، يلاحظ دارسوها، أنَّ تصوير يسوع بدأ في بداية الأمر يُظهره كفتًى رومانيٍّ دون لحية، وشعره قصير، وبدأ الأمر يتغيَّر في حوالي القرن الخامس تقريبًا ليأخذ الطابع الشرقيَّ والبيبليّ، أي شعرًا طويلًا متدلِّيًا وذقنًا، وملامح فيها الكثير من الصلابة.

 

يقول هنا كاتب الأيقونات وشارح الأيقونة ليونيد أسبسنكي، إنَّ التصوير الَّذي غلب جمع بين وجه الإله زوس الإغريقيِّ، والَّذي أصبح عند الرومان جوبيتر، ملك السماء وملك الآلهة على جبل أولبيك، وبين شعر شمشون، البطل الجبَّار.

 

لا يتعسَّرنَّ فهمُ هذا الكلام على أحد، وذلك لسببين: السبب الأوَّل، أنَّ الأناجيل لم تعطِ أيَّ وصف فيزيائيٍّ عن الربِّ يسوع المسيح، لأن ليس هذا بالأمر المهمِّ، فتجسُّده هو الأهمّ، وكذلك الملامح الشرقيَّة تتوافق مع الشعر الطويل والذقن.

 

والثاني كأنَّ المسيحيِّين يقولون بذلك: «أيُّها الشعوب، يا مَن تبحثون عن آلهة لتخلِّصكم، وتتطلَّعون إلى السماء تبحثون عن الآلهة لتحميكم، ها إنَّ الإله الوحيد قد أتى، وهو هنا، واسمه يسوع/يشوع، ويعني الكائن يخلِّص، أي الله يخلِّص، وبالتالي فالسماء كلُّها على الأرض، لنرتفع نحن إليها».

 

فبهذا كان مسك الختام لكلِّ بحث الشعوب والحضارات، لتبدأ بداية جديدة اسمها الربُّ يسوع المسيح، نعيشها معه هنا، ونكملها معه في الملكوت السماويِّ.

 

هنا لا بدَّ من توضيح أمر مهمٍّ جدًّا وأساسيٍّ: هناك صورتان للربِّ نقرأ عنهما في العهد القديم، تقابلهما صورة في العهد الجديد. فكيف للمسيحيِّين أن يجمعوها بينهم في تصوير واحد! ولكنّهم نجحوا بنعمة الروح القدس لأن المسيح هو هو، الأمس واليوم وغدًا.

 

الصورتان الأوليان هما في المزمور 22 الَّذي قال يسوع بدايته على الصليب باللغة العبريَّة ليقول للفرِّيسيِّين الَّذين كانوا يشاهدون صلبه: «اسمعوا وافهموا أنَّ ما تزعمون به بأنَّكم مفسِّرو الكتاب، ها إنَّ ما هو مكتوب يتحقَّق أمامكم». ولكن للأسف كان ذهنهم غليظًا من جرَّاء كبريائهم وتغطرُسهم. فيسوع قال بداية المزمور: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أي: إلهي، إلهي، لماذا تركتَني؟ (متَّى 27 : 46).

 

المزمور يصف الحالة الَّتي كان يسوع عليها: «أمَّا أنا فدُودةٌ لا إنسان. عارٌ عند البشر ومُحتقَرُ الشعب. ثَقبُوا يدَيَّ ورِجليَّ... يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون».

 

الصورة الثانية نجدها عند إشعياء النبيِّ (53): «لا صورة له ولا جمال فننظر إليه... محتقَرٌ ومخذول من الناس، رجل أوجاع لكنَّ أحزاننا حملَها، وأوجاعنا تحمَّلَها. ونحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره شُفينا... وجُعل مع الأشرار قبرُه، ومع غنيٍّ عند موته... لم يكن في فمه غشٌّ... جعل نفسه ذبيحة إثم...».

 

تقابل هاتين الصورتين صورة قياميَّة في العهد الجديد، صورة غالبة ومنتصرة تحقَّقت بقيامة المسيح من بين الأموات. لهذا كتب المسيحيُّون عبارة المنتصر NIKA باللغة اليونانيَّة الَّتي نشاهدها على الستائر والأواني الكنسيَّة.

 

صحيح أنَّ الصورتين في العهد القديم تحقَّقتا، ولكن لم تكونا النهاية. فلنلاحظ جيِّدًا هذه العبارة عند إشعياء: «وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا»، أي بجراحه ورُضوضه شُفينا. يا لعظمة هذا الانتصار وغلبة المحبَّة اللامتناهية.

 

وفي الخلاصة، وبالعودة إلى الدياميس، فقد خرج المسيحيُّون من الظلِّ إلى العلن، فكان ميثاق الحرِّيَّة الدينيَّة مع قسطنطين الملك وليسينويس في ما عُرف بميثاق ميلانو في العام 313.

 

ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الاضطهاد زال. بالعكس تمامًا، فقد أصبح هناك اضطهاد آخر أشد خطورة من سابقه، وهو المسيحيَّة بالانتماء وليس بالعيش.

 

إلى الربِّ نطلب.

 

(النشرة)