موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ يوليو / تموز ٢٠٢٠

حتّى لا يفتخِرَ بشرٌ أمامَ الله

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في مدينة الكرك الأردنيّة

الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في مدينة الكرك الأردنيّة

 

الإخوةُ والأخوات الأحبّاء جميعًا في المسيح يسوع. نحنُ اليوم في الأحدِ الرّابع عشر من زمن السّنة العادي. ونقرأُ مِن الفصلِ الحادي عشر من إنجيلِ القدّيس متّى. حيثُ يقوم يسوع بفعل حمدٍ للآب السّماوي، الّذي أخفى أمور الملكوتِ على الحكماء والأذكياء، وَكَشَفَها للصّغار! فعلُ حمدٍ قَد يَبدو غريبًا نوعًا ما! وكأنَّ يسوع يشكرُ الآب على أنّه حَجَبَ أسرارَ الخلاص عن البعض وكشفها للبعضِ الآخر! فهل الله يُريد هدايةَ فئة وضلالَ أخرى، خلاصَ شريحة وهلاكَ أخرى؟! فما المقصود بفعل الحمد هذا؟

 

بدايةً لا بدَّ لنا أن نُشير إلى حقيقة الإيمانِ الثّابِتة الّتي تقول: إنَّ الله يريدُ خلاصَ جميعِ النّاس. "ألَعلَّ هوايَ في موتِ الشّرير؟ يقولُ السّيدُ الرّب. أليسَ في أن يتوبَ عن طُرقِه فيحيا" (حزقيال 23:18). وحتّى نفهمَ ما وردَ على لِسانِ يسوع، علينَا أن نُدرِك أوّلًا هويةَ الحكماء والأذكياء وهويةَ الصّغار؟ بدايةً يسوع لا يحتقر العلوم والمعارِف الإنسانية، وإلّا لَغَبَّطَ الأغبياء وحمدَ الجهلاء. ولو أنَّ قصدَه مدح الجهل والغباوةِ لما قال لنا: "كونوا كالحيّاتِ حاذقين" (متّى 16:10)، أي مُتيقّظين فَطِنين.

 

فالحكماءُ والأذكياء في قول يسوع، هم تلك الفئة من النّاس المكتفية بذاتِها وبإنجازاتِها، المتقوقِعة على نفسِها، وبالتّالي منغلِقة على الله ورافِضة له. هم تلكَ الطّبقة المجتمعية الّتي كانت تَعتبِرُ نفسَها أفضلَ من سائر النّاس. المعتدّونَ بأنفسِهم، الفوقيّون. أُولئك الّذينَ، كما يصفهم يسوع: كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس. تَذكرونَ قِصّةَ الفريسي والعشّار: "صَعِدَ رَجُلانِ إِلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ. فانتَصَبَ الفِرِّيسيُّ قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي" (لوقا 9:18-11).

 

أفرادُ تلكَ الفئة كانوا عمومًا من الفرّيسين والكهنة والكتبة، تلكَ الطّبقة الدّينية المتحكّمة في النّاس، المتسلّطة عليهم، المتجبّرة بهم. تلكَ الفئة القابِضَة، مَن تَرى أنّها تملِكُ مفاتيحَ المعرفة، وفي يدها خلاصُ النّاس. لذلك نسمع يسوع يُعنِّفُهم غير مرّة في الإنجيل، على قسوتهم وريائِهم في تعاملهم مع عامّة الشّعب: " يَحزِمونَ أَحمالاً ثَقيلَة ويُلقونَها على أَكتافِ النَّاس، ولكِنَّهم يَأبَونَ تَحريكَها بِطَرَفِ الإصبَع. وجَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم... الوَيلُ لَكم أَيُّها القادَةُ العُميان، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متّى 1:23-32).

 

تلكَ الطبقة النّخبوية (Elite) أو الصّفوة، المنتفِخة من الكبرياء والعنجهية، الّتي في يدها مقاليد كلِّ شيء، والّتي تستولي على كلِّ شيء، وتمارسُ الاستبداد، وتَطغى على النّاس، وتهضم حقوقَهم، وتحصد ما زرعَه الكادِحون. وهذه من كُبرى مشكلات المجتمعات الإنسانية، حيث الفساد طَغى وساد، فترى النّخبةَ تحيا في النّعيم والبقيةَ تَشقى في الجحيم. حيثُ لا عدالة بينَ النّاس، لا مساوَاة. نهبٌ وسلب، تحت مُسمّيات عديدة وبأشكال عدّة. لذلك: ((الذي قال: إنّ الفقر ليس عيبًا، كانَ يُريد أن يكمِلَها ويقول: بل جريمة. ولكنَّ الأغنياءَ قاطعوه بالتّصفيق الحار)). فالويلُ للّذينَ يسرقون قوتَ الفقراء ويأكلونَ خبزَ الأشقياء.

 

يسوعُ لم يكن شخصًا عاديًّا ضعيفًا، بل ثائِرًا على كلِّ أَشكال الظُّلمِ والطُّغيان، على جميع أشكال الأذى الّذي يُلحِقُه البشرُ بعضُهم ببعض، على التّمييز الطّبقي البغيض، على استبدادِ الأقلية. يسوعُ أتى ليقلِبَ موازين، ليُصحِّحَ مفاهيم، ليقوِّمَ مناهج، ويُعدِّلَ أساليب. فكانت النّتيجةُ رَفضًا قاطِعًا أفضى إلى قتلٍ وإعدام! فتلكَ الفئةُ رأت في المسيحِ خطرًا داهمًا عليها وعلى وجودِها، وعلى موقعها السّلطوي ومركزها الاجتماعي. لذلكَ، في كلِّ مكان وزمان، عندما تعلو أصواتُ الحقِّ في وجه أصحابِ الباطل، سُرعانَ ما تُحارب وتُخمَد، وأحيانًا بأبشعِ الممارساتِ والطّرقِ القمعيّة.

 

سُئِلَ أرسطو: من يصنع الطغاة؟ فَردَّ قائِلًا: ضُعفُ المظلومين. يسوعُ، في مجتمعِه، كانَ صوتًا للمظلومين المُستضعَفين، كان صوتًا للبسطاء الضّعفاء، كانَ صوتًا للصّغار. ولكن، كثيرٌ مِنَ المظلومين اليوم، لا صوتَ لهم، يُمثّلهم، يُدافِعُ عنهم، يحميهم، ينصرُهم، يردُّ حقوقَهم. إمّا لخوف من عقاب، أو لأنَّ مُعظمَ الضّمائِرَ قَد بيعَت سعيًا وراءَ مكسب خسيس أو طمعًا في مَنصبٍ أو لَقَب أو جَاه.

 

نَعم، كُشِفَت أسرارُ الملكوتِ للصّغار، للبسطاء، للمتواضعين، لفقراءِ الرّوح، للودعاء، للجياعِ والعطاشِ إلى البّر، للرّحماء، لأطهارِ القلوب، للسّاعين إلى السّلام، للمضطَهَدين على البر. ولكن حتّى متى هذا الإجحاف بحقّهم؟! أينَ العدالةُ والمساواة؟ أينَ النّزاهة والأمانة؟ أينَ الرّحمَة؟ لماذا هذه الطَّبقية المقيتة؟ حتّى في داخل الكنيسة أيضًا، مع كلِّ أسف، وبينَ عددٍ لا بأس به من رجالِ الدّين، تجدُ طبقيّة وتميز، تجدُ استعلاءً واستغلال، تجدُ نِفاقًا ورياء، تجدُ غطرسةً وتكبّرًا، إن لم يكن تجبُّرًا أيضًا، بالنّاس البُسطاء. أين نحنُ كمؤمنين، كعلمانيين ورجال دين، من بساطة المسيح، من روحِ الإنجيل، من براءةِ الصّغار وأمانةِ المتواضعين؟!

 

هؤلاءِ هم الحكماء والأذكياء، المكتفونَ بذواتِهم، المشبعون برغباتهم، يعتقدون أنّهم يملكون كلَّ شيء. لا يشعرون بحاجتهم إلى الله، بل أغلقوا أنفسَهم عنه وغلَّقوا الأبواب. ممتلؤون أنانية، مثقلون بثقافةِ الأنا (Ego). يعتقدونَ أنّهم محور الأمور والأحداث، وفي مدارِهم تدورُ الأشياء والأشخاص. هم المتكبّرون باختصار، وفي عالمِ المتكبّر لا وجود لله.

 

أمّا الصّغار، فهم البسطاء الودعاء. الممتلؤون من الله، المطمئِنّون فيه، المتّكلون عليه، الواثقون به. هم الّذين يُلقونَ عليه كلَّ همِّهم مُوقنينَ أنّه يُعنى بهم (1 بطرس 7:5). يعيشون في هذا الدّهر بقناعة وتقوى، ونفوسهم مُلِأت لرجاءً بذاك القادر على أن يُخلّص. نفوسهم عزيزة، مترفّعون عن الصّغائر. هم المزيّنون بمواهبِ الرّوح، حكمةً وفهمًا ومشورة وقوّة وعلمًا وتقوى ومخافة.

 

في سفر التّكوين نرى مشهدَ الله الّذي يبحثُ عن الإنسان، والإنسان الّذي يُخفي ذاته ويختبأُ عن الله. هو يريد أن يكشِف ذاتَه لكلِّ إنسان، ولكن ليسَ كلُّ إنسان يريد أن يكشفَ ذاته لله. هناك الكثيرون مِمن يختبؤون عنه، يرفضون حضورَه في حياتِهم. هؤلاء فعلا هم الحكماءُ والأذكياء، بحماقة هذا العالم. هؤلاء هم الجهلاء الّذينَ قالوا في قلوبِهم "ليس إله" (مزمور 1:14). اللهُ يُريد خلاصَ كلِّ بشر، ولكن ليسَ كلُّ بشرٍ يريد خلاصَ نفسه. هؤلاء هم الّذين خَسِروا أنفسهم ليربحوا العالم.