موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٧ فبراير / شباط ٢٠٢٠

بطلان الزواج: من يعاني من نقص جسيم في التمييز والحكم على الحقوق والواجبات الزوجيّة الجوهرية

بقلم :
الأب د. ريمون جرجس - سورية
الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني

 

المقدمة

 

أكّدت الكنيسة الكاثوليكية مرارًا وتكرارًا على ضروة حماية حقّ الزواج لأي معمّد، وأنَّ لها السلطة الخاصّة بتحديد طبيعة ممارسته طبقًا للشرع الإلهيّ والكنسيّ. لذلك، أقرَّ الشرع اللاتيني الحالي في القانون 1058: عقد الزواج حقّ لكل من لم يكن ممنوعًا منه قانونًا. أي إنَّ كلّ معمّد يمتلك حقًّا طبيعيًا للاحتفال بالزواج. فهو حقّ الشخص - الرجل وحقّ الشخص - المرأة والذي يَنجم عن تكامليّة الرجل والمرأة. وهو ليس بحقّ عامّ، أي إنَّه عقد أي زواج، إنما هو حقّ محدد، عقد زواج سرّيّ، غير قابل للانحلال ومنفتح للخصوبة والذي يتجاوب مع المؤسّسة الطبيعية. يقول البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء محكمة الروتا الرومانا بتاريخ 30 كانون الثاني 2003: "لا يمكن في الحقيقة التصوّر بجانب الزواج الطبيعي، نموذج آخر من زواج مسيحي بشروط خاصّة فائقة الطبيعة" (رقم 8). لهذا السبب، هذا الحقّ لا يعدّ حقًّا مطلقاً في ممارسته، فقد تكون ممارسته محدّدة من خلال شروط وافتراضات أقرّتها السلطة الكنسيّة المختصّة. وبالتالي، فإن السلطات الكنسيّة لا يمكنها خلق موانع للزواج غير مقررة في النظام القانوني.

 

لذلك، المتعاقد في ممارسة هذا الحقّ يخضع للأنظمة التي يحدّدها الشرع الكنسيّ والشروط التي تؤهل الشخص لممارسته كي يحصل على المفاعيل القانونيّة المعترف بها في الشرع الكنسيّ. والشرع الكنسيّ ذاته، يمنع صراحة ممارسة هذا الحقّ للأشخاص غير المؤهلين. فهناك، على سبيل المثال، موانع مبطلة مبنيّة على أسباب ثابتة لا تزول تمنع حصول الزواج بصورة عامة، وتحول أيضاً دون صحّة عقده، فتجعل الشخص غير أهل لإبرام الزواج مع أي شخص كان وتجعل عقد الزواج باطلاً. والصيغة القانون اللاتيني 1058 المتعلقة بالاعتراف بهذا الحق لا يلزمنا فقط الاعتراف بالحقّ في الزواج لكل رجل وامرأة، ولكن أيضًا الدفاع عنه. هذا هو أحد أسباب الحماية الذي يتمتع به الزواج في النظام القانوني المذكور في القانون 1060.

 

حدّد الشرع الكنسيّ الأهليّة القانونيّة التي تسمح للشخص بالإقدام على الاحتفال بسرّ الزواج بشكل صحيح؛ مع عدم وجود أي من الموانع المبطلة التي تعيق الشخص عن ممارسة حقّه الطبيعي وفقاً للقانون الشرقيّ 778: بوسع الجميع أن يتزوّجوا، ما لم يمنعهم الشّرع. لهذا السبب، يمكن القول إنَّ انعدام الأهليّة للزّواج يؤدّي إلى مانع قانونيّ للزّواج، وإنّه يجب أن يكون قائمًا في لحظة الاحتفال بالزواج. لكن لا يمكن النظر إلى انعدام الأهليّة على أنّه مانع؛ بل هو يشكل مادة ذات صلة بمضمون الرضى نفسه: وهذا بالمعنى الشخصيّ والموضوعي. وإنَّ العلاقة بين وجود الانعدام الأهليّة والرضى الزوجيّ تعني بالضرورة أن الانعدام نفسه ينطلق من الفهم والتعريف والتأكيد من لحظة وفي اللحظة نفسها التي يتم فيها التعبير عن الرضى المتبادل بين المتعاقدين. في الوقت الحالي، يجب أن نتذكر أن الرضى الزوجيّ قد يكون كافيّاً ولكن في الوقت نفسه غير فعّال: وهذا قد يحدث ليس فقط بسبب وجود عائق أو نقص في الصيغة، ولكن أيضا بسبب عدم وجود الموضوع. لذا، من الصعب الفهم أن الشخص يكون مؤهّل للقيام بالفعل الرضى ولكن لا يستطيع تحمّل موضوع الفعل نفسه.

 

1- الأهليّة الرضائيَّة لعقد الزواج

 

إنَّ سبب طلب القانون اللاتيني 1057 بند 1 بضرورة وجود الأهليّة القانونيّة في الشخص لوضع فعل الرّضى، هو قائم في طبيعة الشخص الإنسانيّ، لأن الفعل الرضي هو فعل إنسانيّ، خاص بالانسان بقدر ما يشعر أنَّه سيد نفسه أثناء قيامه به بعقله وإرادته. والإنسان له الحقّ في وضعه. وكل تقييم للأهليّة القانونية لعقد زواج يجب أن يتمّ بشكل طبيعي على ضوء الفعل الذي يجب الرجوع إليه، أي الرضى الزوجيّ، وهو فعل إقراريّ شخصيّ، فيه الحريَّة لها دور جوهري لأنَّ بدونها لا يمكن تحقيق هبة المتعاقدين في حياتهما الزوجيّة. وتكون أهليّة التعاقد الزواج، التي هي درجة السيادة الشخص على الذات وأفعاله، متناسبة مع الفعل المصنّف بأنه عطاء وقبول الزوجيّن بإقامة شركة حياة كلّها والتي تهدف إلى خير الزوجيّن وإنجاب البنين وتربيتهم.

 

عند الحديث عن الرضى الزوجيّ والأهليّة على تنفيذ الفعل الذي يعبر عنه، عادة ما نشير إلى الفرق بين الفعل الشخصيّ للرضى وموضوع هذا الفعل. من وجهة النظر هذه، لدينا إرادة الشخص (المتعاقد) والآخر هو قدرته تجاه موضوع الوثاق الزوجيّ. أعتقد أن هذا التمييز مرتبط، على الأقل، في كثير من الأحيان، بالفرق بين ما يمكن تسميته "قوة" فعل الفعل الكامل في حد ذاته للشخص وانعدام الأهليّة للإرادة كي تتمم الالتزام المطلوب. في الواقع، من خلال الفصل بين الشخص والموضوع ربما نكون قد انتهينا إلى رفع الأهليّة إلى موضوع الرضى: في رأيي الأهليّة ليست سوى أهليّة الشخص. وبالتالي، إنَّ انعدام الأهليّة يجب أن تخصّ الشخص كله. لأنَّ الأهليَّة لا تمتلك (أو انعدام الأهليّة) كموضوع "إتمام فعل" - كما لو كان شيئًا خارجيًا - والذي فيما بعد لديه القوة لتوليد وثاق. فإصدار فعل الرضى هو القبول نفسه: وفعالية الرضى، كفعل، لا يمكن منعها. أنا أعتقد بالأحرى أن الأهليّة تُمنح بين الشخص وأفعاله، والتي هي دائمًا فعل امتلاك وسيادة على نفسه، الذاتيّة الشخصيَّة. خلاف ذلك ، فإننا نجازف بتمزيق وحدة الشخص الإنسانيّ لأننا سنفكر، بشكل منفصل، في الأهليّة على تملك الذات والأهليّة على إعطاء الذات كحقائق مستقلة. ويتم تحديد الأهليّة للاعطاء الزوجيّ وفقًا للإمكانية الحقيقية في هبة الشخص لذاته وقبول على هذا النحو. هذه الأهليّة هي أهليّة كل شخص: كل من الزوجيّن قادر أو غير قادر. وانعدام هذه الأهليّة، التي تبطل الزواج، يجب أن يظهر فقط في لحظة الإعراب عن الرّضى بين المتعاقدين، وليس بعد ختام الوثاق الزوجيّ أي في مرحلة In facto esse. لذلك، كون الزواج فعلاً إنسانيّاً قانونيّاً، من خلاله يعرب المتعاقد عن رضاه أمام شخص ثانٍ، وأنَّه يتضمّن في حد ذاته جوهر الزواج بشكل القوّة؛ فكلّ عنصر أساسيّ للوثاق الزوجيّ، يجب أن يكون على الأقلّ بالقوّة حاضراً في لحظة إقامة الزواج، مع إمكانيّة تحقيقه بشكّل ملموس في الحياة الزوجيّة. والأهليّة على تحقيق كلّ ما هو أساسيّ والذي يقيمه الزوج يجب أن تكون حاضرة في لحظة عقد الزواج أيضاً حيث يتم إعطاء والقبول المتبادل بين  المتزوجين، لحقوق وواجبات، بحيث يكون التأثير القانوني الفوري لـلزواج " in fieri" والزواج "in facto esse”، أو الوثاق الزوجيّ الدائم، التي يولد منها مجتمع زوجيّ.

 

نحن أمام سؤال أساسي: "هل من الممكن القول أنَّ فعلًا إراديّا موجود عندما يكون موضوعه مستحيل القيام به بشكل جذري"؟

 

حسب تعليم القديس توما الأكويني "الفعل الإنسانيّ هو كل ممارسة لملكيات النفس أو الجسد التي تنجم عن العقل والإرادة الحرّة". العقل والإرادة مؤهلتان، وهما غير منفصلتين، ومنغلقتين على نفسيهما، وهما يشكّلان عنصرين جوهريين ضروريّين لفعل الرّضى. فالرّضى فعل واحد وفي الوقت نفسه "حكم مراد" و"إرادة مأهليّة"، فلا يوجد فعل تعقل غير مرتبط بالإرادة، والعكس صحيح أيضاً. فالعقل ككينونة وكقوّة الإنسان، يستقبل الاندفاع الأول لتطور المسار التكويني، لأنه قادر على معرفة هيئة. والإرادة كملكية الإنسان، تجعله قابلاً لأن يحرك نفسه، سواء نحو غايته محاولاً تحقيقه، أم نحو الوسائل التي تهدف إلى الغاية نفسها، ويقوم على التوجّه نحو موضوع محدّد، ويبقى فقط كرغبة، كإرادة غير مكتملة والتي لم توضّح إذا كان الموضوع مراداً بحريَّة من قبل الفاعل. لذلك، هاتان الأهليتان تتدخّلان في عمليّة صنع القرار.

 

يوضح Stankiewicz: "لا يمكن أن توجد أهليّتان مختلفتان متميزتان في العقل والإرادة، لكن هناك فقط جوانب أو طرقاً مختلفة لنشاطهما. في الواقع، يوجد فقط الأهليّة العقلية والإراديّة، بل إن أفعالهما ليست كيانين منفصلين ومغلقين في نفسيهما، لأن الفعل الإنسانيّ الملموس هو، في الوقت نفسه، "حكم مراد وإرادة محكومة". وحسب، Franceschi إنَّ "الرضى الزوجيّ، كي يكون على هذا النحو، يجب ألا يكون فقط (volitum) لكنvoluntarium  أي فعل إراديّ حقيقي، حيث"عندما يُراد المستحيل فلا يوجد اختيار حقيقي للإرادة، لأن انعدام الأهليّة الذي يؤثر مباشرة في القوى الأخرى الحساسة، لديه نتائج أيضا على العقل والإرادة». يشرح Hervada، في حديثه عن جوهر الزواج، لماذا الحكم الصائب لا يتعلق بالعقل فحسب، بل يخصّ أيضًا الإرادة لأنها تنطوي على حكم العقل العمليّ: "فالزواج ليس مجرد بيان أو إعلان بسيط، لكنه مسار عمل، القصد في الاتحاد لأهداف محددة. ويترتب على ذلك أن العقل يجب أن يمارس حكمًا عمليّا، وأن أهليّة إعطاء الرضى هي تمييز discretio أهليّة العقل العمليّ؛ وبالتالي اسم هذه الأهليّة: الحكم الصائب. وما يطلب من المتعاقد هو أن يكون قادراً بما فيه الكفاية على التمييز، أي إنَّه يتمتّع بنضج كافٍ في العقل العمليّ". وعندما يتحدّث Hervada عن الرضى الزوجيّ كفعل من أفعال الإرادة، يميّز بوضوح بينvolitum  وvoluntarium، مؤكداً أنَّ الرضى الزوجيّ، كي يكون على هذا النحو، يجب أن لا يكون مراداً فقط (volitum)، بل إراديّ، أي فعل إرادة حقيقي (voluntarium): "الرضى الزوجيّ ليس بفعل رغبة، إنه ليس إرادة غير فعالة، بل فعل عمل إراديّ (voluntarium)، إرادة فعّالة وعمليّة. لهذا السبب يجب علينا ألا نقع في اللبس بين volitum  وvoluntarium. ليس الشيء نفسه عندما ترغب الإرادة - حتى بحماس - لشيء (هذا الشيء المرغوب فيه هو volitum ) أو يريد هذا الشيء بشكل فعليّ (هذا هو voluntarium). يبدو أنه من غير المتصور أن يكون شخص ما قادرًا على الرغبة في الالتزام كونه غير قادر على إتمامه؛ فمثل هذه الإرادة ليست بإرادة فعالة حقيقية (voluntarium)، ولكنها إرادة رغبة، إرادة غير فعّالة، وبالتالي volitum  بسيط لا يكفي لعقد الزواج".

 

لا يمكننا الحديث عن مرحلتين متميزتين تمامًا، لأنه لا يحدث أبدًا أن نختار أولاً الأسباب، وبعد ذلك نقرر اختيار هذا الموضوع. ولكن الفرق بين العقل والإرادة يبدو واضحًا. فمن الممكن إيجاد هذه الحالة، عندما الحكم على قيمة في اختيار أحد الاحتمالات المختلفة التي يعطيها العقل لا يحدث من خلال عمليّة فكرية، ولكن من خلال عوامل شعورية التي تشكل وتقويّ الأسباب، وتدفع الشخص إلى قرار ملموس. ومع ذلك، فإنّ الثقل يبقى دائمًا في اختصاص الحكم العمليّ للقيمة التي يصدرها الشخص بشكل الإلزام أو المقارنة". ومن ناحية أخرى، يكتب Pompedda، الإرادة تتبع الفكر فقط في ما يخصّ الخير العام، أمَّا في ما يتعلق بالخيرات الخاصّة، يجب ألا يكون هناك رابط ضروريّ بين الفكر والإرادة، ولكن هو حرّ في أن يريد أو لا يريد هذا الموضوع. لهذا السبب، يمكننا التحدث عن الاضطرابات المختلفة التي تؤثر فقط في  الإرادة وليس الفكر بحد ذاته. ويعتقد  Pompeddaأنّ الرضى كفعل إرادة "يجب أن تكون مضاءة من العقل كما تميل إلى موضوعه الصحيح الذي أدرك بأنّه خير".

 

ومن الواضح أن الرضى إمَّا أن يكون صحيحاً بالمطلق أو لا؛ لا يوجد رضى صحيح "نسبياً" أو "جزئياً". وبالمثل، فإن انعدام الأهليّة إمَّا أن يكون مطلقاً من حيث الوقت - أو إنَّه ليس بانعدام  حقيقي. فمن الناحية النظريّة، تمامًا كما امتلك الأهليّة على الالتزام بما يمكنني تحقيقه اليوم - على الرغم من عدم اليقين إذا كان بإمكاني القيام بذلك غدًا - من الواضح، أنني قادر على الالتزام بما لا يمكنني تحقيقه اليوم، ولكن هذا آمل أن أكون قادرًا على تحقيقه غدًا. بعبارة أخرى، ما كان يُعتبر عجزًا هو ببساطة صعوبة لم يرغب الشخص، لفترة معينة (شملت لحظة الاعراب عن رضاه)، في التغلب عليها، وربما اعتقد أنه لا يستطيع التغلب عليها؛ لكن في وقت لاحق، بذل المزيد من الجهد واستخدام وسائل أفضل تمكن من التغلب عليها. فانعدام الأهليّة المؤقت لا يبطل الزواج؛ ولا يبطل أي انعدام أهليّة في المستقبل. فإذا كان لدى الشخص الأهليّة الرضائيَّة الحالية - معرفة كافية وإرادة لاتخاذ خيار حر وحقيقي - يكون الزواج صحيحًا. أن يكون غير قادر في الاعراب عن رضى زوجي يعني أن يكون غير قادر حاليًا: غير قادر، في اللحظة الملموسة، في قبول واعطاء حقوق أساسية و/أو تحمل الالتزامات الأساسيَّة. فلن يتمكن أحد من الزواج بشكل صحيح من شخص مصاب بورم دماغي، لأنَّه في غضون 5 سنوات سيكون بالتأكيد في حالة اختلال عقلي؛ أو لن يكون من الممكن عقد زواج صالح مع شخص حكم عليه بالإعدام، لأنه لن يكون قادرًا على الوفاء بمسؤوليته في ما يتعلق بتربية الطفل الذي يمكن أن يولد من هذا الاتحاد الزوجيّ.

 

2- إنعدام الأهليّة الرضائيَّة لعقد زواج

 

لأنّ مضمون الرّضى الزوجيّ هم الأشخاص في حياتهم الزوجيّة، ينجم عن هذا، أنّ أي شكل انعدام الأهليّة لتنفيذ الواجبات الجوهرية للزواج بشكل مسؤول، يجب ادراكه بقدر ما له صلة بشخصيّة الزوجيّن. فنحن نتعامل مع الإنسان بكل حقيقته وبأبعاده الكاملة. إنَّه إنسان "ملموس"، "تاريخي"... الإنسان كما أراده الله، كما "اختاره" منذ البدء، مدعو ويتّجه نحو النعمة والمجد: هذا هو بالضبط "كل" إنسان، الإنسان "الأكثر واقعية"...الذي أصبح مشاركًا في يسوع المسيح». وفي الشخص الإنسانيّ هو طبيعته وهو تاريخه. وبهذا المعنى، يمكن القول إنَّه في الزواج هناك هبة الذات كاملة وبالتالي لا رجعة فيها. وإنَّ الأهليّة على الهبة الزوجيّة تحّدد من خلال إمكانيّة واقعية لهبة الذات وقبولها. فالهبة الزواجيّة من أجل تقبّلها تتطلب من المتزوجين "واجب تحمّلها وإتمامها لأنّه من خلالها –كما يقول البابا بولس السادس-يتوّج  الزوجان شركة وجودهما، من المنظور المتكامل المتبادل، لمشاركة الله في خلق حيوات جديدة وتربيتها". ولقد وضَّح البابا يوحنا بولس الثاني أمام أعضاء محكمة الروتا الرومانيّة )خصوصاً سنتين 1987 و1988) التي تحتوي على بعض الإشارات العمليّة المتعلّقة بموضوع أهليّة أو انعدام أهليّة الأشخاص للزواج لأسباب ذات طبيعة نفسيّة. الكلمات التي نطق بها هي تأكيديّة في تفسير هذا القانون كونها تظهر ذهنيّة المشرّع. في خطابه في 25 كانون الثاني سنة 1987 (رقم 7) أصرّ في قوله، على أنَّ انعدام الأهليّة يجب أن يكون نتيجة شذوذ خطير، تؤثّر في المقدّرات الروحانيّة للشخص – العقل أو الإرادة، وتستطيع أن تبطل فعل الرّضى. والمعيار الوحيد، لتقييم الجانب الموضوعي لنقص الحكم، المشار إليه في القانون، هو مبدأ التناسق بين فعل الرّضى (الإرادة ،العقل، العاطفة) وموضوعه الذي هو (الحقوق والواجبات الجوهريّة للزّواج).

 

أقرَّ الشرع الكنسيّ الكاثوليكيّ في القانون اللاتيني 1095 (ق. ش 818)، ثلاثة أسباب قانونيّة منفصلة لانعدام الأهليّة والتي تسبب بطلان الزواج وتمنع الأشخاص من تحقيق حقّ الزواج بشكّل صحيح. ومن المؤكد أن قواعد هذا القانون يمكن أن تخلق صعوبات خطيرة للرعاة في الكنيسة، خصوصاً أثناء الإعداد المباشر للخطاب، كي يتم قبولهم للاحتفال بالزواج. في الواقع في المجال القضائيّ، عندما يعود للكنيسة اختصاص الحكم على صحة الزواج بسبب انعدام الأهليّة المشار إليه في القانون 1095، هذه القواعد قد تؤدي إلى إضعاف الوثاق الزوجيّ وفتح الطريق بسهولة إلى نوع من "الطلاق العمليّ"، إذا طبقت بطريقة مرنة ومسيئة ودون تمييز من قبل المحاكم الكنسيّة.

 

القانون الشرقيّ 818- غير قادرين على عقد الزواج :1- من يفتقرون إلى ما يكفي من استعمال العقل؛ 2- من يشكون نقصاً خطيراً في الحكم الصائب في موضوع حقوق الزواج وواجباته الأساسيَّة لهم وعليهم؛ 3-من لا يستطيعون تحمّل واجبات الزواج لأسباب ذات طبيعة نفسيّة.

 

القانون اللاتيني 1095- يعتبر غير أهل لعقد الزواج: 1. من ينقصهم الإدراك الكافي. 2. من يعانون من نقص خطير في تمييز الحكم حول الحقوق والواجبات الزوجيّة الجوهرية المتبادلة، عطاءً أو قبولاً. 3. من لا يستطيعون، لأسباب ذات طبيعة نفسيّة، تحمّل التزامات الزواج الجوهرية.

 

لم يستخدم المشرّع الكنسيّ مصطلحات ذات طبيعة طبية أو نفسيّة في القانون 1095؛ بل اقتصر على مفهوم قانوني كأساس، ألا وهو انعدام الأهليّة على منح رضى صحيح، مع تحديد ثلاثة أنماط قانونية تتجلى فيها هذا الانعدام في أشكال محددة ومستقلة، بصرف النظر عن التصنيفات وفقًا للمنظور الطبي. لذلك، مفهوم القانون 1095 البند 2 هو مفهوم قانونية. يمكن تعريفه بهذه الطريقة: "مقياس النضج في الحكم الحر والعقلاني للذات وللأفعال الخاصّة، كي يستطيع الرجل أن يعطي نفسه على هذا النحو للمرأة ويقبلها على هذا النحو، وكي تستطيع المرأة، على هذا النحو، أن تعطي نفسها للرجل وتقبله على هذا النحو، ويشكلان بينهما اتحادًا يصبح حقاً لهما وواجباً القيام به من منطلق العدالة". لذا، وفقًا للبند  2 من القانون المذكور، لدينا انعدام أهليّة المتعاقد على إصدار رضى صحيح الذي، على الرغم من معرفته المجردة لحقوق والواجبات التي تنشأ عن الزواج، فإنه يظهر أوجه القصور الخاصة في ما يتعلق بالعنصر الفكري، حيث هذا الشخص غير قادر على تقييم الحقوق والواجبات الناشئة عن الزواج بشكل ملموس، وفيما يتعلق بالعنصر الإراديّ لا يستطيع اختيار هذه الحقوق والواجبات بحريَّة. وفقا للكاتب القانوني  Stankiewiczهناك علاقة بين البندين 1 و2 من القانون 1095 موضوعيَّة جوهريَّة، بمعنى أن "النقص الخطير" يعني أن وجود نقص تام في "الحكم الصائب" ليس ضروريّاً، وكذلك "نقص استعمال كافٍ للعقل" ليس ضروريّاً أن يكون السبب وراء النقص الكلي. والحكم الصائب يتعلق دائمًا بالحالة المعتادة للشخص. فمن المؤكّد أنّ الشخص  قد يفتقر إلى الاستخدام الكافي للعقل عند القيام بعلامة الزوجيّة وأن يمتلك الحكم الصائب الاعتيادي في الوقت نفسه؛ ومن ناحية أخرى، يمكنه أن يمارس الاستخدام الكافي للعقل لفهم وارادة فعل العلامة الزوجيّة كفعل إنسانيّ، ويفتقر إلى الحكم الذاتيّ وأفعاله، بما يتناسب مع الحقوق والواجبات الزوجيّة التي هي موضوع عطاء وقبول متبادل بين الزوجيّن. وفي الوقت نفسه، قد يفتقر الشخص إلى الاستخدام الكافي للعقل ويشكل أيضًا نقصا خطيرًا في الحكم الصائب: وقد يكون للعيوب نفس السبب أو لا.

 

أمَّا بالنسبة إلى العلاقة السببيّة بين النوعين من عدم الأهليّة المذكورين في البند 2 و3 من القانون 1095 فقد ذُكرت في حكم صادر عن Stankiewicz في 24 شباط 1994: "بالمعنى الواسع (...) انعدام الأهليّة في تحمّل الالتزامات الزوجيّة قد يشير أيضًا إلى انعدام حريَّة داخليَّة [...]، خاصة إذا كان أحدهم  يفضل القول إنَّه يتطور تماماً بشكل مستقل عن نقص في الحكم الصائب". وفي حكم آخر Pinto في 30 في كانون الثاني 1996، نقرأ: "أخيرًا، يجب ألا ننسى الصعوبة في التمييز بين البندين 2 و3 من القانون 1095 حيث إنَّ هناك عبوراً من البند الأول إلى الثاني بواسطة تدخّل معين. هل هناك سببان أم واحد؟ في هذا الموضوع، يبدو لنا أن القاعدة الكنسيّة أرادت تسليط الضوء على التمييز، ولكن أيضًا على التقارب، وليس هوية، لأن البند 2 يشير إلى موضوع الزواج، والبند 3، على العكس من ذلك، يشير إلى الأهليّة التي تم النظر إليها في الموضوع وهو تحمّل ما يُفترض أنه افترض تحمّله".

 

3- مفهوم الحكم الصائب

 

يعتبر الحكم الصائب عنصراً أساسيّاً في مراحل تكوين الرّضى الزواجيّ. والرّضى الزواجيّ، له وجود فقط عندما تتدخل الملكيّات العقلية والحسّية لتشكيل حكم خاصّ بالعقل يتعلّق بخير زواج معيّن. فإذا كان الشخص يشكو من نقص خطير في حكمه، فإنّه لا ينقص صحّة الرّضى وحسب، بل ينقص أيضاً أهليّة الشخص نفسه على وضع ذاته في علاقة خاصّة كالعلاقة الزوجيّة. ومن غير المعقول أن يستطيع الشخص إقامة فعل من منطلق الإرادة ولا يمكنه تقييم محتوى الفعل.  ويتم التحقق من نقص في الحكم الصائب "عندما تؤثر الحالات الشاذة النفسيّة، بشكل خطير، في الأهليّات الفكريّة والإراديّة"؛ في هذا الصدد، أشار البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء المحكمة الروتا الرومانا في 25 يناير 1988 إلى أنَّه من الضروريّ المضي قدمًا "مع الأخذ في الاعتبار أن أخطر أشكال علم النفس المرضي psicopatologia  فقط تصيب الحريَّة الجوهرية للشخص، و"يجب الاخذ بعين الاعتبار جميع فرضيات التفسير حول فشل الزواج، والتي تتطلب إعلان بطلانه، وليس فقط تلك الناجمة عن الأمراض النفسيَّة.

 

المقصود من مصطلح discretio التمييز، التقييم، الاختيار بين مختلف الاحتمالات والبدائل. والمصطلح iudicium، يشير في هذا السياق، إلى الواقعة النهائيَّة للعمليّة الفكريّة، أي إعطاء قيمة لما تم اخضاعه للتقدير الفرديّ. هذا الحكم النقديّ لا ينفصل عن الواقع، بل على العكس هو جزء من العمليّة التي بحد ذاتها موجهة نحو نشاط، نحو قرار إصدار رضى زوجي. وهذه الحكم النقديّ يأخذ في الاعتبار مساندة الإرادة في اصدار الرضى الزوجيّ؛ فلا يمكن الفصل بين العقل والإرادة، على الرغم من كونهما أهليتين يمكن التمييز بينهما في  النفس الإنسانيّة، إلاّ إنَّهما غير منفصلين وهما يعملان بشكل صحيح إذا كان هناك تنسيق بينهما، أو، كما تم تعريفه harmonica coordinatio. لذلك، الرضى الزوجيّ ينتج من تعاون منظّم بين أهليتي الروح الإنسانيّة العقلانية والإراديّة؛ واللتين تتعاونان في تحقيق قرار الزواج الحرّ، لأن هذا القرار يتبع حكمًا ليس نظريًا فحسب بل عمليّا، أي تقييم ملموس للمتعاقد نفسه الذي يريد عقد زواج مع شخص محدد.

 

ويدّل الحكم على وجود الذات العاقلة، وعلى وجود الشيء ومطابقته لتصوّر العقل، أي عمليّة تركيب وتحليل معاً. إننا لا ندرك المحمول الموجود في الحكم منفصلاً عن الموضوع، بل ندركه في أول الأمر متحداً به. فمن غير المعقول أن يستطيع الشخص إقامة فعل من منطلق الإرادة ولا يمكنه تقييم محتوى الفعل.

 

أمام التفسير العقلاني التقليدي للحكم الصائب، والذي يميل إلى اعتباره أهليّة الشخص بامتلاك حد أدنى من معرفة الزواج وحقوقه وواجباته الجوهرية، يشير القانون اللاتيني 1095 بند 2 فقط إلى الفكر العمليّ في وظيفته التقييمية والتقديرية، ولكن أيضًا إلى إرادة الشخص كمقياس للقوة (الأهليّة) على فرض التزامات على نفسه وممارسة الحقوق الزوجيّة. وبالتالي، فإنه يشمل النظر في الشخص أنّه يمتلك التقييم النقديّ الكافي لحقوق وواجبات الزواج وأهليّة تقرير المصير اصدار رضاه الزوجيّ. في الواقع، فإن تسلسل الدافع، التداول والاختيار وتنفيذ الرضى يتطلب من الشخص درجة الحريَّة التي تسمح له بأن يعتبر هذا الفعل فعلاً خاصّاً به، ضمن مسار معرفية- تقديرية- تنفيذية. فالشخص بامتلاكه المعرفة النظريّة الكافيّة بخصوص الموضوع والأهليّة على تقديره في نفسه، يقدم على تقدير الحكم العمليّ ويصوغ الحكم العمليّ. وعند تقييم نقص الحكم الصائب أو النضج، يمكن الاخذ بالاعتبار ثلاثة عناصر: وجود أهليّة كافية على الإدراك الفكري للزواج؛ أهليّة التقديرية أو النقديّة التي تتوافق مع الزواج، وأخيرا القدرة على تقرير المصير.

 

حسب الاجتهاد الروتاليّ، لدينا ثلاثة عناصر للاشارة إلى مضمون مفهوم الحكم الصائب:

 

-العنصر الأول، إنَّه يشير إلى إدراك cognitio "المعرفة الفكريّة الكافيّة بالحقوق والواجبات الزوجيّة، وهي الأقل تحديداً والأقل أهليّة على عزل الواقعة بدقة، إذا كان صحيحاً أن المعرفة الفكريّة الكافيّة بالالتزامات الأساسيَّة المرتبطة بفعل قانوني شيء واضح بشكل خاص بالنسبة للمادة الزوجيّة، حيث إنَّ التشريع الوضعي يحتوي بالفعل على قوانين أخرى (ق.1096 البند 1 وق. 1095 البند1) التي تحدّثت عن النقص في المعرفة الكافيّة. فالحكم هو بمنزلة فعل التعقل، يقبل الشخص من خلاله أو يرفض شيئاً ما يخصّ شخصاً ما أو موضوعاً من منطلق مفاهيم. وما يتممه الشخص في الحكم من التأكيد أو الرفض هو فعل وعي ذاتي: فالشخص لا يعرف بعض الاشياء فقط لكنّه يعلم أيضاً أنه يعرف هذا الشيء، أي إنَّه يعلم كيف يعرف؛ في الوقت نفسه إنَّه يفكر، يريد، يحبّ. فكل فعل معرفيّ إنسانيّ مصحوبٌ بالوعي الذاتيّ، وإنّ كلّ فعل إراديّ هو فعل شخصيّ أمام الموضوع المعيّن.

 

والحكم المطلوب لا يرتبط مباشرة بامتلاك مستوى ثقافي معين أو مستوى فكري (حتى لو كان يمكن العثور على علاقة بين الحكم الصائب والتكوين الفكري والثقافي في حالات معيّنة)، ولكن مع تطور نضوج الشخص الذي يسمح له بالتمييز بين حقوق وواجبات الزواج الأساسيَّة. أشار الاجتهاد القضائيّ الكنسيّ في بعض الأحيان إلى أن الزواج أيضًا للأشخاص الذين ليس لديهم مستوى ثقافي وفكري ولكنهم قادرون على التمييز بشكل كاف بين ما هو الزواج، وما هي حقوق وواجبات في حالة كزوج وأب. لذلك، يُطلب "[...] قدر من التكامل في المسار النضج النفسيّ الذي يسمح بإجراء تقييم مناسب للفعل الذي يتعين القيام به، والاستقلال الذاتيّ لاتخاذ قرار بشأن هذا الفعل بطريقة تجعل الفعل يمكن القول الفعل الخاص بالشخص الذي ينجزه". فالنضج النفسيّ هو ما يجعل الشخص مدركًا لتأثير الزواج في الحياة، وقادرًا على التعبير عن الحكم العمليّ حول معنى الواجبات والحقوق الناشئة عن الزواج نفسه؛ وقادرًا على موازنة إيجابيات وسلبيات الزواج مع ذلك الشخص بعينه.

 

-العنصر الثاني: الحكم الصائب، بالإضافة إلى الإدراك الفكري للالتزامات الأساسيَّة للزواج، يتطلب معرفة نقديّة وتقييماً مناسباً للاحتفال بالزواج. والحكم الصائب لا يشمل المعرفة الفكريّة المجردة فقط لموضوعه، ولكن بشكل أكثر تحديداً القدرة على تقييم المستوى العمليّ والوجوديّ لموضوع نفسه، مدعومة بالحقوق والواجبات الزوجيّة؛ وإنَّ انعدام القدرة الذي نتحدث عنه لن يحدث إلا عندما يعاني أحد المتعاقدين أو كلايهما من نقص خطير في التقييم النقديّ بشأن موضوع الرضى.

 

لذلك، في حالة الحكم إن كان نظريّاً فهو لا يسبب الإرادة، لأنّ المعرفة النظريّة، التي تتوقف عند الحكم النظريّ، لا تكفي. فلا بد من معرفة نقدية من خلال التداول أو المناقشة، التي تنتهي في قرار عمليّ لأنه يهدف إلى عمليّة محسوسة، يقبل الإنسان أو يرفض. وعندما يجد الإنسان نفسه أمام فعل يجب إتمامه، وهو يعلم بوساطة معرفة نظرية ما يجب أن يعمله وما هي بالضبط القيمة لأيّ موضوع؛ لكن المقياس الصحيح لمسؤوليته يتحقق عند امتلاكه تلك المعرفة النظريّة، لذلك فهو يصل إلى الإدراك بشكل شخصيّ وملموس لخير الفعل؛ وعلى المتعاقد أن يمتلك مثل هذه المعرفة النقديّة لفهم ولتقييم جوهر الالتزامات التي ينبغي تحمّلها.

 

التقييم النقديّ deliberatio أو aestimatioيشير إلى الحقوق والواجبات الزوجيّة الأساسيَّة (يتم التعرف على الموضوع كقيمة في حد ذاتها وجعلها خاصة به)، هو بالتأكيد أكثر تحديدًا وهو أيضًا العنصر الأكثر تحديدًا للواقعة التشريعية. والتقييم النقديّ هو امتلاك حكم الإرادة الذي تم التوصل إليه في نهاية العمليّة الفكريّة؛ فلكي يكون الفعل إنسانيّا حقيقيّيًا، التقييم النقديّ يجب أن يكون حرّاً أيضًا، أي إنَّ الشخص غير خاضع لضغط من شروط داخليَّة كي يتخذ قرارات معينة، ليس فقط عندما تكون الإرادة غير موجودة، ولكن أيضًا عندما تكون متأثرة بشدة. فالتقييم النقديّ الذي يشكّل حكماً عمليّاً يقتضي حكماً نظرياً حول العناصر الجوهرية وخصائص الزواج.  والحكم النظريّ، بحدّ ذاته، ليس له قوّة فعّالة لتحريك الإرادة إلى خيار محدّد أو خاصّ. على الأقل، الإرادة تحرّك العقل لحكم مرغوب فيه نحو موضوع مدرك كمرغوب في وساطة سبب لا يمكن أن يكون اختياراً أصلياً من ناحية الإرادة. لذا، لا يتضمن الحكم الصائب المعرفة العقلية المجرّدة لموضوع الزواج، الذي يشمل الحقوق والواجبات، ولا يتوقف عند المعرفة التصوّرية البسيطة للزّواج، إنّما هو يشمل الأهليّة النقديّة والتقديرية كعنصر أساسي وخاصّ والذي يقوم على تقييم زواج محدّد مع شخص محدّد، في ما يخصّ مؤهّلاته تجاه الزواج والحياة الزوجيّة. أي أهليّة تقييم، من الناحية العمليّة، تلك الحقوق والواجبات، كونها تمسّ الشخص المتعاقد، بشكل يستطيع إصدار حكم قيمة ترغب فيه إرادته. لذلك، فإنَّ الحكم الصائب المتناسب مع الزواج يكون ناقصاً إذا افتقر المتعاقد، القدرة على تحريك العمليّة النفسيّة اللازمة لتقييم فعل الرضى الزوجيّ.

 

في الواقع ، بقدر ما يتعلق الأمر بالتقييم، "تقييم الأسباب التي تقنع الشخص بعقد الزواج وتلك التي تقنع بعدم الزواج؛ من وجهة نظر الاختيار، مطلوب وجود قوة، متجذرة في العقل والإرادة، للتعاقد أو عدم التعاقد مع هذا الشخص أو ذاك". وبعبارة أخرى، في ما يتعلق بالحكم العمليّ، نقرأ في حكم أمام Pinto: "العلاقة الشخصيَّة مع الزوج تفترض معرفة عمليّة. وهذا يعني الحكم الذي تميز بالعبور من المجال المعرفي إلى المجال التشاوري. من الضروريّ معرفة مجال التأمليّ عن الزواج في حد ذاته وخصائصه الأساسيَّة، أو بعبارة أخرى، تقدير وتقييم بحكم صائب كاف من العقل أهمية الالتزامات الأساسيَّة للزواج، سواء في حد ذاتها أو للمتعاقد، في الجوانب الاجتماعيّة والقانونيّة والأخلاقيّة. وأخيراً، فإن التداول الحرّ والكافيّ للإرادة يقود إلى رضى حرّ".

 

القدرة على تقييم الدوافع الداخليَّة والخارجية هي القدرة العقلية (ليس فقط من الناحية النظريّة، ولكن العمليّة: ratio prudens) والإراديّة، اللتان يمارسهما الشخص بتناغم. لا يمكن التمييز في الشخص القدرة على الارادة والقدرة على الحكم، لأنهما جوانب لقدرة نفسها، لأن الإرادة تتبع الفكر العمليّ: كل قرار يأتي من فعل عقل عمليّ. في نهاية المطاف: القدرة على الحكم والتقييم والارادة هي جوانب لقدرة نفسها والحكم الصائب. هذا لا يعني أنه لا وجود لمثل هذه الظروف (ضغوط وتوترات عاطفية: ذاك الذي لا يقرر ترك خطيبته ويتزوجها بسبب "الرحمة"، من يتزوّج  بسبب أن الفتاة حامل...) لكن لا يمكنهم التخلص من حريَّة اختيارهم، هنا والآن. يجب إثبات أن الحريَّة وضبط النفس قد تأثرتا. وسيهدف إثبات نقص الحكم إلى إظهار الحالة المعتادة لضعف الشخص وهشاشته. لذلك، البيّنة يجب أن تعيد بناء السيرة الذاتيّة للشخص (لأن الحكم أو نقص في الحكم له علاقة بالحالة الاعتيادية والسيرة الذاتيّة للشخص)، مع إبراز حالة الهشاشة والظروف التي أثرت في قرار الزوج، مما جعله غير قادر على مقاومة الظروف. يكتب Viladrich: من الضروريّ أن نبدأ من الافتراض بأن الاستعداد للمعاناة في شخص ما، دون تهديدات خارجية خطيرة نسبيًا، وسهولة الانفعال الداخلي مثل التسبب بفقدان شديد في ضبط النفس وفعله الإرداي، ليست بالوضع الطبيعي للشخص. عندما يفكر شخص ما، في سيرته الذاتيّة، في الميل إلى فقدان حقيقةً إطمئنان في سياق عمليّاته التشاورية وصنع القرار، مع ميل سهل إلى الوقوع في حالات القلق، فمن المناسب إدراك هشاشة معينة أو ضعف نفسي حقيقي وموضوعي، غير مناسب لفعل الحريَّة المطلوبة لرضى زوجي صحيح، على الرغم من أن هذه الهشاشة الداخليَّة - المعتادة أو الظرفيَّة - لا تشكل إطارًا للأمراض النفسيّة يحددها إحصائيًا علم الأمراض النفسيّة والطب النفسيّ. هذا الوضع قد يسبب في الشخص بنقص حريَّة داخليَّة. وبهذا المعنى، فإن الاجتهاد القضائيّ الروتاليّ قد نظر بشكل رئيسي إلى واقعة نقص حريَّة داخليَّة في واقعة نقص الحكم الصائب. لأنَّ الحريَّة كعنصر أساسيّ يمكن افتقارها لأسباب ذات دوافع ذاتيّة في الفرد ولانعدام أهليّة الفرد على تحمّل هذه الدوافع. بمعنى آخر، بالإشارة تحديداً إلى الزواج، يمكننا القول إنَّ الشخص غير قادر على إعطاء الرضى خلال مرحلة الدافع إذا كان اضطراب في الذاكرة أو الخيال يمنعه من إمكانية فحص الأسباب المعاكسة لعقد الزواج أو عدم عقده، وإذا كانت الأسباب لديها طابع مرضي، كما يحدث في الأفكار الوهمية أو الانفصالية؛ في مرحلة المداولة، أي في اختيار الرضى قد تكون غير موجودة بسبب وجود نقص في النقد الذي يمنع التقييم الصحيح للأسباب أو عندما بسبب اضطراب عاطفي، تفتقر أسباب إلى نغمة كافية.

 

وعلى صعيد التقييم، "لكي يكون فعل الرضى صحيحاً، من الضروريّ وجود على الأقل شرطين: "1)-نضوج نفسي كافٍ لكلا المتعاقدين، لكي يكون كلاهما في درجة تقييم بشكل واعٍ ظروف الحياة التي هما بصدد الالتزام بها والتعبير مع ذلك بفعل إرادة على أن يكون مستقلاً وحرّاً نفسيّاً؛ 2)- نموذج سلوك معيّن ما قبل الزواج...بواسطته من الممكن التحقق أن بين الزواجين تم نضوج مشروع زواجيّ صحيح، كالتزام مستقبلي ومتبادل لحياة زواجيّة مستقبلية، قبلت بحريَّة". وتميّز السلطة التعليمية الكنسيّة بوضوح بين "النضج النفسيّ" كنقطة وصول للتطور الإنسانيّ و"النضج القانوني" الذي هو نقطة الانطلاق لصحة الزواج. ومن الضروريّ التحقق إذا كان الزوجان، في لحظة الزواج، قد بلغا درجة "كافية" من التطور الشخصيّ لكي يستطيعا الإعراب عن رضاهما بشكل قانوني صحيح وأن يتحمّلا كل النتائج الناجمة عنه. فليس كلّ شكل من أشكال عدم النضوج الشخصيّ، سواء نفسيًّا أم عاطفيًّا، ينجم عنه انعدام أهليّة الشخص على الزواج، لكن فقط ذلك الذي يجعل المتعاقد غير قادر على فعل اختياري حرّ أو على تحمّل الواجبات والالتزامات الزوجيّة. وفي الحقيقة، إنّ عدم النضوج قد يؤثّر، بعض الأحيان، في الشخص فيجعله غير قادر على امتلاك معرفة نقديّة للأشياء. فالنضوج الشخصيّ هو تطّور شخصيّة الإنسان إلى حالة تمكّنه من امتلاك الأهليّة العقليّة، الإراديّة والعاطفيّة بشكل مطلق؛ أو بإمكانيّة الكمال حتى آخر يوم من حياة الإنسان الأرضيّة وهذا النوع من النضوج لا يبدو شاملاً لجميع الأشخاص. كما أنَّ المعرفة والخبرة تساعدان على نمّو الشخص كلّ يوم نحو التحسّن الذاتيّ.

 

-العنصر الثالث، الاختيار electio (الأهليّة على الاختيار بين مختلف الحلول التي يقترحها العقل، الأهليّة على تقييم الحجج "الموالية" و "الضد"، وكذلك الأهليّة على تقييم الواجبات التي يتعين القيام بها في حالة معينة من الحياة). وما يؤخذ في الاعتبار إدخال الإرادة في مفهوم الحكم الصائب، منطقي تمامًا، وهذا لأن العقل والإرادة هما "أهليتان متميزتان" ولكن "لا يمكن الفصل بينهما" في الانسان ويعملان بشكل صحيح عندما يكون هناك تنسيق متناغم. لكن عن أي إرادة نتحدّث في الحكم الصائب؟ يمكننا أن نقول بشكل منطقي إنَّها الإرادة من وجهة نظر حريَّة الاختيار، وهي الحريَّة في الاختيار الزوجيّ، والذي يتكون من فعل نفسي. وهي تلك الحريَّة التي تسمح باختيار، بطريقة معينة، شخص ما بدلاً من شخص آخر وتختلف عن حريَّة التنفيذ، التي يمكن قراءتها في القانون 1095 بند 3، والتي هي الأهليّة على تقرير ذاتي للالتزامات المطلوبة مع الرضى. في الواقع، القول إنَّ الإرادة الحرة هي إمكانية أن تقبل شيئاً وترفض شيئاً آخر، فهو القرار الحرّ. "فيجب علينا النظر في طبيعة الإرادة الحرة من منطلق الاختيار electio. بالنسبة إلى الاختيار هناك مسار لشيء ما من جانب القوة الإدراكية، وشيء من جانب القوة الشهية. من جانب القوة الإدراكية المطلوب هو المشورة، من خلالها يتم الحكم ما هو الأفضل؛ ومن جانب القوة الشهية المطلوب أن يتم قبول برغبة ما يتم الحكم عليه من المشورة". "المشورة هي التحقيق في السبب قبل الحكم على الخيارات التي يجب اتخاذها. ينظر هذا الحكم إلى التطبيق العمليّ، وبالتالي يشير إلى الفكر العمليّ. والاختيار هو القبول النهائي الذي يتم من خلاله قبول شيء ما بعد البحث عنه. فالاختيار ليس فعل العقل، ولكن الإرادة".

 

الاختيار يتبع الحكم فقط عندما يصبح حكمًا عمليّا: مما يعني قيمة هذا الشيء بالنسبة لهذا الشخص في هذا الوقت المحدد. إذا اتخذ الحكم هذه الخصائص، فسيتم إصدار فعل الاختيار. لذلك، بعد أفعال العقل هذه، يصبح الرّضى ثمرة التقييم الحرّ، سواء مع أم ضد مختلف الإمكانيات، أي إنَّه يصبح ثمرة حكم عقلي عمليّ، معدّ بشكل ملموس لشخص محدّد ولزواج محدّد. فالاختيار هو القدرة التي يمتلكها الشخص كي يختار بين مختلف الحلول التي يقترحها العقل، تقييم الحجج المؤاتية وتلك التي تتعارض مع مصالحه الخاصة، وبالتالي بين عقد الزواج أو عدمه، مع شخص آخر. و"من المهم للغاية أن نفهم أنه عندما نختار المستحيل فلا وجود لاختيار حقيقي للإرادة، لأن انعدام القدرة الذي يؤثر مباشرة في القوى الحساسة الأخرى لها أيضًا عواقب فكريَّة وإراديّة. من الناحية النفسيّة نحن وحدة، وفي رأيي، فإن أحد عيوب المفهوم الحالي لانعدام الأهليّة يقوم بالتحديد في الانقسام بين المجالين الفكري والإراديّ والنفسيّ. كلاهما متحدان بعمق. في الواقع، يمكن للمرء أن يكون لديه طموحات عند اختيار الإرادة المستحيلة ولكن غير الأصيلة التي تمتلك كل قوة واتساق فعل موجود في الترتيب العمليّ. لذلك ، فإن الطموحات لن تكون فقط لأولئك الذين يختارون شيئًا يعرف بشكل إيجابي أنه بعيد المنال، بل سيكون أيضًا، وبكل معنىٍ، اختيار الشخص الذي يريد حقًا شيء - وربما يريده بكل قوته - وهو يعتقد أنه قادر على اختياره، لكن لسبب نفسي لا يستطيع اختياره". أعتقد أن عدم أخذ هذا التوضيح في الاعتبار قد يجعل الشخص من الصعب الفهم، على سبيل المثال، ما هو الزواج، أنه يعلم كيف يُقيّم بشكل صحيح ما يعنيه التزام الزواج، يريد الالتزام شخصيّا. ولكن، لأسباب نفسيّة، لا يستطيع تحمّل ما يوحي في جوهره في حالة الزوج. في هذه الحالة، المعرفة والإرادة لدى ذلك الشخص يتعرضان للخطر بشكل موضوعي بسبب المشكلة النفسيّة: لا توجد معرفة عمليّة زوجيّة حقيقيّة وخيار زواجي حقيقي بالقدر نفسه. "فليس هناك نقص تكامليّ لسمات الشخصيَّة مع النضج الطبيعيّ النفسيّ - العاطفيّ، ولكن أيضًا وجود اضطراب شديد ذي طبيعة نفسيّة -التي يمكن أن تؤثر في الإرادة، مع الحفاظ على كمالية العقل في قدرتها التداولية – تؤدي إلى نقص لدى الشخص المتعاقد حالة نفسيّة كافيّة مطلوبة لإتمام عمليّة صنع قرار كامل، حرّ ومتوافق مع جوهر الزوج، والذي يتم التعبير عنه من خلال رضى زوجيّ صحيح".

 

4- الحكم الصائب والنضوج

 

عندما يتحدث علم القانون والاجتهاد القضائيّ الروتاليّ عن الحكم الصائب أو النضوج فهما لا يعنيان الإشارة إلى مرحلة النضج الكامل والنهائي، ولا يتطلّبان من الزوجيّن معرفة كاملة بما يستلزم الزواج، ولا يتطلّبان تبصرًا واضحًا ومطلقًا لما تنطوي عليه أو يمكن أن تشمله الحياة الزوجيّة، ولا حتى يدّعيان أن هناك حريَّة داخليَّة في أعلى درجة، وعدم وجود توازن إراديّ عاطفي مثالي، ولا وعي تام بدوافع الاختيار الزوجيّ. ومن هنا، تأتي الفرصة وملكية لتعبير التي يستخدمها المشرع، حيث إنَّ مصطلح حكم صائب يشير إلى تمييز معين، ولكنه لا يعني الوصول إلى مرحلة النضج الكامل. علاوة على ذلك، يجب أن نميز دائمًا بين المفهوم القانوني: -أنّه  قانوني ويجب أن يكون مرتبطًا بالصحة، أي بحد أدنى من المتطلبات الضروريّة للحصول على عقد صحيح، أو إذا كان ذلك أفضل، إجراء صحيح أو فعل قانوني زوجي - يجب التمييز بين مفهوم النضج أو الحكم الصائب عن أي شيء آخر مأخوذ من التشريعات الآخرى المختلفة؛ حيث لا يتوافق مع تلك المتضمنة في المصطلحات المستخدمة في العلوم النفسيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة والدينيّة، حتى لو إنّ كلّ من هذه المفاهيم القانونيّة - الكنسيّة غالبًا ما تكون ضروريّة. لذلك، فإن الحكم الصائب لا يعني وجود حالة من الصحة العقليّة الكاملة، أي حالة من التوازن النفسيّ التام: ولكن فقط كمالية العمليّات النفسيّة التي تسمح بإجراء تقييم مناسب للفعل الذي يريد الفرد القيام به ويسمح للاستقلالية بأن تقرر ذلك، بحيث يمكن القول إنَّ الفعل خاص بالشخص الذي قام به.

 

تحدّث البند 2 من القانون 1095 عن "حكم صائب"، ولم يستخدم مصطلح "النضج في الحكم"؛ لأن "النضج" قد يعني ضمناً أن الحكم التقييمي يتطلب في المتعاقدين معرفة كاملة وشاملة لما يمكن أن تنطوي عليه الحياة الزوجيّة، وحريَّة داخليَّة في أعلى درجة؛ في حين أن مصطلح "حكم صائب" يدل بشكل أفضل على المعنى النسبي لمطلب نفسه. وفي الواقع، يعتبر مصطلح "الحكم الصائب" هو الأفضل، لأنَّ النضج يضعنا أمام معيار طبيّ: بالنسبة للطبيب، فإن الناضج هو من في حالة النضوج الكامل، بينما بالنسبة للقاضي يكفي أن يكون ناضجا بما فيه الكفاية، أي أن يتوافق مع وجود الأعراض من عدم النضج، ولكن ليست خطيرة إلى درجة جعل الشخص غير قادر. والسبب الثاني أنّ الشرع الكنسيّ لم يذكر في البند الثاني من قانون 818 عبارة "النضوج" على وجه الصراحة كشرط للقيام بفعل زواج صحيح، ذلك خوفًا من ازدياد عدد الأشخاص في طلب بطلان زواجهم لعدم امتلاكهم النضوج، لأنّه لا يمكن تحديد أيّة لحظة من حياة الشخص، يجب أو يمكن أن يكون ناضجاً للقيام بمثل هذا الفعل.

 

ألقى قداسة البابا بولس الثاني في خطابه سنة 1987 الضوء على العلاقة بين مفهوم النضوج والأهليّة على الزواج: "إنّ النتائج التي توصل إليها الخبراء المتأثرة بالمفاهيم التي تكلّمنا عنها، تنشئ فرصة خطأ حقيقيّ للقاضي الذي لا يتوقّع الغموض الأنثروبولوجيّ الأوليّ. من خلال هؤلاء الخبراء، نصل الى الخلط بين النضوج النفسيّ الذي هو بمنزلة نقطة وصول التطّور الإنسانيّ مع النضوج القانونيّ الذي هو، بالعكس، نقطة الانطلاق الأدنى لصحّة الزواج" (رقم 6). وعندما يكون الشخص قادراً بالمفهوم القانوني أن يتمم الفعل بحريَّة الاختيار وبالتشاور في قبوله وتحقيقه، يمكن التكلّم بأنه أتمّ الفعل بوعي وبرضى، أي بامتلاكه الكافي للحكم الصائب. وهيكلية الرضى الزوجيّ، في الواقع، تقوم على أساسين، المعرفة أو الأهليّة النقديّة وحريَّة الاختيار أو الأهليّة التقييميّة. والحكم الصائب الكافي يتألف من عنصرين متميزين ومترابطين، أحدهما فكريّ الذي يخصّ نضوجاً في المعرفة والآخر إراديّ الذي يتعلق بنضج الحريَّة (الإرادة). وإذا تحدث المرء عن نضج الحكم، فلا يتحدث عن حكم صائب بالمعنى المطلق، بل عن الحكم الصائب مقارنةً بـ iura et officia matrimonialia essentialia. ينتج من ذلك، "أن الحكم الصائب يتضمّن الحدّ الأدنى من النضوج الشخصيّ (العاطفيّ والقانونيّ) الذي يجعل الشخص قادراً على قبول الواجبات الجوهريّة الناجمة عن الوثاق الزوجيّ، بقدر ما يكون ممكنًا أن يطبّقه في حياته الزوجيّة كلّها. على أن لا نخلط بين النضج العاطفيّ الذي هو نتيجة التكامل الوجدانيّ، مع النضج القانونيّ الذي هو نقطة الانطلاق لصحّة الزواج".

 

أخيرًا، يجب التمييز بين النضج العقلي والنضج العاطفيّ: الأول يتم امتلاكه عند بلوغ درجة من التكامل الشخصيّ وفي العلاقة الشخصيَّة مع الآخرين، الذي يسمح باستبدال آليات الشهوة والسلطة والأنانيّة بالمعرفة الموضوعيَّة عن الذات والشريك. أمَّا النضج العاطفيّ، من وجهة النظرة العلائقيّة، يمكن تصنيفه كعنصر من مكوّنات الشخصيَّة، محدد بمجموعة عوامل نفسيّة، التي تسمح بمواجهة العلاقات المحبة والعاطفيّة. وهذا يفترض مشاركة مسؤولة في الحياة المشتركة، وقدرة على ضبط النفس وقبول الآخر. فمن الضروريّ التمييز بين الحد الأدنى والحد الأقصى من التواصل بين الأشخاص، بحيث إذا لم يسهم الزوج بشكل كافٍ في الحوار والتبادل العاطفيّ، فإن هذا يمكن أن يقلل بالتأكيد من انسجام الزوجيّن وتناغمهما، لكن لا يؤثر في القدرة الرضائيَّة للشخص نفسه. فإذا كان الزوجان، بسبب مشاكل عرضية، لم يتمكّنوا من تحقيق النموذج المطلوب من العلاقة بين الأشخاص، فإن هذا لن يحدد وجود انعدام الأهليّة للتعاقد. كشرط عدم النضوج العاطفيّ كسبب بطلان الزواج يضعه في علاقة سواء مع أهليّة التعبير عن الرّضى الصحيح قانونيّاً، أي مع "فعل" وفي "لحظة" الرّضى، أو مع أهليّة الإتمام بشكل مترابط مع النتائج نفسها لذلك الفعل، أي "موضوع الرّضى نفسه"،بالعودة إلى  ما جاء في القانون 1095 رقم 2 و3.

 

أمّا مفهوم عدم النضوج، فيراد به حالة انعدام الأهليّة الأساسيَّة للشخص في ما يخصّ فعل الرّضى أو الحياة الزوجيّة. والاجتهادات الروتاليّة الحاليّة قبلت بعدم النضوج كسبب انعدام الأهليّة الزوجيّة بشكل صعب وبطريقة استثنائيّة، وليس كنظام، حاضرةً المبدأ بانعدام أهليّة الشخص لعدم النضوج، فقط تلك المتعلّقة بوقائع النقص الأخير في الحكم الصائب أو الانعدام في الأهليّة على تحمّل الواجبات الجوهريّة للزّواج. لذلك، عندما تتحدّث الاجتهادات القضائيّة الروتاليّة عن النضوج أو الحكم الصائب فهي لا تشير إلى نضوج كامل ولا تطلب من المتعاقدين معرفة كاملة بما يقتضيه الزواج، ولا تطلب معرفة مطلقة وواضحة بما تنطوي عليه الحياة الزوجيّة، ولا حريَّة باطنيّة ذات درجة عالية ولا توازنًا كاملاً في الإرادة العاطفيّة، ولا المعرفة الكاملة لأسباب الاختيار الزوجيّ. وحتى ليس كلّ شكل من أشكال عدم النضوج الشخصيّ، سواء نفسيًّا أم عاطفيًّا، ينجم عنه انعدام أهليّة الشخص على الزواج، لكن فقط ذلك الذي يجعل المتعاقد غير قادر على فعل اختياري حرّ أو على تحمّل الواجبات والالتزامات الزوجيّة. وفي الحقيقة، إنّ عدم النضوج قد يؤثّر بعض الأحيان في الشخص فيجعله غير قادر على امتلاك معرفة نقديّة للأشياء.

 

أخيراً، ينبغي أن نميّز بين عدم النضوج العاطفيّ وعدم النضوج في الحكم. الأول يمكن تعريفه بأنه عدم الأهليّة على التحكم في المشاعر وسجن الذات داخل المشاعر السلبية مثل الخوف والغضب والحزن والغيرة وعدم الأمان والشعور بالذنب وعدم الأهليّة على تخطي هذه المشاعر السلبية فشريك الحياة الذي يعاني من عدم النضج العاطفيّ يشكل صعوبة للطرف الآخر لأنه ليس لديه أهليّة التصرف في المواقف المختلفة بطريقة مناسبة. فحالة هؤلاء الأشخاص هي في حالة من التطّور العاطفيّ غير المكتمل، لذلك فإرادتهم مكبوتة، وإن كان العقل نشيطاً.

 

نطرح سؤال: هل هناك نقص في الحكم الصائب ممكن فوق هذا الحد الأدنى من العمر وفي غياب شذوذ نفسيّة؟ ينطلق المؤلّفون من حقيقة أن أهليّة الحكم، مثل استخدام العقل، لا يتم اكتسابها إلا في سن معين. والحد الذي يفترض هذه الأهليّة، هو الحد الأدنى للسن القانونية للزواج؛ هذا واضح في المقارنة بين القوانين 1060 و1095 و1083. وحيث إنَّ عدم النضوج الناشئ عن صغر السن نادرا ما أن يعترف به سبب بطلان للزواج في الاجتهاد القضائيّ الكنسيّ. ليس هذا بسبب الطبيعة المؤقتة لهذا النقص، لأن فقط لحظة الرضى هي التي تحدد. هذا بالأحرى لأن الشخص غير ناضج فقط وليس مضطرب بعائق، لا يمكن أن يحدد ما يسبب هذا النقص في الحكم. ويقود وجود نقص خطير في مضمون النص القانونيّ إلى فهم أنّه يجب أن يكون النقص خطيراً  في حياة الشخص النفسيّة. فاستنادًا إلى اجتهادات روتالية حالية، لا يشير مفهوم "النقص في الحكم الصائب إلى النقص في الحكم، وإنّما النقص في الأهليّة على الحكم.  مثلاً: الأمراض العقلية. لدينا في حكم Bruno عام 1986، وصف عدم النضوج كنقص، بعلاقته مع العمر، بدرجة التكامل لملامح الشخصيَّة، حيث إنّ السلوك الاجتماعي في عمر ما قبل الرشد لا يتناسب مع العمر المرتب زمنيّاً وفي عمر الراشد يحتفظ بأطباع الطفولة والشباب"؛ إنّه يجعل الأهليّة العقلية مضطربة سواء لقصر الفترة الزمنيّة، أو لانعدام الكفاءة في توضيح النشاطات التي يجب ممارستها، أم بسبب خلوه من الكبت.

 

باختصار، "انعدام النضج العاطفيّ" هو، في آثاره القانونية، يجسد أسباب ذات طبيعة نفسيّة قد تسبب نقصاً في الأهليّة. وقد يكون من النادر ، وإن لم يكن مستحيلًا أو صعبًا، في بعض حالات عدم النضج العاطفيّ أن يحرم شخص من الاستخدام الكافي للعقل لعقد زواج صحيح (ق. 1095 بند 1). ومع ذلك، تُظهر التجربة وجود ارتباط واقعي متكرر بين عدم النضج العاطفيّ والهشاشة الداخليَّة من أجل التمكن من العمل بحريَّة، أي الميل إلى الوقوع في حالات القلق، مع ما يترتب على ذلك من فقدان الحريَّة. بعد إبداء هذه الملاحظة، يمكننا أن ندرك قدر الإمكان أن أوجه النقص للحكم الذاتيّ الكافي لدى الشخص في ما يتعلق بحركاته غير المنضبطة والمتناقضة ومشاعره غير المستقرة، إذا وصلوا إلى أقصى درجات الحرم من الحكم الذاتيّة بما يكفي لإعطاء وتلقي الحقوق أو الواجبات الزوجيّة، يمكن اعتبارها في ضوء القانون 1095 سبباً نفسيًّا تسبّب بنقص خطير في الحكم الصائب، في حال كان هذا النضوج له تأثير على أهليّة تأسيس رابطة الزوجيّة هنا والآن. وهذا يعني: حتى لو اعتبرنا عدم النضوج العاطفيّ سبباً لبطلان الزواج، في الواقع يمكن أخذ عدم النضوج هذا في الحالة الفردية على أنها أصل عدم استخدام العقل، أو عدم وجود حكم صائب أو عدم الأهليّة على التحمّل. يمكن قول الشيء نفسه عن انعدام الحريَّة الداخليَّة، على الرغم من أنه في هذه الحالة يبدو الأمر أكثر سهولة في سياق عدم وجود الحكم الصائب؛ في هذا الصدد، يقول Errázuriz: «حقيقة أن فرضية ما يسمى عدم وجود حريَّة داخليَّة للتعاقد - عدم وجود إرادة حرة - ليست مدرجة في الشرع الكنسيّ العام، يدل على أن هذه الفرضية مدرجة في البند 2ن القانون 1095 هو قبول ضمني - في رأيي - المبدأ التقليدي ubi intellectus ، ibi voluntas (حيث يوجد الفكر ، الإرادة موجودة أيضًا).

 

فمن أحد الأسباب التي يمكن أن تؤثر في الحكم الصائب في عنصره الإراديّ هو عدم النضوج العاطفيّ الذي يتجلى من خلال الحاجة المفرطة للحماية، الافتقار إلى الاستقلال الذاتيّ، الاعتماد المبالغ فيه على الأب والأم، الحد من الاهتمام بشخصه (النرجسية، التركيز على الذات) يحدد حالة من عدم الأمان والقلق والاكتئاب، السيطرة العاطفيّة الضعيفة مع ظواهر فرط الحساسية، عدم استقرار في الحكم، القرار، عدم التوازن، اللامبالاة، إلخ.

 

يتتبع Aznar الاجتهاد القضائيّ الكنسيّ في هذا الصدد من خلال تجميع أسباب النقص في الحكم الصائب: أ) أزمات شخصيّة مؤقتة، التي يمكن أن تكون عرضية (عدم وجود الحريَّة الداخليَّة، المراهقة، عدم الاستقرار العاطفيّ والصدمات مثل الحمل ...)؛ ب) شذوذ نفسيَّة (ذهان، انفصام الشخصيَّة، جنون العظمة، عصاب، إدمان الكحول والمخدرات، الصرع، هستيريا، اضطرابات نفسيّة). لكن هذا لا يعني أنه إذا وجدت أعراض عدم الاستقرار أو جنون العظمة أو العصاب تلقائيًا، فنقول أنَّ هناك نقصاً في الحكم الصائب وعدم الأهليّة على الرضى: إنه يعني أنه في هذه الحالات يمكن أن نجد، التأثير المعطل: يعتمد على كيفية في الحالات الفردية anomalie  لها تأثير في أهليّة الشخص. ما يهم ليس الاسم الطبي الشاذ (على سبيل المثال إذا تم التأكد من أن الشخص كان خجولًا أو في رعاية نفسيّة) ولكن التأثير على العقل و / أو الإرادة: على المعرفة النقديّة للحقوق - واجبات أو الحريَّة.

 

نظرًا إلى أن المجال العاطفيّ والإراديّ للإنسان، معرّض للخطر، عندما نواجه انعداما للأهليّة الرضائيَّة لعدم وجود حكم صائب نتيجة لاضطراب الموجود في الشخص. وإنَّها لا تظهر دائمًا بشكل تراكمي في نفس الشخص، وأنه قد يكون بعضها مرتبطاً مع اضطرابات أخرى من المراض النفسيّة. يمكن تلخيصها على النحو التالي: 1) عدم الأهليّة على السيطرة على النزعات العاطفيّة والسيطرة عليها؛ 2) الحساسية المفرطة لمنبهات المتعة. 3) الشعور بعدم الأمان إقراري، والميل إلى البقاء في أنماط الطفولة العاطفيّة؛ 4) صعوبة في إقامة علاقات شخصيّة واجتماعية صحيحة؛ 5) انعدام الأهليّة على مواجهة المواقف الجديدة والتكيف معها، الأمر الذي يتطلب جهودًا تنظيمية؛ 6) انعدام الأهليّة، أو عدم الاستعداد، لتحمّل الزواج كوثاق ثابت لا رجعة فيه، يقوم على أساس شركة حياة حقيقية. في ما يتعلق بهذه الوقائع، قد يكون لها أهمية جميع الأوضاع النفسيّة المرضية المسؤولة عن تغيير ملموس في الأهليات النفسيّة التي تخضع لعمليّات الإسناد الكامل للمعنى والتقييم النقديّ والاختيار المستقل للواجبات الزوجيّة التي ينقلها الزوجان بعضهما لبعض. في هذا الصدد ، يمكن الإشارة إلى أشكال أقل خطورة: الصور الإكلينيكية على أساس عضويّ، مثل التأخير العقلي المعتدل، الصرع، عندما تؤثر بشكل كبير من المجال الفكريّ والإراديّ؛ التسمم المزمن من المواد الكحولية أو المخدرة، أو الاضطرابات العاطفيّة؛ اضطرابات المزاج، بأشكالها المختلفة والمعقدة (اضطرابات الاكتئاب الحادة والاضطرابات الناجمة عن نقص النوم)، التي يمكن أن تتميز بفقدان تدريجي للشعور بالواقع؛ الصور الذهانية حتى لو لم تكن في مرحلة حادة، مثل تلك الخاصة بنوع scbizophrenic أو paraphrenic أو بجنون العظمة؛ الأشكال الحادة للذهان النفسيّ (عصاب رهابي، عصاب الوسواس القهري، عصاب هستيري، وما يسمى بالعصاب النفسيّ الجسدي، إلخ)، حيث يبين الأصل (يتألف من تغيير أساسي في بنية الأنا، المسؤول عن غياب التوازن بين مختلف مكونات علم النفس)، والنتائج الموضوعية في المجالات الفكريّة  أو الإراديّة؛  ظروف المثلية الجنسية.

 

5- النقص الخطير في الحكم الصائب

 

يجب فهم مصطلح "نقص defectus" وفقًا للقواعد التفسيرية العامة في الشرع الكاثوليكي (ق. لاتيني 17)، على أنَّه النقص الذي يضعف سيطرة السيادة على القرار ووعي بحقوق والواجبات الأساسيَّة الواجب إعطاؤها وقبولها. ويمكننا أن نجد بعض الاختلاف النظري بين كلمتين (عيب وشائب) الذي يعمد لاستعماله بعض المؤلّفين: تشير شائبة الرّضى للنقص في بعض العناصر الجوهرية لموضوع الرّضى، جاعلاً إيّاه بشكل طبيعي غير كافٍ  naturaliter insufficiens ولذا يفتقر إلى مستلزم جوهري لتصحيح في الأصل. بينما عيب الرّضى، فهو يشير إلى الشرائع الإيجابيّة الإنسانيّة المتعلّقة بشكل مباشر بالرّضى، جاعلاً إيّاه غير فاعل قانونيّاً، الذي بحدّ ذاته، بدون هذا النظام الإيجابيّ، سيكون طبيعيا كافياً naturaliter sufficiens لإنتاج الوثاق.

 

لم يقدّم المشرّع وصف "نقص في الحكم الصائب" بشكل عام، ولكن الحد الأدنى لدرجة الحكم المطلوب أو الاساسي لإنتاج فعل الرضى الزوجيّ. اُستخدمت كلمة "تعاني" في هذا السياق تمامًا، لأن مثل هذا النقص له سبب في علم الأمراض للشخص الذي يضع فعل الرضى، أي إنَّ الشخص يعاني إما لغياب تطور نفسي أو بسبب الانحدار من التطور النفسيّ الذي تم تحقيقه، وهذا الأخير يستمر إما مؤقتًا أو دائمًا. بمعنى آخر، يفتقر الشخص إلى الحكم الصائب الذي يجب أن يتحقق في مرحلة معينة من التطور الإنسانيّ.

 

كما وإنّ النقص في الحكم لا يشير فقط إلى النقص في المعرفة، وفي التقييم ضمن النظام العقليّ، للواجبات والحقوق الجوهريّة للزواج، لكن إلى النقص في التصميم الحرّ. فالنقص كسبب لبطلان الرّضى الزوجيّ، يجب أنّ يجعل الشخص عاجزاً عن الاختيار الحرّ أو تحمّل الواجبات الجوهريّة. وهذا يعني أن لا نعدّ زواج الأشخاص الذين يعقدون زواجهم بدون معرفة عميقة لبعضهم بعضًا، أو مع معرفة ذاتيّة بسيطة للطرف الآخر، باطلاً بسبب نقص الحكم، لأن النقص في الحكم الصائب لا يتعلّق بالشخص المختار مثل الزوج، لكن بالحقوق الأساسيَّة لمؤسّسة الزواج نفسه. انطلاقًا من هذه، نفهم كيف المشرع الكنسيّ يضع الحماية المناسبة للحكم الصائب حتى يكون قرار الزواج مدركًا ومسؤولًا بما فيه الكفاية. لا يتم وضع هذه الحماية على المستوى الطبي، أي إنَّها لا تتطلب بالضرورة تحديد الأمراض العقلية المفهرسة سريريًا، نظرًا لأن المشرع الكنسيّ، يدرك تمامًا كيف يمكن حتى في غياب الأمراض، الشخص أمام الزواج محروم من ضرورة الوعي النقديّ. وبالتالي، فإن قراره ليس حرّاً بشكل فعّال، ولكنه مشوب بنقص لاسباب داخليَّة. هذا هو السبب في أن فئات أوسع من العصاب، عدم النضج النفسيّ، وما إلى ذلك، تجد مكانها في هذا السياق.

 

لذلك، التعبير المستخدم في القانون 1095 (نقص) يشير إلى الحكم الصائب: وما يجعل الشخص غير أهل ليس بسبب وجود محتمل لشذوذ نفسيّ، أو خطورته، ولكن إنَّ الشخص ينقصه التمييز في الحكم بشكل خطير. كما يحدث، على سبيل المثال، مع الخوف أو التدليس (لا يكفي أن تكون هناك محاولة للخداع إذا لم يتم إنتاج التأثير)، فإنه لا يكفي العثور على الشذوذ: فلا بد من التأثير الذي ينتج انعدام الأهليّة على المؤهلات النفسيّة للشخص. بالتأكيد هذا النقص ينطوي على شذوذ نفسي، لكن المعيار لقياس النقص يجب أن يكون فعالية الشذوذ، أي الإصابة الجسيمة تقع على الحريَّة، تصيب على وجه التحديد القدرة على الفهم أو الارادة بالتزام في علاقة حميميّة شخصيّة مع مرور الوقت. في جوهر موضوعنا، أعتقد أن المقياس الذي أشار إليه يوحنا بولس الثاني في الخطاب المعروف أمام أعضاء محكمة روتا رومانا لعام 1987، الذي نقله البابا بنديكتوس السادس عشر في خطابه لعام 2009 أمام المحكمة الروتا رومانا، :"لا يمكن افتراض انعدام قدرة حقيقي إلا في وجود شكل خطير من الحالات الشاذة، التي مهما كان التعريف، يجب أن تؤثر بشكل كبير في قدرة المتعاقد على فهم أو إرادة".

 

والمعنى القانونيّ للنقص في الحكم، حسب البند الثاني، له علاقة بالنقص في الأهليّة على الحكم حول الحقوق والواجبات التي هي أساسيّة للزّواج. أي ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ليس السبب الذي أدّى إلى نقص خطير في الحكم، لكن ذات النقص يجب أن يكون خطيراً بقدر ما يحرم الشخص من النضوج العقليّ والإراديّ الضروريّين للالتزام بالحقوق وبالواجبات الجوهريّة للزّواج، ولإعطاء الرّضى وقبوله بشكل متبادل.  إنّ النقص في التمييز والحكم يجب أن يكون خطيرًا، وهذه الخطورة التي تجعل الزواج باطلاً بسبب نقص طبيعي. وليس كلّ نقص يمكن أن يكون كافياً لأن يحدث بطلان الرّضى الزواجيّ؛ إن لم يكن بسبب نقص، كأن يجعل الشخص عاجزاً عن الاختيار الحرّ أو تحمّل الواجبات الأساسيَّة. بمعنى أن الحكم أو النضج الكامل غير مطلوب حتى يكون الزواج صحيحاً. ولأن النضج الكامل في الأمور الزوجيّة يحدث فقط بعد عيش تجربة زوجية بشكل جيد، لذلك فقط سيكون أولئك المتزوجين قادرون على الزواج، ولن يكون أحد قادرًا على الزواج عندما يتزوج لأول مرة. لذلك، أراد المشرّع الكنسيّ التوضيح انَّ النقص الذي يسبب هذا الانعدام ليس أي نقص وليس هو بغياب تام للحكم الصائب. لذلك لا نجد في البند 2 من القانون 1095 أشكال انعدام القدرة لأسباب يمكن معالجتها بسهولة، مثل الجهل أو التحضير غير الكافي، أو الصعوبات الطبيعية الكامنة في أي التزام في الحياة.

 

وكي يتضّح كنقص في الرضى، النقص يجب أن يكون وفقًا للقانون خطيراً. هذه الخاصية هي وظيفية للتعبير الإيجابي عن الأنثروبولوجيا الصحيحة، لأن شرط الخطورة يشير إلى أنَّ ليس كل تكييف نفسي يعوق الحريَّة الضروريّة ومسؤولية الشخص. فالخطورة "gravis" قد تبدو غير واضحة من حيث إنَّها ضمنية في الفعل "نقص" بمعنى عدم الكفاية الطبيعي في الرضى؛ بينما ينبغي اعتبار أن له معنى، إذا جاز التعبير "عمليّ" وتشريعي، يهدف إلى تجنب تفسيرات واسعة النطاق وتأكيد أن انعدام أهليّة الشخص يجب أن يكون فعالا من أجل أن يتم الإعلان عنه قضائيا. والخطورة المقصودة في هذا البند ذات طابع نسبيّ وشخصيّ يضاف إلى الطابع الموضوعيّ الداعي إلى جوهر الزواج. وهذه النسبية تعني تفحّص الشخص المعيّن المتّهم بالنقص في حكمه، وهذا يعني أن حالته المرضيّة المحددة يمكن أن تؤثر في الشخص بصورة خطيرة وأن لا تؤثر في شخص آخر بشكل خطير.

 

ومصطلح "خطير" لا يشير إلى خطورة الاضطراب العقلي أو الشذوذ النفسيّ للشخصيّة أو سلوك الشخص، والتي هي فئات من التشخيص الطبي، وبالتالي ذات آثار قانونية. ولكن ما هو decisivo حاسم ليس الخطورة الطبية للاضطراب النفسيّ التي سببت نقص الحكم الصائب، بقدر التأثير النهائي للأسباب النفسيّة في الشخص، حيث لم يكتسب أو يخسر ذاك النضوج المألوف المتناسب مع تفكيره والالتزام الفعال بإرادته باعطاء وقبول للحقوق والواجبات الزوجيّة.

 

يرشدنا حكم Stankiewicz في 23 شباط 1990 إلى طبيعة الخطورة لنقص في الحكم الصائب: "في الجانب الشخصيّ، يتم تقييم النقص الخطير في الحكم الصائب مع مراعاة خطورة الحالة النفسيّة للمتعاقد، حالة حيث الاختلال في مجال الذكاء، والإرادة وكذلك في العواطف أو الانفعالات. بعد ذلك، إن النقص في الحكم الصائب يُقيِّم، من وجهة نظر موضوعية، مع مراعاة سواء الهوية الفريدة تمامًا وكرامة شخصيّة الزوج، أو خطورة الحقوق والواجبات الأساسيَّة للزواج، التي تقوم أساسًا على خير الزوجيّن وخير البنين، والأمانة والسر، يجب أن يحميها نشاط الأهليّة النفسيّة ببعد مناسبة".

 

يتضمّن النقص في الحكم الصائب مختلف أشكال القلق الشخصيّ الذي يستطيع، بشكل خطير، إفساد الأهليّة العقليّة والإراديّة. لذلك يمكن القول، إنّ الخطورة في نقص الحكم الصائب  يجعل المتعاقد شخصاً غير متوازن، على الصعيد المعرفيّ والإراديّ والعاطفيّ، مع الحقوق والواجبات الجوهريّة الناجمة عن الوثاق الزوجيّ.

 

لدينا وجود نقص خطير في الحكم عندما تظهر الأشكال المرضية في المجال النفسيّ، مثل: الذهان الفصامي أو الذهاني الهوسي.. في مثل هذه الحالات، صاغ الاجتهاد القضائيّ الروتاليّ الافتراض العام بأن نوبات الذهان العلني تسبق فعل الرضى واللاحقة تؤدي إلى افتراض انعدام الأهليّة حتى إذا تم الاعراب عن الرضى في وقت المعالجة. علاوة على ذلك، يمكن للأمراض "البسيطة"، مثل الأعصاب، أن تؤثر في التطور الطبيعي للنشاط الجنسي، والتي تتجلى في شكل أفكار استحواذية، أشكال خطيرة من القلق. "وفقًا للاجتهاد القضائيّ الروتاليّ، يشمل تعبير النقص في الحكم الصائب، مختلف الوقائع التي تتجاوز إلى حد كبير الأمراض العقلية بالمعنى الحالي للكلمة: (أ) النضج في العلاقة الزوجيّة (النضج الجنسي المتخذ في بعده الإنسانيّ). ب) التقدير النقديّ للزواج، والذي لا يقتصر على المعرفة النظريّة البسيطة حول هذه الحالة من الحياة. ج) الحكم النقديّ للشخص على نفسه وقدراته أمام الزواج كي يتم الاحتفال به والحياة الزوجيّة الملموسة التي يتعين القيام بها. د) الحريَّة الداخليَّة التي بدونها سيتم تغيير دوافع الشخص.

 

في ما يلي بعض الحالات المقبولة كسبب لبطلان الزواج: "الاضطراب العاطفيّ الثنائي القطب"، "اضطراب الفصام الشخصيّ"، "اضطراب الشخصيَّة النرجسية"، "القلق والاكتئاب الناتج من وفاة السابق الزوج / الزوجة»،«شخصيّة الوسواس القهري»، و« الشخصيَّة السلبية العدوانية والتابعة للأم»، و"اضطراب الشخصيَّة الهستيرونية"، "عدم النضج العاطفيّ والجنسي"، "اضطراب الشخصيَّة المرتبط بالمعاناة الدماغية الشديدة"، "مختل عقليا"، "هذيان الغيرة مع تعاطي الكحول" ، "جنون العظمة الكحولية".

 

6- ما هي هذه الحقوق والواجبات الأساسيَّة للزواج؟

 

وفي ما يتعلق بعلاقة نقص التمييز بالحكم مع الحقوق والواجبات الزوجيّة الأساسيَّة، ليس من السهل تحديد محتوى هذه الحقوق والواجبات بدقة تامة وبالمطلق. يعتقد البعض أنه يمكن إدراجها في القائمة: على سبيل المثال، "الحق والواجب في الأفعال الزوجيّة الحميمية؛ الحق والواجب في عدم عرقلة إنجاب الأبناء؛ الحق والواجب في إنشاء وصون وتنظيم شركة حياة حسب أهدافها الموضوعية؛ الحق والواجب للأمانة الزوجيّة؛ الحق والواجب بالمعونة  المتبادلة فيما يتعلق بالأفعال والسلوكيات المناسبة في حد ذاتها والضروريّة لتحقيق الأهداف الأساسيَّة للزواج؛ الحق والواجب في قبول البنين ونموهم داخل جماعية حياة زوجية، والحق والواجب في تربيتهم".

 

بالتالي كي يتم الحديث عن نقص في الحكم الصائب الذي يجعل الزواج باطلا، يجب أن يكون ذلك في علاقة، ليس مع الشخص الذي اختاره كزوجاً، ولكن -كما أشار القانون 1095 البند 2- مع حقوق وواجبات الزواج ولاسيما تلك "الأساسيَّة" الناشئة عن الخصائص التأسيسية لمؤسسة الزواج والتنظيم الطبيعي للزواج. وهذا يعطي مبدأ منهجيّاً ليس عمليّاً فحسب، بل أيضًا، إذا جاز التعبير، تأمليّاً، لأنه يوجهنا إلى استنتاج الحقوق والواجبات من منطلق ما يمكن اعتباره جوهر الزواج (بشكل طبيعي في حالة التنفيذ in facto esse، لأن جوهر الزواج في حالة التصميم in fieri، في ما له علاقة معها لا ينشىء أي حق وواجب، ولكن فقط تُطلب الأهليّة في اصدار رضى زوجي)، بالإضافة من منطلق الخصائص الأساسيَّة، أي الخصائص التي تدل من حيث المبدأ لى هذا الجوهر. على أساس هذا المبدأ، يمكننا أن نستنتج، على الأقل، بعض الحقوق والواجبات من جوهر زواج في مرحلة التنفيذ in facto esse، أي شركة حياة كلّها ولكن من وجهة نظر علميَّة، لم تتم دراسته بعمق بما فيه الكفاية.

 

لم يحدّد المشرّع، بشكل تشريعيّ، الحقوق والواجبات الأساسيَّة للزواج، لكن بإمكاننا استخلاصها من الاعتبارات الجوهريّة للمؤسّسة الزوجيّة، وأنّ إتمامها مطلبٌ ضروريّ. لكن تناول الاجتهاد القضائيّ الكنسيّ دائمًا مسألة الحقوق والواجبات الأساسيَّة، والتي نشأت بفعل الرضى الزوجيّ، لاسيما بعد إصدار القانون الجديد، مما جعل الرضى الزوجيّ الصحيح يعتمد على الأهليّة على الفهم بأقل قدر ممكن الحقوق والواجبات وتحمّل البعض منها بشكل فعّال خصوص الأساسيَّة منها. ومن الواضح أن هذه الحقوق / الواجبات الأساسيَّة يجب أن تنبثق من موضوع الرضى القانوني. بالتالي، الوصول إلى فكرة واضحة عن موضوع الرضى يبدو كشرطاً مسبقاً لإجراء تحقيق مناسب في الحقوق / الواجبات الأساسيَّة المنبثقة منه.

 

يعرض الشرع الكنسيّ الحالي هذه الحقوق والواجبات في بداية العنوان السابع "الزواج" من الكتاب الرابع في القانون اللاتيني  1055 البند 1، ينص القانون على ما يلي: "إن العـهد الزواجي، الذي يُقيم به الرجل والمرأة بينهما شركة للحياة كلها، والذي يهدف بطبيعته إلى خير الزوجيّن وإنجاب البنين وتربيتهم، قد رفعه السيد المسيح إلى مقام سر مقدس بين المعمّدين". لذا، الحقوق والواجبات الأساسيَّة التي يجب أن يتم تقييمهما بطريقة ملائمة، تضع نفسها في مثل هذا السياق، وهي خير الزوجيّن، الإنجاب وتربية البنين، عدم الانحلال، عدم تعدد الزوجات والأمانة الزوجيّة. كلّ هذه العناصر تشكل، في الوقت نفسه حقوقاً يمكن للزوج أن يطالب بها من الآخر وكواجب نحو الآخر. وهذا الحقّ يفسح المجال لأي من الزوجيّن مطالبة الآخر لكي يكون قادراً على أن يصبح أباً أو أماً.  كما انَّ هذا الحقّ يتضمّن تطابقاً مع الواجب المطالب أن يكون مستعداً لقبول طلب ينبثق من الطرف الآخر، حيث إنّ الزوجيّن وضعا على مستوى متساو في الحقوق والواجبات التي تتعلّق بكلّ ما ينتمي إلى شركة الحياة الزوجيّة: الأمانة المتبادلة؛ اتّحاد المتزوجين اتّحاداً حميماً عفيفاً بطريقة تليق حقاً بالإنسان؛ حقّ وواجب في مشاركة الحياة الزوجيّة في الفرح والآلام، في الصحة والمرض؛ حقّ وواجب في المساندة ماديًّا وأدبيًّا؛ حقّ وواجب نحو الأبناء، برعايتهم وتربيتهم الجسديّة، الدينيّة، الاخلاقيّة والثقافيّة.

 

يسأل علم القانون عما إذا كان من غير الممكن تطبيق هذه العناصر مع أهداف الزواج، ليس تلك الخاصّة بالمؤسسة الزوجيّة، بل نفسها تُترجّم إلى حقوق وواجبات وبالتالي كموضوع أساسي للمتعاقدين؛ وتختتم، بحجة أنه، عند إدخال هذين الهدفين في موضوع الرضى فهما يترجمان إلى واجبات وحقوق محددة. فالعناصر الأساسيَّة للزواج، أي الرضى الزوجيّ، هي هذان الاثنان والوحيدان اللذان يشيران إلى الهدفين نفسهما، ونتيجة لذلك، يمكن ترجمة خير الزوجيّن بالحقّ  (obligatio) أو حياة شراكة بالمفهوم الأوسع، المستوحاة بشكل مثالي من الحب الزوجيّ وترجم قانونيًا إلى حقوق وواجبات في العلاقات الشخصيَّة المناسبة لزوجين ذوي الصلة. وكذلك، الطريقة نفسها، فإنَّ إنجاب البنين وتربيتهما سيترجمان إلى حقّ لفعل زوجي من منظور أيضًا حب زوجي، من دون أن ننسى أن الخصائص الأساسيَّة للزواج هي الوحدة وعدم الانفصام، والتي، إذا لم تظهرا في موضوع الرضى بسبب استبعادها بشكل إيجابي أو بسبب تغيبها عن مفهوم الزواج واستبدالتا بآخرين، فلن نتمكن من تحديد فعل قانوني على أنه زواجي. يُقال إنه من الضروريّ فحص الواجبات الناشئة عن الخصائص الأساسيَّة، وإنَّه إذا تجلت الوحدة في واجب الأمانة (لا تزني)، فإنَّ عدم الانفصام يُظهر أيضاً واجبًا أساسيًا عندما يُنظر إليه ليس من وجهة نظر سلبية، بمعنى أنها خاصيّة موضوعيّة للزواج، ولكن من وجهة نظر إيجابية: من وجهة النظر هذه يمكننا أن نتحدث عن حب دائم مع مراعاة الحقيقة أنَّ المقصد بالحب الزوجيّ delictio. إذن، يتم تعريف العلاقة الزوجيّة، بالحقوق والواجبات المرتبطة: حق -واجب في أفعال الزوجيّة؛ حق-واجب في عدم عرقلة إنجاب الأبناء؛ حق -واجب في إنشاء وصون وتنظيم جماعة الحياة الزوجيّة لأهدافها الموضوعية؛ حق-واجب الأمانة، حق- واجب المساعدة المتبادلة فيما يتعلق بالأفعال والسلوك الضروريّة لتحقيق الغايات الأساسيَّة للزواج؛ الحق -الواجب في قبول البنين وتربيتهم في مجتمع زوجي والحق وواجب تربيتهم. والقانون اللاتيني 1056 يوضح معنى هذه الكلمات "شركة الحياة كلّها"، مع تحديد الخصائص الأساسيَّة لعلاقة الزوجيّة: الوحدة وعدم القابلية للانفصال، أو بمعنى آخر، الحياة كلّها.

 

يؤكّد Navarrete أنّه لتحديد حقوق وواجبات الزواج ينبغي الأخذ بعين الاعتبار في ما يتعلّق بالعلاقة بين الواجبات وانعدام الأهليّة. أولاً يجب التمييز بين واجبات أساسيّة وواجبات غير أساسيّة، ولو كانت ذات أهمية لنجاح الاتّحاد الزوجيّ. ففي حالة الواجبات الأولى يمكن الحديث عن انعدام الأهليّة لاستحالة تحمّلها. ثانياً، يجب تعيين طبيعة كل من الواجبات الأساسيَّة، لأنه عليها يعتمد تحديد إمكانيّة انعدام الأهليّة على تحمّلها، وبسبب اختلاف طبيعة كل من هذه الواجبات ستنبع المستلزمات الشخصيَّة لتحمّلها".

 

7- إثبات النقص الخطير في الحكم الصائب

 

انعدام الأهليّة الرضائيَّة وفقاً للقانون 1095 البند 2، يجب أن يُحكم حصريًا في العلاقة مع لحظة الاعراب عن رضى زوجيّ: والتدقيق ما إذا كان المتعاقد، في ذلك الوقت، كان يعاني من شذوذ نفسي خطير إلى درجة أن صواب حكمه حول حقوق وواجبات الزواج الأساسيَّة كان منقصاً بشكل خطير؟ فإذا ثبتت هذه الواقعة، فأنا لا أرى إمكانية استبعاد احتمال أن يتجاوز هذا الشخص هذه الحالة الشاذة لاحقاً. وبهذه الطريقة، يصل إلى نقطة اكتساب الحكم الصائب الكافي. لذا، نقص خطير في الحكم يجب أن يكون حاضراً في وقت اصدار الرضى الزوجيّ؛ وبطبيعته متجه نحو المستقبل: فهو انعدام الأهليّة الحالية لاتمام الواجبات المستقبلية. والاجتهاد القضائيّ الروتاليّ يدعم الرأي القائل إنَّ انعدام الأهليّة يجب أن يكون دائماً؛ أي إنَّه يجب ألاّ يكون حاضرًا في الواقع في لحظة الاعراب عن الرضى فحسب، بل يجب أن لا يُعطي أي أمل في معالجته بوسائل عادية وقانونية.

 

في الواقع، وفقًا للاجتهاد الروتاليّ، ليس القرار الحرّ "الخاطئ" أو "غير الحكيم" للزوج هو الذي يبطل الرضى الزوجيّ، ما لم يتم البرهان في حالة ملموسة، على وجود نقص خطير في الأهليّة على الحكم الناجم عن إحباطات نفسيّة متعددة. لذلك، نعتبر أنه من الضروريّ إعطاء الأهمية إلى الشخص الذي يعقد زواجه، أي ظروف الأشخاص أثناء لحظة الاحتفال بزواجهم. في الواقع، لا يوجد تصور مسبق لأي نوع من أنواع النقص الخطير للحكم الصائب، والذي يمكن أن يطبق على جميع أنواع الزواجات الأخرى، كما لو كان مثالًا. وعند تحديد معيار الذي يسمح لنا بتحديد انعدام الأهليّة، يجب أن نشير، وفقًا لمؤشرات المشرّع، إلى نقص وظيفي كبير في أهليات طبيعية للعقل أو الإرادة في اتخاذ قرار الزواج. من وجهة نظر التقييم القضائيّ، حول الخطورة المطلوبة يجب أن تتّضح من وجهة النظر الذاتيّة (أي خطورة الحالة السريرية للشخص، بما في ذلك التأثير الذي يحدد ظروفاً معينة يمكن أن يكون موضوعاً على أهليّة الشخص التمييزية) ومن وجهة النظر الموضوعية (بخصوص طبيعة وأهمية الحقوق والواجبات الأساسيَّة للزواج). و"لإثبات بطلان الزواج بموجب البند 2 من القانون 1095، يجب إثبات شيئين قبل كل شيء: أ) خطورة النقص في الحكم الصائب؛ ب) جوهر الالتزامات الزوجيّة إعاقة هذا الشرط".

 

وليس الموضوع المباشر للبيّنة الشذوذ في العمليّات الإدراكية للمتعاقد، ولكن أعراض نقص الحكم الصائب، الذي يبقى مفهوما قانونيا، الذي لا يستند إلى الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة ولكن حول الموضوع الذي يغطي: حقوق وواجبات الزواج الأساسيَّة.

 

ليس من السهل أن نبرهن وجود نقص خطير في الحكم، غالباً ما يكون سببه عابراً، ولا يمكن تشخيصه مباشرةً في أثناء إجراءات المحكمة. وليس من السهل أن نبرهن وجود حريَّة باطنيّة كافية. مع ذلك لتقييم خطورة النقص، ينبغي التوجّه إلى الخبراء النفسانيين وأطبّاء الأمراض النفسيّة، استناداً إلى القانون اللاتيني 1547؛ لكن هذا لا يعني أنّ الاجتهاد القانونيّ خاضع لهم، بل على العكس من ذلك، تبقى العلوم الإنسانيّة في خدمة القضاة الكنسيّين. وخبرة الخبراء ستكون لإثبات وجود حالات مرضية معينة أو حالات معينة ذات طبيعة نفسيّة أثرت سلبًا في الاستقلالية الطبيعية للإرادة، مما يجعل الشخص غير قادر على مقاومة النبضات الداخليَّة والحفاظ على حريَّة كافية لتقرير المصير. في الواقع، تنص المادة 209 من الارشاد Dignitas Connubii على أنه في الحالات المتعلقة بالقانون 1095، لا يتم إغفال التحقيق في ما يتعلق بالاضطراب النفسيّ، "ما مدى خطورته ومتى ولأي سبب وفي أي ظروف نشأ وتجلى". وعلى وجه الخصوص في ما يتعلق بالنقص الخطير في الحكم، فإن الارشاد يعلن طرح سؤال الخبير "ما هو التأثير الذي انتجته الحالة الشاذة على أهليّة التمييز والاختيار في اتخاذ القرارات المهمة، وعلى وجه الخصوص، في حريَّة اختيار حالة الحياة".

 

ينبغي اعطاء الانتباه الخاص إلى ظروف محددة تخضع للحكم من جميع جوانبها: "بعض طرق الحياة يمكن اعتباره مخالفة لإثبات نقص في الحكم الصائب، عندما تثبت الأسباب الاستخدام الكامل لقدرات الحكم. هكذا على سبيل المثال: تحمّل مسؤوليات الزواج في السنوات الأولى من الحياة الزوجيّة هو اختبار يتعارض مع النقص في الحكم، لأنَّ لإتمام الالتزامات الزوجيّة يتطلب التزاماً وافراً للحكم الصائب". وليس كلّ ضغط وكلّ فشل، أي ليس كل نقص في حريَّة الشخص يمكن أن يُعدّ برهاناً ثابتاً وسبباً لانعدام الأهليّة، لكن تلك التي تتضّح في نقص جوهريّ للإدراك والإرادة المرتبطة بسلوك ملزم ومحدّد: فالفشل والصعوبات يمكنهما أن يكونا نتيجة عادات سيّئة، أو حتّى إرادة سيّئة. والصعوبات والصراعات داخل الزواج وفي ما يتعلّق بالزواج يعود سببها جزئيّاً إلى ظروف حياتيّة موضوعيّة، وجزئيّاً إلى أخطاء ذاتية في التقويم، وكثيراً ما يكون سببها أيضاً تصرّفات هي نتيجة الخطيئة. لذلك، المشرّع لا يتوقّف عند بعض الظواهر الخارجيّة للتصرّف، بأن تؤثّر جوهريًّا في صحة الزواج، لكن يطالب بإيجاد أسباب على صعيد البنيّة الشخصيَّة وما لها من علاقة مع بقيّة التصرّفات. "فمن الضروريّ اللجوء إلى التدقيق بطريقة التصرف الشخص واكتشاف من منطلق مسار حياته وسلوكياته، أسباب الاضطراب التي تؤدي إلى فقدان السيطرة على قدراته. لكن بالتأكيد، إذا لم تكن هناك أسباب للاضطراب، فلا يمكننا، بداهة، تشخيص نقص خطير في الحكم الصائب". وكي نتأكّد من وجود حالة انعدام الأهليّة القانونيّة على عقد الزواج –مثلا: وجود حالة ميل الشخص إلى عدم الأمانة الزوجيّة بشكل متكرّر ويصنّفها الخبير كحالة اضطراب جنسيّ – ينبغي التوضيح مع التحليل الدقيق والكامل أنّ الشخص لا يمكنه أن يكون إلا بهذه الحالة. والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن القاضي والقانوني، في لحظة الحكم على وجود انعدام الأهليّة محتمل، يجب أن يميز بين الاستحالة الحقيقية والصعوبات في تحمل الالتزامات أو الاستمرار في الحياة الزوجيّة: "بالنسبة للقانوني يجب أن يظل المبدأ واضحاً أنَّ انعدام الأهليّة فقط، وليس صعوبة الاعراب عن الرضى وتحقيق شركة حياة وحب حقيقية، يجعل الزواج باطلاً. علاوة على ذلك، فإن فشل الاتحاد الزوجيّ، ليس في حد ذاته، اختبارًا لإظهار انعدام أهليّة المتعاقدين، الذين ربما أهملوا أو أساءوا استخدام الوسائل الطبيعية وغير الطبيعية المتاحة لهم، أو إنَّهم لم يقبلوا حدوداً لا مفر منها وأعباء الحياة الزوجيّة، سواء بالنسبة للكتل ذات الطبيعة اللاواعية أم للأمراض النفسيّة البسيطة التي لا تؤثر في الحريَّة الإنسانيّة الجوهرية، أو أخيرًا بسبب قصور أخلاقية ". يجب أن نتذكر أن الأهليّة لا ينبغي أن تشير إلى زواج مثالي، بل إلى زواج صحيح، أي إلى إمكانية إقامة علاقة يمكن أن يطلق عليها زوجية. فلكي يعلن بطلان الزواج، يجب أن يكون متعلّقاً بسبب ذي طابع نفسيّ، يمنع معرفة موضوع الوثاق الزوجيّ وتقييمه، أو يعرقل الأهليّة النقديّة أو الاختيار الحرّ، أو يؤدّي إلى انعدام الأهليّة على تحمّل الواجبات الزوجيّة الجوهريّة. وجود عاهة نفسيّة خطيرة متكونة ومتأصلة في الإنسان قبل الزواج ينتج معها استحالة القيام بالواجبات الزوجيّة التي تتطلبها مؤسّسة الزواج. فالمبدأ القائل "لا أحد يستطيع الارتباط بالاستحالة، ولا أحد يستطيع أن يعطي إلى شخص آخر حقّ الاستحالة". لذلك، نجد في الاجتهاد القضائيّ الروتاليّ العديد من القرارات التي يتم فيها التأكيد على أن سبب انعدام الأهليّة يجب أن يكون قوي يمنع الرضى الزوجيّ نفسه، سواء بسبب استحالة القيام بفعل شخصيّ وحر، ويمنع تحمل الالتزامات الأساسيَّة التي تنجم عنه. من بين العناصر التي أشار إليها الاجتهاد القضائيّ: يجب أن يجعل النقص غير قادر على الاختيار الحر أو أن يتحمل الالتزامات المستمدة من الخيور الزواج الثلاثة؛ لا تكفي لإعلان انعدام الأهليّة عيوب طفيفة أو سوء إرادة أو اضطرابات في الشخصيَّة التي تجعل العلاقات بين الأشخاص أكثر صعوبة، لأنه على الأقل الاستحالة أخلاقية ضروريّة؛ والسبب انعدام الأهليّة هو دائما سبب خطير؛ وأن يؤخذ في الاعتبار من منطلق الموضوع، أي إنَّه يجب أن يتعلق بالحقوق والواجبات الزوجيّة الأساسيَّة.

 

يعلن حكم Funghini، في هذا الصدد في 19 أيار1993: "عندما يتم اعلان بطلان الزواج بسبب نقص في الحكم الصائب، على القاضي حل مسألة المعرفة إذا كان المتعاقد قادرًا على الاعراب عن رضى صحيح، وليس تعهد الاحتفال بزواجه بحكمة وبطريقة منطقية. وكي يكون الرضى صحيحاً، من الضروريّ وجود النضج النفسيّ، كي يكون الزواج مثمراً للأزواج والأطفال والمجتمع".

 

ليس من قبيل المصادفة أن الأحكام الروتاليّة ركزت بمهارة على "شروط" من خلالها يستطيع القاضي تقييم ما إذا كان هناك نقص في الحكم الصائب الكافي. إنَّها توفر ملخصات مفيدة. واحد للجميع: "1. إمَّا إنَّه يفتقر إلى معرفة فكريّة كافية حول موضوع الرضى الذي يعرب عنه في الزواج الذي هو على وشك الاحتفال به؛ 2. أو إنَّ المتعاقد لم يصل بعد إلى هذا التقدير الكافي الذي يتناسب مع فعل الزواج؛ 3. أو أخيرًا، إذا وجد لدى أحد الأطراف المتعاقدة نقص في الحريَّة الداخليَّة، أي الأهليّة على التداول مع تقدير كاف للظروف واستقلالية الإرادة من أي دافع داخلي".

 

الخاتمة

 

ليس هناك أدنى شك في تزايد الاهتمام، في السنوات الأخيرة، بشأن مسألة معقدة تتعلّق بقضايا بطلان وثاق الزواج لأسباب منصوصة عليها في القانون اللاتيني 1095 والقانون الشرقي 818 والتي أصبحت أكثر استعمالاً من قبل الأشخاص الذين يرغبون في الاعتراف ببطلان زواجهم. وهذه قد تخلق سلسلة من الصعوبات بالنسبة للرعاة وخصوصاً في مرحلة الإعداد للزواج، وأيضاً للقضاة في مجال القضاء عندما يتعرّضون لمثل هذه القضايا. وتعتبر معالجة هذه الأسباب من ناحية علم القانون الكنسيّ والاجتهاد القضائيّ الكنسيّ، صعبة للغاية، ليس بسبب الغموض المتأصل في الأعراض النفسيّة فقط، لكن لأن فئات علم الأمراض والآثار التشخيصية تختلف تبعا لمدارس الطب النفسيّ المختلفة. علاوة على ذلك حتى التصنيف التشخيصي الآمن لا يسمح بتصنيف الحالة المحددة تلقائيًا في إحدى الحالات الثلاث المنصوص عليها في القانون 1095.

 

لهذا السبب، يتطلب من القضاة الكنسيّين وجميع العاملين في المحاكم الكنسيّة درجة عالية من الثقافة العلميَّة القانونيَّة. وأودّ، على الأقل، أن ألفت الانتباه إلى احتمال أنه، وراء التفسير الذي يقدمه العديد من القضاة والمحامين الكنسيّين لهذا القانون، لا يوجد قدر كبير من التقدير للشخص الإنسانيّ بقدر وجود الشك في ما يتعلق بقدرة الإنسان نفسه على اتخاذ اختيار حر ومسؤول لشيء طبيعي مثل الزواج، إضافة إلى تشاؤم حول قدرته على البقاء وفيَّا لالتزاماته. وهناك لدى بعض القضاة الكنسيّين والمحامين انطباع أن عدم الأهليّة الرضائيَّة، بحسب مضمون القانون اللاتيني 1095، يعتبر سبباً "سهلًا" للحصول على بطلان الزواج مثل الطلاق لدى الكنائس غير الكاثوليكية. وهذا ليس صحيحاً لأنه لا يتوافق مع الحقيقة والعدالة اللتين تعلمهما الكنيسة الكاثوليكية. والسؤال الذي أطرحه، بالنظر إلى الطريقة التي يطبقها العديد من محاكمنا الكنسيّة المحليّة، إذا فهمت المحاكم فكرة انعدام الأهليّة الرضائيَّة المشار إليه في القانون 1095. وهنا نتذكر ما قاله البابا القديس يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء المحكمة الروتا الرومانا في العام 1986: "مما لا شك فيه أن تطبيق الشرع الجديد قد يتعرض لخطر التفسيرات غير الدقيقة أو غير المتجانسة، لا سيما في حالة الاضطرابات النفسيّة  التي تبطل الرضى الزوجيّة (ق. 1095)". وفي العام 1987، في خطابه الذي ألقاه أمام الروتا، تحدث عن عمل القضاة الكنسيّين، لا سيما في القضايا المتعلقة بانعدام الأهليّة وسوء تطبيقه، قال إنَّ "مهمّة القاضي... هي خدمة المحبّة للجماعة الكنسيّة، المصونة من الشكّ في رؤية ملموسة بتدمير قيمة الزواج المسيحيّ لسبب تزايد إعلانات بطلان الزواج بشكل مبالغ في وأتوماتيكي، في حال فشل الزواج، بذريعة عدم النضج أو الضعف النفسيّ لدى المتعاقدين". وفي خطابه أمام أعضاء المحكمة الروتا الرومانيّة عام 1997، حذّر البابا يوحنا بولس الثاني من الرؤية المثالية للزواج، والتي ينبغي  أن يسعى إليها جميع الزواجات، في مجال جوهر الزواج، وبالتالي الحد الأدنى من المتطلبات حتى نتمكن من التحدث عن الأهليّة. يؤكد البابا رؤية واقعية للإنسان؛ فيما يلي كلماته: "علاوة على ذلك، يجب التمييز بين الأهليّة على الزواج والظروف المثالية لإقامة علاقة زوجية مثالية. لا توجد معادلة بين الزواج المثالي والزواج الصحيح. الكمال، عادة، هو نتيجة، مع ذلك لا يمكن بلوغه أبداً حتى بعد سنوات طويلة من الالتزام والجهود المشتركة. لدرجة أنه قد ذكر دائمًا أن أحد أهداف الزواج هو الكمال المتبادل بين الزوجيّن. ويترتب على ذلك أنَّ رؤية نظرية للزواج وإيجابية للغاية قد تنتج انقطاعاً بين ما ينبغي أن يكون عليه الزواج، بكل غناه وإمكانياته، وما هو عليه الإنسان بحدوده. من هذا المنظور، سيكون الزواج واقعة جميلة بحيث سيكون القليلون قادرين على أخذه أو العيش فيه وفقًا لاحتياجاته، مع قدر كافٍ من الحريَّة. يقول البابا في خطابه أمام أعضاء محكمة الروتا الرومانا عام 1997: "الجانب الشخصاني للزواج المسيحي يقتضي رؤية متكاملة عن الإنسان الذي على ضوء الإيمان، يتخذ ويؤكّد ما نستطيع معرفته بقوانا الطبيعية. إنها متميّزة من واقعية سليمة في مفهوم حريَّة الشخص، وضعت بين حدود وشروط الطبيعة الإنسانيّة المتضرّرة من الخطيئة وفي هذه الحالة تكون النعمة الإلهية ناقصة. في هذا المنظور، خاصة الانثروبولوجية المسيحية، يدخل أيضاً الوعي حول ضرورة التضحية، تقبل الآلام والصراع كحقيقة لامناص منها لكي نكون أمناء على واجباتنا. فمن الخطأ تماماً أثناء معالجة قضايا زوجيّة، استخدام مفهوم أكثر "مثالياً" إذا صح القول حول العلاقة بين الزوجيّن، والتي بإمكانها تفسير الصعوبة العادية كانعدام الأهليّة الأصلية في تحمّل أعباء الزواج التي يمكن ملاحظتها في سير الزوجيّن نحو الكمالية العاطفيّة المليئة والمتبادلة. و"هذه الواقعة الأساسيَّة هي إمكانية مفتوحة من حيث المبدأ لكل رجل وكل امرأة؛ بل، إنها تمثل طريق دعوة حقيقية للغالبية العظمى من البشر. ويترتب على ذلك أنه عند تقييم الأهليّة أو فعل الرضى المطلوب للاحتفال بالزواج صحيح، لا يمكن المطالبة بما هو غير ممكن طلبه من أغلبية الأشخاص. إنها ليست مسألة بالتبسيط  البراغماتي أو المريح، بل هي رؤية واقعية للإنسان، واقعة دائمة في حالة النمو، مدعوة إلى اتخاذ خيارات مسؤولة مع قوتها الأولية، وإثرائها أكثر وأكثر بالتزامها وبمعونة النعمة". لهذا السبب، يمكننا التأكيد على أن السعادة ليست بالضرورة علامة على الأهليّة لأن الفشل ليس نتيجة لعدم الأهليّة. والسعادة ليست حقيقة ثابتة يتم الوصول إليها ببساطة لأن الشخصيّن اللذين انضما إلى الزواج كانا متوافقين ومتكاملين من جميع النواحي وفي جميع مجالات شخصيّاتهم. السعادة هي حقيقة ديناميكية، في البناء المستمر، والذي يعتمد على العمل الملموس للزوجين بعد الاحتفال بالزواج.

 

من هذا المنطلق، القواعد القانونية المتعلقة بالقبول في الزواج وممارسته الرعوية ليست مستوحاة من الحب المجرد نحو الحقيقة المثالية عن الزواج، بل الحب الواقعي. والرحمة التي تترجم إلى تدابير وممارسات احترازية لحماية الخير الذي يمثله الزواج للناس والمجتمع؛ تدفع باتجاه إرساء أسس راسخة للحياة الزوجيّة، وحماية الأزواج من الأزمات الشخصيَّة والاجتماعية التي غالباً ما تهدد الوحدة الزوجيّة والأسرية. هذا النهج الوقائي ذو أهمية قصوى، أيضا بالمعنى المنطقي والوجودي، والأولوية التي يتمتع بها على وسائل رعوية وقضائية أخرى التي تهدف إلى معالجة الواقع المحزن للزواج الفاشل، بدلا من منع حدوث ذلك. التوجه الرعوي من هذا النوع هو أيضا ضروريّ للخروج من "الحلقة المفرغة" التي، وفق البابا بنديكتوس السادس عشر، "غالبا ما يحدث بين القبول المحسوم للزواج، من دون استعداد كاف وفحص جاد للمتطلبات المطلوبة للاحتفال به، وإعلان قضائي في بعض الأحيان سهل، ولكن علامة معاكسة، حيث يعتبر الزواج نفسه باطلا فقط على أساس التأكّد من فشله".

 

الاستنتاج الثاني وهو رعويًّ: يجب أن يكون إعداد الزواج تنشئة شخصيّة تساعد الشباب على النضج الإنسانيّ أيضًا وترافق مسارهم الذي يجب أن يبدأ من التوبة والتضحيات، الصليب والقيامة. ويجب دعم فعل القبول لزوج وهب ذاته حتى بوجود تلك الحدود التي لا مفر منها في حالة الإنسان والتي يمكن أن تصبح مناسبات لطلب النعمة. أمام حالة زوجين يواجهان صعوبات، ليس من السهل اقتراح حلول مبسطة؛ من الناحية الروحية (أن تصلوا فقط) أو من الناحية القانونية (نحاول الحصول على البطلان!). إذا لم تكن هناك علامات أمراض نفسيّة خطيرة، فينبغي المساعدة على تجديد اختياراتنا الأولية باستخدام جميع الوسائل الروحية المتاحة (الصلاة، الأسرار، أعمال المحبة، الالتزام الكنسيّ، وما إلى ذلك) وكذلك وسائل العلوم الإنسانيّة (المستشارين، والمعالجين الزوجيّن، وما إلى ذلك). ومن غير المجدي خداع الزوجيّن، بمنحهما البطلان المشكوك فيه، ومن ثم ربما قبولهما بزواج جديد: الزواج الجديد لن يحل في الواقع المشاكل النفسيّة، بل سيواجه الشخص عدم النضج نفسه والصعوبة في زواج جديد. فإذا أمنَّا بكرامة سرّ الزواج، فلا يمكن أن نتعامل مع الزواج بطريقة أكثر خفة: إن التنشئة المسبقة والدعم الدائم للزوجين هما أفضل علاج وقائي للصعوبات الأخلاقية أو النفسيّة.

 

ناشد البابا فرنسيس في رسالته العامَّة "فرح الحب": "أدعو الجماعات المسيحية إلى الاعتراف بأن مرافقة مسيرة الحب بين المخطوبَين تشكلّ أيضًا خيرًا لها... توجد طرق صحيحة مختلفة لتنظيم التحضير المباشر للزواج، وكلّ كنيسة محلّية ستميّز ما هو الأفضل لها، مُؤَمِّنَة تنشئة ملاءمة لا تُبعِدُ، في الوقت عينه، الشبيبة عن سرّ الزواج. لا يتعلق الأمر بتلقينهم التعليم المسيحي بأكمله، أو اغراقهم بالكثير من المواضيع. ويصُحُّ، في الواقع، في هذه الحالة أيضًا "أن ما يُشبعُ الروح ليس المعرفة الوافرة إنما إحساس وتذوّق الأشياء باطنيًّا". فالنوعيّة أهم من الكمّية، ومن الضروريّ إعطاء الأولوية -بالتزامن مع إعلان البشارة- إلى تلك المحتويات التي تساعدهم، إن تمّ نقلها بطريقة جذّابة وودّية، على التزام مسيرة حياة بأسرها "بروح شجاع وسخي." يتعلق الأمر بنوع من "التنشئة" على سر الزواج يوفر لهم العناصر اللازمة لقبوله بأفضل الاستعدادات وبدء الحياة العائلية ببعض الحزم"(عدد 240-241).