موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٨ مايو / أيار ٢٠٢٠

بركة الطريق (على طريق عمّاوس)

بقلم :
الأخت رانيا خوري - الأردن
أخذ الذهن يتفتح رويداً رويداً، أما القلب فقد بقي صامتاً ذاهلاً

أخذ الذهن يتفتح رويداً رويداً، أما القلب فقد بقي صامتاً ذاهلاً

 

كان القلب ولا يزال مثقلاً بحزن تلك الجمعة الأليمة التي فيها حتى ظواهر الطبيعة بأسرها أعلنت الحداد بطريقتها. أظلمت الدنيا، توارت الشمس وقت الظهر، حل الديجور، عصفت الريح وتزلزلت الأرض حتى حجاب المقدس انشق من أعلاه إلى أسفله. وقد أطبقت الظلمة على قلبي كذلك واكتأبت.

 

كنت أنا أيضاً أتبع المعلم، لم أرَ حباً كحبه، لم أشعر بسلطان كسلطانه، ولم أتذوق وداعة كوداعته.

 

حضوره أسرني، كلماته استنطقت المعنى في أيامي، لمساته الحنونة الشافية على المرضى والمتعبين شفت قسوة قلبي أيضاً!

 

لكن، ما حدث يهزّ الكيان، أمر لا يقبله المنطق، فقد دخل المعلم دخولاً ملكياً يوم الأحد: أصوات تهليل وأغصان تُرفع مع الهتافات ثم بعد أيام قبضوا عليه وعاملوه كأسوأ المجرمين. وذات الجموع الذي هتفت له "هوشعنا" صرخت يوم الجمعة "اصلبه" وطالبت باعدامه.

 

لم تبقَ مصيبة ولا ألم لم يختبره المعلم الذي أحببت، لا ألم جسدي وحسب بل خزي وذل وخذلان أيضاً.

 

لم أعتقد في يوم من الأيام أن كل هذه الآلام قد يحتملها انسان.

 

أحدثت تلك الليلة شرخاً في نفسي وإلى الآن لا أستطيع أن أستجمع قواي... مضت أيضاً راحة السبت وقلبي لم يذق الراحة.

 

ها هو الأحد يُطل بفجر جديد، كنت أتساءل كيف للشمس أن تشرق بهيجة بجرأة كهذه بعدما شهدت هي أيضاً الظلم الذي أُلحق بالمعلم؟

 

أشعر بأن كياني متشرذم، ليت كل ما شهدته كان كابوسا عابراً. ولكن ولكي تزداد الحيرة أكثر أتت النساء في هذا الصباح مبتهجات! سمعتهن يؤكدن للتلاميذ أن الرب قد قام!

 

ألم، حزن، أكتئاب، ثم حيرة وأخبار لا تُعقل!

 

ولئلا أفقد عقلي قررت أن أسير هكذا على غير هدى إلى حيث تقودني خطواتي. كم أود أن أُسكت ذاك الضجيج الذي يعصف بفكري وذاكرتي وعقلي.

 

خرجت إذن من المدينة المقدسة أسير على وقع أفكاري ببطء وحزن تارة، ثم بعجلة وقلق تارة أخرى، حتى أبصرت صديقين أعرفهما جيداً أحدهما قلوبا، يسيران بتثاقل نحو قريتهما، جزمت أنهما يشعران بذات الأسى والحيرة اللتين أشعر بهما.

 

ثم أبصرت فجأة مسافرا ثالثا، لا أعرف من أين وكيف أتى، مسافر بهيئة غريبة، كان قلبي يؤكد لي بأني أعرفه جيداً، قلبّت صفحات ذكرياتي فذهلت أكثر! كان يُشبه إلى حد بعيد معلمي الحبيب فقلت "يخلق من الشبه أربعين!"

 

سرت وراءهم، لا أعرف ما الذي يقودني أهو ذهولي، أم حشريتي، أم وازع داخلي جذبني؟

 

سرت وراءهم وأصغيت إلى أحاديثهم.

 

بكلمات ذاك الغريب نبرات حنان جعلت صديقيّ يفتحان قلبيهما للغريب ويخبرانه بهواجسهما... يا إلهي إن هواجسهم وحيرتهم واكتئابهم تُمثّل حالي، فاقتربت أكثر واستئذنتهما والغريب بأن أرافقهم كرفيق صامت عساي أجد معهم معنى أو جواب...

 

أخذ الغريب يتنقل برشاقة بين كتب الأنبياء والمزامير يشرح ويستشهد بما ورد فيهم عن المسيح المنتظر.... أصبحت الطريق أقصر بصحبة ذاك الغريب، فلم نشعر بالوقت وكأنها لحظات سُرقت من الأبدية!

 

بينما هو يشرح أخذت مشاهد الألم والصلب تتجدد في ذاكرتي. لقد كان ذلك كما ورد في الكتب.

 

إذن كان على المسيح حقاً أن يتألم؟!

 

أخذ الذهن يتفتح رويداً رويداً، أما القلب فقد بقي صامتاً ذاهلاً.

 

كان لكلماته مفعول النور الدافئ الذي تنهزم من أمامه عتمة الشكوك وظلمة الحزن التي تُخدّر القلب.

 

كان لكلماته نكهة سلام تُطمئن وتُحرر اليقين من سجن الأحزان.

 

لقد فتح أذهاننا لنفهم الكتب: أجل هو عبد الله المتألم، هو الحمل الوديع الذي لم يفتح فاه أمام الذين يجزونه.

 

"هو الذي وُضع عليه أثم كلنا والذي بشدخه شُفينا"

 

تجددت مشاهد الآلام والصلب، لكنها كانت تمر بخيالي بإضاءة جديدة وقدسية غريبة؛ رأيت المعلم المطعون على الصليب حملٌ ذبيح ودمه البريء يُرش علينا بطقوس مقدسة كما فعل يوماً موسى الذي أخذ دم الذبائح ورشها على الشعب ليطهرهم ويُقدسهم.

 

رأيته الكاهن  والذبيحة بذات الوقت. أجل هو الوسيط لعهد جديد ودمه المسفوك لا يصرخ انتقاماً بل غفراناً.

 

أكان حقاً هو الحمل الحقيقي لهذا الفصح؟ هل كان لا بد لهذا كله أن يتم لُيمكننا من العبور من عهد قديم إلى عهد جديد ملؤه المحبة والغفران؟

 

وحدث في خضم ذهولي وتسارع الصور في مخيلتي أن قد وصلنا دون أن أشعر إلى عماوس. ها هو بيت قلوبا يلوح بالأفق. ابتسم الغريب ابتسامة سخية، وكانت قدماه تسيران بخطى أشعرتنا بأنه يهم بالذهاب إلى "أبعد"!

 

كان الوقت مغيب والمغيب يُشعل في القلب طقوس الحنين، بدا الوداع في تلك اللحظة مكلفاً. تعلقت به عيوننا وأبت قلوبنا الحائرة أن تودعه.

 

كيف يا ترى تعلقت قلوبنا بهذه السرعة بمسافر غريب؟ لقد حل ضيفاً لطيفاً في القلوب واستقر بها بلا استئذان، فما كان من صديقاي إلا أن يمسكا بهدب ردائه مُلحين: "أمكث معنا فقد حان المساء ومال النهار" (لوقا 24: 29) فدخل ليمكث مع صديقاي. ومن باب اللباقة دعاني أنا أيضاً للبقاء معهم فتهلل قلبي.

 

دخلنا البيت، أُضيء السراج، قُمنا بطقوس التطهير الخارجية وغسلنا أرجلنا المتعبة من أثر سير حثيث.

 

أُعدت المائدة بسخاء وجلسنا للطعام، فما كان من الغريب إلا أن يتناول الخبز بيديه ويبارك، كان نوره أسطع من السراج الموقد؛ تسمرت عيوننا به كفراشات هائمة بنور دافئ... كسر الخبز فاختبرنا بتلك اللحظة زلزالاً روحياً زعزع أركان الشكوك وكسّر كل الحواجز المسيجة حول القلب. أنار البيت وأزيل الحجاب! أنطلقت من أفواهنا شهقة دهشة مشبعة بالحب. كسر الخبز بيديه المثقوبتين ومن نار حبه اشتعلت فجأة قلوبنا النائمة وبُعثت من تحت رماد الأحزان، عرفناه أخيراً لكنه غاب، لا أجد كلمة تُعبر عن لحظة الكشف تلك! لا لم تكن لحظة عابرة ولا ومضة سريعة وحسب بل كانت لحظة نعمة جعلتنا نتذوق عربون الأبدية! وحدك يا ابن الله قادر حقاً أن تُهدي اليقين بلحظة نعمة!

 

نعم لقد أتى وأضاء بوهج حبه قلوبنا ثم اختفى. إلى أين يا معلم صرخت قلوبنا؟ ليتك تمكث معنا، لكنه غاب كما أتى! قُلنا لا بد أن المعلم ذهب ليوقظ بحبه باقي القلوب. تساءلنا "ألم تكن قلوبنا متقدة بصدرنا حين كان يُحدثنا في الطريق؟" (لوقا 24: 32)  كيف ضلت حواسنا عن معرفته؟

 

والآن ماذا نفعل؟ لا يمكن لهذه الفرحة والكشف العظيم أن يبقيا في داخل دائرتنا الضيقة أنطلقنا من جديد في طريق العودة للمدينة المقدسة لنُبشر الباقين وأخذنا نرنم في الطريق "ما أجمل على الجبال أقدام المُبشرين!" قام الرب حقاً قام، لقد رأيناه وعرفناه عند كسر الخبز.

 

على فكرة لم تكن تلك المرة الوحيدة التي تراءى لنا بها، فقد تراءى لنا ولآخرين مرات عديدة، ثم رأيناه صاعداً إلى السماء بالمجد ووعد بأنه سيبقى معنا حتى انقضاء الدهر بل وأفاض علينا روحه القدوس الذي علمنا وأفهمنا كل ما كان فوق طاقتنا.

 

لكن بعد ذلك اللقاء تعلمت أن للطريق بركة خاصة وبأن المعلم لا يزال يتراءى لنا من خلال العديد من الأشخاص والظروف لذا أحاول في كل صباح أن أغسل عيني وأذني بكلمته المقدسة عساي أراه وأتحسسه في كل ظرف ومكان، فما الحياة الا فرصة ونعمة. هي فرصة البحث وتحسس الله لعلي أهتدي اليه في كل لحظة فقد "خلق الناس وجعل لسكناهم أزمنة موقوتة وأمكنة محدودة، ليبحثوا عن الله لعلهم يتحسسونه ويهتدون إليه" (أعمال 17:  62-27) تبدو وكأنها لعبة صعبة، الفوز فيها سيكون من نصيب صاحب الحواس الروحية المرهفة المدرّبة تلك التي تستطيع أن تستنشق عبير الله الحاضر في كل مكان، بالاضافة إلى حاسة اصغاء مرهف تميّز همساته المختبئة بين ضجيج العالم. فهبنا يا رب في هذا الزمن الموقوت والمكان المحدود أن نتحسسك ونهتدي اليك يا من أنت "غير بعيد عن كل منا ففيك حياتنا وحركتنا وكياننا" (أعمال 17: 27-28) هبنا بركة الطريق حتى في نهاية لعبة الحياة حين تُفك عُصابة المحدودية عن عيوننا نراك وجهاً لوجه في الأبدية.